«الجوهرة السوداء» رحل منسيا وعاد سينمائيا.. لينعش ذاكرة المغاربة

المخرج إدريس المريني قدم شريطا عن اللاعب الأسطورة «العربي بن مبارك»

العربي بن مبارك يجتر ذكرياته الكروية في مقهى منزو في أحد أحياء الدار البيضاء الشعبية
TT

عاش «العربي بن مبارك» نجومية لم يتسن لأحد من المغاربة أن يعرفها قبله أو بعده. هتف باسمه الآلاف في فرنسا وإسبانيا، وفي سبتمبر (أيلول) عام 1992 أغمض الموت عينيه. كان رحيله تراجيديا، في حياة أيضا فيها الكثير من الثقوب والمحطات المؤلمة. رحل «العربي» في شقة متواضعة في بناية أكثر تواضعا في حي «بن جدية» الشعبي في الدار البيضاء. وبقى هناك أربعة أيام، لا أحد يعرف أن الرجل قد فارق دنيا الناس هذه. التقطت صحيفة «لكيب» الفرنسية هذا الحدث الدرامي المؤثر، وكتبت عنوانا يقول «الجوهرة السوداء رحل منسيا وسط المغاربة».

حمل «العربي بن مبارك» لقب «الجوهرة السوداء» قبل البرازيلي بيليه بفترة طويلة، إذ عرفته ميادين كرة القدم الفرنسية في ثلاثينات القرن الماضي مهاجما مبدعا يعرف المسالك نحو هز الشباك. الكرة بين رجليه «لعبة» يفعل بها ما يشاء، يركض بها، يراوغ، يرفعها إلى السماء، يمررها كيف يشاء ومتى يشاء، يمتع بها نفسه قبل أن يمتع الآخرين.

كاد المغاربة ينسون هذا اللاعب الأسطورة. بل لعلهم نسوا بالفعل هذا «التراث» الكروي. لكن المخرج إدريس المريني، عاد لينعش ذاكرتهم. قال المريني قبل عرض شريطه السينمائي أمام نخبة في مسرح محمد الخامس بالرباط «هذا العمل يحتفي بالذاكرة، ليس عملا استثنائيا بل عملا بسيطا لكنه يحمل رسالة، إنه رسالة ضد النسيان واللامبالاة». وكان لافتا للانتباه أن يحضر الشريط الجنرال الكتوم حسني بن سليمان، قائد الدرك الملكي، ربما راوده الحنين إلى أيامه في الملاعب، حين كان حارسا لمرمى فريق الجيش الملكي. أشرف على حفل حمل دلالات كثيرة، حسن العمراني، وهو محافظ الرباط، لكن المريني قدمه بصفته الأخرى. قال إنه مثقف يعشق الفن.

يعتمد الشريط السينمائي، الذي سينزل القاعات هذا الأسبوع، على تقنية «فلاش باك»، وسرد أقرب ما يكون إلى السرد الروائي. مع اللقطة الأولى، احتفى المريني بالذاكرة الصحافية، حيث يبدأ الفيلم مع صحافي فرنسي من الذين واكبوا «العربي» محترفا في فريق «أولمبيك مارسيليا». صحافي يكتب جذاذات عن تاريخ «الجوهرة السوداء» وإلى جانبه شمعة تحترق، ومنفضة عليها سيجار، يعود إليها الصحافي بين الفينة والأخرى. ينتهي الشريط باللقطة نفسها، لنجد أن الشمعة قد احترقت والمنفضة امتلأت رمادا. هو الرماد نفسه الذي كان يعالج به «العربي» جرحا في رجله، في أواخر أيامه رافضا مراجعة الأطباء. كان الصحافي قد كتب السطر الأخير في جذاذاته. كانت المغنية الفرنسية «أديث بياف» تغرد بأغنية حزينة موجعة. ما بين لقطة البداية والنهاية، سنتابع حياة «العربي بن مبارك»، نتعرف على لمحات من سنوات صاخبة عاشها بين الدار البيضاء وباريس ومدريد خلال الثلاثينات والأربعينات وحتى الخمسينات. استعان المريني بثلاثة أشخاص، ليسوا من الممثلين المحترفين، لأداء دور «العربي» الطفل، ولاعب الكرة الشاب، والرجل المنزوي في أحياء الدار البيضاء، يتذكره الناس تاريخا، لكن لا أحد يعرف حاضره. في الطفولة، نجد أنفسنا مع «طفل شقي»، عشقه لكرة القدم وسط الأزقة المتربة في أحياء المدينة، يجعله ينال العقوبة تلو الأخرى من شقيقه الأكبر، لأنه لم يكن يكترث لدروسه. بدت حياته في تلك الفترة طفولة ممزقة.

