يوم أميركي مبكر عن المرأة الغامضة والسياسي الذي كشر عن أنيابه

«الشرق الأوسط» في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي (2)

TT

في حديث سابق مع جورج كلوني فوق جزيرة قريبة من الليدو حيث يقام مهرجان فينيسيا كل عام تحدث الممثل والمخرج عن حبه لسينما السبعينات، وذكر أنه معجب جدا بالدراميات السياسية التي تم إطلاقها في ذلك الحين ومنها، حسب كلامه، «كل رجال الرئيس»، و«بارالاكس فيو» وكلاهما للمخرج المهم في تلك الحقبة ألان ج. باكولا. «منتصف أشهر مارس» The Ides of March اسم يبقى ماثلا عند نهاية الفيلم لأن الأصل محفور في التاريخ الروماني، إذ يعتقد أنه اليوم الذي تم فيه اغتيال جوليوس سيزار. في فيلم جورج كلوني الجديد، نهاية الفيلم توحي باغتيال مماثل مع اختلاف الظروف. كلوني يؤدي دور حاكم الولاية، مايك موريس، الذي لديه حظ كبير في انتخابات الرئاسة ومجموعة رائعة من الأفكار والمبادئ لا يساوم عليها. في مطلع الفيلم نستمع إلى بعض تلك المبادئ: «أنا لست مسيحيا، ولست ملحدا. لست يهوديا ولست مسلما. أنا أؤمن بالدستور الأميركي».

خلال الفيلم سنستمع إلى مبادئ أخرى تعكس آراء الرجل ومواقفه من المشاكل التي تعيشها الولايات المتحدة الأميركية. يخطب ضد القلة من الأثرياء التي تهيمن على المقدرات الاقتصادية للبلاد، ومع حق الطلاب في تعليم مجاني كامل. ينتقد تراجع الولايات المتحدة عن مكانتها السابقة ويدعو إلى بداية عصر جديد من الثورة التكنولوجية تكون الرائدة فيه. الأهم: «علينا أن نجلس وأعداء أميركا على طاولة المفاوضات، عوض أن نلقي على العراق القنابل».

هذه الكلمات تضعه في شريحة الساعين لتغيير وجه الولايات المتحدة، ومن يعرف كلوني يدرك أنه يؤمن فعلا بهذه الآراء فهو ليبرالي ويساري ولديه أجندة تثير نقمة اليمين، والأهم أنه شارك في كتابة الفيلم (مع غرانت هوسلوف الذي أخرج «الرجال الذي يحدقون بالماعز» من بطولة كلوني وعرض هنا قبل عامين) وشارك كذلك في إنتاجه لجانب إخراجه وتمثيله. وإذا ما قرر كلوني بعد أربع سنوات أو أكثر ترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة فإنه ليس من المثير للعجب مطلقا أن نسمع منه خطبا شبيهة بهذه التي يرددها في الفيلم.

رغم ذلك، هو جوهر الدراما لكنه ليس جوهر المشاهد. البطولة الفعلية هي لمساعده في الحملة الانتخابية ستيفن مايرز (رايان غوزلينغ) الذي يبدأ الفيلم بلقطة متوسطة عليه وينتهي به أيضا. في الأولى هو شاب مقبل على السياسة بعنفوان شاب وبمثاليات جادة، وفي الثانية، يقف بوجه صامت يعبر فيه عن اكتشافه فسادا اضطر لأن يمارسه. اللقطة الأخيرة هي له من بعد أن كشف عن أنيابه.

ستيفن يدير عمله بمهارة ويؤمن بأفكار المرشح الديمقراطي ويدافع عنه. على الخط يبرز توم دافي (الرائع بول جياماتي) الذي يعمل لصالح مرشح ديمقراطي مناوئ منافس. توم يتصل بستيفن طالبا منه لقاء، وخطأ ستيفن الساذج هو أنه استجاب من دون إعلام رئيسه المباشر بول (فيليب سايمور هوفمان - الذي لا يقل روعة). كان اتصل به لإعلامه لكنه لم يجده ولم يعد الكرة. يسأله أن يعمل له لكن ستيفن يرفض. في الوقت ذاته يبدأ علاقة بفتاة تعمل في فريق الحملة الانتخابية اسمها مولي (إيفان راتشل وود). في ثاني لقاء بينهما يكتشف أنها حامل من المرشح موريس. إنقاذا لمرشحه يعمد إلى صرفها من الخدمة وإجبارها على الإجهاض ولاحقا ما يكتشف أنها انتحرت. لا يزال يحاول تغطية فضيحة انتخابية حينما تبادره الصحافية آيدا هوروفيتز (ماريسا توماي) بنيتها نشر خبر لقائه بتوم الذي كان من المفترض أن يبقى سرا. نتيجة ذلك يقوم بول بفصل ستيفن ويقوم ستيفن بتهديد المرشح الرئاسي بإفشاء سر العلاقة مع مولي المنتحرة ما سيؤثر سلبا بالتأكيد على حملته الانتخابية.

ينتهي الفيلم عند نقطة سوداوية: تلك العلاقات الخاصة التي قد تودي بالمضامين والطموحات الكبيرة. على الشاشة كل شيء من مطلع الفيلم إلى نهايته مُحاك بفاعلية. تشويق سياسي من الدرجة الأولى حول الفساد وكيف يقضي علي النيات الصادقة وحول اللعبة السياسية في خلفية كل حملة انتخابية.

كلوني المتأثر بسينما السبعينات يعمد إلى محاكاتها. الكاميرا الثابتة (غالبا) النبرة الهادئة (رغم كثرة الحوار) والمعالجة التي لا تريد أن تمنح المشاهد أكذوبة ما أو حلا سعيدا.

