اليابان التي ما أن تغيب حتى تطل بروائعها

في معرض «مذاق الشرق الأقصى» للفرنسي هنري كارتييه بريسون

TT

لم نكن نعلم أن هنري كارتييه بريسون، المصور الفوتوغرافي الشهير يخفي شخصا آخر. لحين افتتاح معرض «مذاق الشرق الأقصى» في متحف نانسي شمال فرنسا، لم يكن يعرف من العائلة إلا هنري. المصور الفوتوغرافي أو ملك «الأبيض والأسود» كما لقبه صديقه جياكوميتي، طغى على عائلته. الفنانون عادة، أصحاب الشهرة، أيضا، يحجبون عائلاتهم. هذا طبيعي حين تنتج العائلة، شخصا، يضعها في المقدمة، أي الإعلام، حتى ولو كان الجانب الشخصي يطغى على العام.

والحق أن ثمة أمرا تدور أحداثه في بعض المتاحف الفرنسية وصالات العرض الكبرى هذه الأيام غير مفهوم كليا من يقف خلفها أو يحركها؛ إذ من غير الممكن الاتفاق بين مجموعة متاحف متباعدة على الاهتمام بجملة واحدة، حيث تنشط هذه المتاحف في عرض مخزوناتها من القطع الفنية التي لا تنتمي لفنان معين أو حتى لحقبة تاريخية، كان لها علاقة من قريب أو بعيد بفرنسا بشكل خاص. حيث يعرض متحف نانسي مجموعة من ثلاثمائة قطعة فنية من الفن الياباني، تعود إلى مجموعة خاصة لأحد أكبر جامعي الفن الياباني في القرن التاسع عشر وهو تشارلز كارتييه بريسون، الذي هو في الأساس العم الأكبر لهنري الذي تربى تحت رعايته.

متحف مدينة ليون هو الآخر يعرض علاقة المدنية بالفن الإسلامي، من خلال عرض مجموعات فنية خاصة من الفترة نفسها (كنا تناولنا المعرض في «الشرق الأوسط»). غير أن ما يعرض في نانسي يفوق ذلك، لقد كانت علاقة فرنسا مع الفن العربي الإسلامي المشرقي علاقة قوية وتاريخية. وصل المسلمون إلى بواتييه وإلى سانس بالقرب من باريس، وكذلك كان تجار فرنسا على علاقة مع العالم العربي تجاريا، سواء من خلال الاحتكاك المباشر بالمسلمين، أو من خلال التجارة القديمة عبر طريق الحرير. أما اليابان فلم يجمعها مع فرنسا تاريخ مشترك كبير.. مع ذلك، كان تشارلز كارتييه بريسون وغيره من المغرمين بالفن الياباني، يجمع بصمت مطلق مجموعته الكاملة التي بلغت 1300 قطعة فنية يابانية، كما أنه اشترى في عام 1889 المجموعات اليابانية الكاملة التي جمعها كل من جامع التحف اليابانية الشهير إدموند غونكور وكذلك مجموعة فيليب دي بورتي. هذا يدل على أن الرجل، الذي كان من رجال الأعمال الأثرياء جدا في ذلك الوقت، كان صاحب مزاج فني محترم.. إن لم نكتشف هذا في هذا المعرض، فيمكننا معرفته من خلال هنري الذي تربى في بيته وأصبح أحد أهم الفوتوغرافيين في عصره.

يجمع المعرض، وهو جزء من المجموعة الفنية التي كان تشارلز كارتييه بريسون قد أوصى زوجته بوضعها في متحف نانسي، واحدة من أندر المجموعات الفنية اليابانية على مستوى العالم، صاحبها المتوفى في عام 1921 جمع إلى جانب إبداعه في عالم تجارة الأقمشة، حسا مميزا في التعامل، على الأقل مع الفن الياباني الحريري.. إلى جانب، بعض الأثاث المنزلي الذي يعتبر تحفا فنية عالية القيمة. أما الجامع بين عمله وحرفته وهذه المجموعة الضخمة، هو زي الكيمونو الذي يعرض المتحف منه خمس قطع من الحرير الطبيعي الياباني وهي جميعها تعود إلى بدايات القرن التاسع عشر. أما أهم القطع الفنية، فهي تلك المصنوعة من خشب الكرز الياباني وتمثل معبدا صغيرا للاستعمال المنزلي، إلى جانب بعض صناديق المجوهرات المطعمة بالفضة والذهب.

يؤشر عرض هذه المجموعة وكذلك العرض الذي يستمر في متحف ليون إلى مرحلة دقيقة في تاريخ الحركة الثقافية الفرنسية؛ فالفن والاهتمام به لا يقتصر فقط على مجموعة من الناس عملهم فيه وحياتهم جزء منه. هذا مرده ليس فقط إلى الحس الذاتي وكذلك الرفاهية والإمكانات الذاتية.. يعود كليا إلى فترة ساد فيها التفكير الكولنيالي (الاستعماري) ومحاولة جمع العالم وثقافته في مكان واحد. هذا على الأقل ما تخبرنا به، ولو بشكل موارب، الآثار الفنية المكدسة في المتاحف الفرنسية وفي المدن كافة، وهذا ما نعرفه؛ إذ بحسب خبراء في الفنون والتحف القديمة، فإن قصور فرنسا، التي ما زالت مشغولة من بعض العائلات الثرية، تزخر بالعديد من الأعمال والمجموعات الفنية النادرة التي لم تعرض على أي جمهور حتى اليوم.

قصارى القول، إن هذا المعرض الذي تجري فعالياته في نانسي، لن يكون على الأرجح الأول ولن يكون الأخير؛ إذ إن معرضا كهذا سيفتح شهية ملاك المجموعات الفنية لاستعراض مجموعاتهم، إن كان في متاحف صغيرة أو هامشية أو حتى في متاحف كبرى ومهمة في العاصمة الفرنسية. غير أن ما يهم في هذا المعرض تحديدا، أن اليابان التي تعرضت قبل أشهر لأسوأ زلزال في تاريخها ولأضخم مد بحري (تسونامي) هو الثاني على مستوى العالم، تطل من مأساتها المعاصرة، كواحدة من الثقافات القادرة على الإبهار والمنافسة.