الدروس كانت ستجعل من «العربي» موظفا صغيرا في إحدى الإدارات في بلد يحتله الفرنسيون، أما الكرة فإنها حلقت به بعيدا، وجعلته يرتاد آفاقا لم يكن يحلم بها أقرانه في الأزقة المتربة. هي الكرة التي أتاحت له أن يعبر البحر إلى أوروبا، حيث كانت الحياة لها مذاق آخر، هو قطعا ليس طعمها في أحياء «كازا» الشعبية. هي الكرة التي جمع منه مالا. هي الكرة التي جعلتها يدخل عالم باريس المخملي.

لعب «العربي» في شبابه مع فريق «الاتحاد الرياضي» المغربي، حيث بدأت رحلته الاحترافية عام 1934 . اختار فريقا يشجعه الفرنسيون، ويحاول الشريط أن يشرح أن ذلك كان اختيارا رياضيا، ليست له خلفيات أخرى. في بعض اللقطات، يقدم لنا الشريط، حياة الفرنسيين في مغرب محتل آنذاك. لقطات محايدة ليست فيها «هتافات أو شعارات»، وهنا اعتمد المخرج على حيلة ذكية، هي التركيز على حياة «العربي» وجعل ما حوله يقترب أو يبتعد، بقدر اقترابه من الشخصية المحورية. على الرغم من أن اللقطات التي ظهر فيها أجانب، تظهر بجلاء أن ميزانية الشريط متواضعة، لأن المخرج لم يستطع أن يحشد أجانب، أو أن يستعين بديكور كان يتطلب الكثير. الشريط ليس سردا كرونولوجيا للأحدث، إذ كانت الكاميرا تقترب من تفاصيل حياة قلقة عاشها «العربي» في سنواته الأخيرة، ويجعله هو نفسه يعود بذاكرته إلى أحداث سابقة، ويعيش المشاهد «هنا والآن» ثم «هناك وآنذاك».

ينقل الشريط رحلة «العربي» البحرية من الدار البيضاء إلى مرسيليا، ثم إلى ملاعب الكرة الفرنسية، قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، وقصته مع زوجته الفرنسية «لويزات» التي أطلق عليها اسم «مليكة» ثم عنايته بأطفاله، ومحاولات تحفيزه من طرف معجبات للانتقال إلى فريق «سطاد دو باري» في باريس، وهو الفريق الذي سيلعب له فعلا بعد أن سكتت قعقعة سلاح الحرب العالمية، وخرج الجنود من خنادقهم، وراحت أوروبا المتهدمة تستجمع قواها وتلتقط أنفاسها. ومن باريس، سينتقل «العربي» إلى فريق «أتليتكو مدريد» الذي سيلعب له خمس سنوات، حتى عام 1953. يقفز الشريط قفزات محسوبة، بين الدار البيضاء ومرسيليا وباريس ومدريد. ليس هناك بياض، ثمة تسلسل، هناك انسجام.

كان يفترض أن يعود «العربي» إلى الدار البيضاء، ثريا ونجما، لأنه أول لاعب مغربي وعربي تعرفه الملاعب الأوربية محترفا، لكنه يعود محبطا حزينا مكتئبا. لم يجد «الثروة» التي جمعها فقد تبعثرت. لم تكن ثمة «شهرة»، إذ تركها هناك في الملاعب الأوروبية ولم تبق منها إلا أصداء بعيدة في ذاكرة حفنة قليلة من الناس. ناس لم يعد حتى يلتقيهم.

يحاول مرة أن يدخل «ملعب محمد الخامس» في الدار البيضاء، ويقدم بطاقته كلاعب محترف، لكن موظفا يسأله ما إذا كانت البطاقة حقيقية أو مزورة. انسحب حتى لا يجعل الأمور تبدو مهينة أكثر مما ينبغي. لم يعد له مكان يذهب إليه سوى مقهى، يرتاده مع مجموعة صغيرة من أصدقائه. كان آنذاك يشعر بأنه ينتسب إلى حياة بلا مجد. توفيت زوجته الفرنسية، وقبلها الزوجة المغربية، توفي ثلاثة من أبنائه، وكان رحيل كل هؤلاء في ظروف تراجيدية، جعلت «العربي» حزينا. بدا رجلا يمتلئ صدره بالأحزان وتفيض، جعله ذلك يعزف عن الحياة. تحول عنه الزمان ولم يكترث كثيرا بتحول الزمان.

في اللقطة الأخيرة من الفيلم، بدا «العربي» منهكا بالخيبات، لم يقبل أن ينتقل حتى إلى منزل أبنائه، فضل العودة إلى شقته حيث الصمت والذكريات الموجعة. مات هناك ولم يتسن لأحد أن يسمع كلماته الأخيرة. في آخر لقطة بدت الرياح تعبث بستارة مهترئة في شقة «العربي»، الذي كان قد فارق دنيا الناس. كانت هناك قطة تعيش معه في الشقة، راحت تمشي على مهل فوق درجات سلالم قديمة وهي تموء. ينتهي الشريط.