كلوني ناضج هنا أكثر من أي وقت مضى، ومثل فيلمه «ليلة طيبة، وحظ طيب» قبل سنوات يقرر لنفسه دورا مساندا مانحا رايان غوزلينغ الكرة ليلعب بها في ميدان مكتظ بممثلين جيدين بأحجام مختلفة. بعض الخلل السردي في النصف الثاني (إثر معرفة ستيفن بانتحار مولي) يؤثر على النهاية (يجعلها مبهمة بعض الشيء). لكن الفيلم بأسره، وعلى الرغم من محدودية ميزانيته، هو تحية للسينما الرصينة التي تركتها هوليوود وراءها طوال ثلاثة عقود.

* ميلدرد العائدة من معاناة الماضي

* خارج المسابقة، قدم المهرجان باكرا ست ساعات تلفزيونية الإعداد والإخراج قام السينمائي تود هاينز بتحقيقها سينمائيا لحساب محطة «HBO»، وهي محطة أميركية فضائية متخصصة بالأفلام والمنوعات ولها نصيب كبير من الإقبال بين الجمهور وآخر أكبر في استحواذ بعض كبار العاملين في السينما الأميركية مثل توم هانكس وستيفن سبيلبرغ وغيرهما. هذه المرة تم الاتفاق مع المخرج المستقل تود هاينز، الذي سبق له وأن أنجز عملا نال إعجاب كثيرين من أهل المهنة النقدية وفي الوسط السينمائي ككل عنوانه «بعيدا عن الجنة» سنة 2005. والمشروع هو ذاك الذي شاهدناه معروضا في اليوم ما قبل الأول (عادة درج عليها المهرجان) بعنوان «ميلدرد بيرس».

في الأصل «ميلدرد بيرس» دراما جنائية من تأليف جيمس م. كاين نقلها سنة 1945 المخرج مايكل كورتيز (الشهير بفيلم «كازابلانكا») إلى السينما من بطولة جوان كروفورد.

كثيرون من المتابعين قد يعتقدون أن الفيلم الجديد هو إعادة للفيلم القديم، لكن هذا ليس صحيحا. ليس لفيلم تبلغ ساعات عرضه أضعاف النسخة الأميركية السابقة. المشاهدة التي شملت أربع ساعات أولى فقط، تفيد عملا يتجاوز النسخة السابقة لا زمنيا فقط، بل بما تحشده من مواقف. بذلك، يتجاوز الفيلم الحالي ما خطه الكاتب في روايته من حيث تمدده صوب نقاط بعيدة. إنه في الأساس دراما أميركية خالصة (كعادة أفلام هاينز التي سابقا ما تأثرت بميلودراميات السينمائي دوغلاس سيرك) حول صعود وهبوط امرأة عاملة ومحاولاتها سباق الظروف المحيطة بها والتبوؤ فوق العواصف التي تهب عليها ربما تستطيع بذلك الاستمرار في الحياة العملية بنجاح. المعالجة تنحو للتراجيديا ولا تحتوي على أي شيء له علاقة بمعالجة كيرتيز التي صنعت فيلما تشويقيا حسب معطيات فترته.

هاينز بارد حيال موضوعه ما يحول بطلته إلى امرأة غامضة النوازع على عكس ما كانت عليه في الرواية وفي الفيلم السابقين. ما استفاد هاينز منه بالتأكيد الطموح الذي دفنه كاين بين دفتي كتابه. سابقا ما كان يكتب بلغة المتكلم ليتحدث لقرائه عن تجربة تخص الشخصية الأولى التي يضع نفسه في ملابسها: شخصية العاثر الحظ الذي يحط في نزل ويشترك مع الزوجة في قتل صاحبه في «ساعي البريد يدق الباب مرتين دائما» وشخصية رجل التأمين الذي يندفع في مغامرة غير محسوبة حبا بامرأة تريد قتل زوجتها لكي ترثه وخداعه في الوقت نفسه في «تأمين مزدوج». في «ميلدرد بيرس» لم يكن ليستطيع تبني وجهة نظر البطلة كونها أنثى، لكنه في الوقت نفسه أنجز ما حاول من خلاله المضي بعيدا عن الرواية البوليسية وإن لم ينبذ مسألة الشخصيات ذوات الحظ العاثر.

حافظ هاينز أيضا على الفترة التي تقع فيها الأحداث من دون تعريضها لمعاصرة كانت ستقحم الزمن الحالي في تركيبة درامية خاصة. إنها الفترة التي كانت فيها الولايات المتحدة تحاول الخروج من أزمتها الاقتصادية في تلك السنوات الجافة واليائسة. ميلدرد بيرس (تقوم بها كيت وينسلت) تحاول مساعدة زوجها، لتجد نفسها الوحيدة التي تتصدى للصعاب المعيشية. كيت وينسلت تمنح الفيلم تجانسا مع الموضوع كان غائبا عن أداء كروفورد في نسخة كورتيز. كروفورد كانت تمثل نجوميتها. وينسلت تمثل شخصية ميلدرد بيرس كما رأت ذلك مناسبا: متواضعة، قلقة ومحيطة بالتفاصيل الحياتية لدرجة مؤذية.

جانب آخر من الصراع كامن بين ميلدرد بيرس وابنتها، وهو الصراع الذي يتبلور في الساعة الثالثة من هذا الفيلم، ولم أستطع مواكبته في الساعتين الرابعة والخامسة لكي أعرف كيف ينتهي.