قطاع النسيج التونسي.. من الضرورة إلى الديكور

محمد القلاب لـ «الشرق الأوسط» : الرهان أصبح على السياحة وليس على السوق المحلية

أكداس من المنسوجات ضحية إغراق السوق
TT

يعيش قطاع النسيج في تونس حالة من الانكسار على مستوى الإنتاج والتسويق الداخلي والتصدير، إذ يختلف الواقع الموضوعي عن الأرقام التي تحدثت في فترة ماضية عن ارتفاع في التصدير بنسبة 16 في المائة نهاية عام 2010، كما تحدثت عن ارتفاع في قطاع الملابس المنسوجة بنسبة 36 في المائة في نفس السنة، وهو ما جعل الكثير من المراقبين يتفاءلون بعودة الزخم لهذا القطاع الحيوي في تونس. ففي سنة 2008 تراجع القطاع بنسبة 9 في المائة تقريبا، كما تراجع مركز تونس في قائمة الدول المصدرة للمنسوجات للسوق الأوروبية لحساب الصين وتركيا ورمانيا وبنغلاديش.

وقد انعكس تراجع الإنتاج والتسويق والتصدير على قطاع التوظيف في صناعة النسيج، حيث كان يعمل في هذا المجال أكثر من 200 ألف عامل، وكان هذا القطاع يدر على تونس سنويا أكثر من 2350 مليون يورو. ولكن تدهور الصناعة أسهم في إغلاق الكثير من المصانع وبالتالي تسريح آلاف العمال. ولم تقم السلطات السابقة بواجباتها حيال القطاع مقدمة مصالح العائلات المتنفذة التي أغرقت السوق الداخلية بالبضائع المستوردة وقضت بذلك على الصناعات المحلية. فمنذ 1994 بدأت تونس تتراجع في ترتيب الدول المصدرة للمنسوجات فحتى تلك السنة كانت تحتل المرتبة الرابعة وكان بها 145 ألف آلة غزل و10 آلاف سدو (منوال).

واليوم هناك نحو 20 مؤسسة أغلقت أبوابها بزيادة 5 مؤسسات عن العام الماضي وبزيادة 10 مؤسسات عن سنة 2008. ومن المفارقات أن تصبح تونس تستورد الملابس المنسوجة من تركيا بنسبة 10.7 في المائة ومن الصين بنسبة 17.7 في المائة ومن مصر بنسبة 71 في المائة والمغرب بنسبة 175 في المائة، وفق المصادر الرسمية.

«الشرق الأوسط» نزلت للسوق التونسية، لتستمع مباشرة للمنتجين والباعة والمستهلكين، حيث يسود الكساد القطاع وعلى نطاق واسع، وأصبحت المراهنة على السياحة، وما يقتنيه السياح من منتجات تقليدية للذكرى هو أقصى ما يرنو إليه أصحاب الصنعة. وقال صاحب مصنع مغلق لـ«الشرق الأوسط»، طلب عدم ذكر اسمه «في الوقت الذي كنا نسرح فيه العمال ونصفي منتجاتنا، كان هناك حديث مستفيض في وسائل الإعلام عن المساعدات الحكومية المقدمة للقطاع». وتابع «كان لدي 75 عاملا جميعهم عاطلون عن العمل بسبب عملية إغراق السوق بالمنتجات الصينية وغيرها. وحول عملية الانتعاش التي كان يتحدث عنها في أعقاب الأزمة المالية الأوروبية، وحالة الانهيار المتفاقمة في قطاع النسيج بتونس وإغلاق المصانع وتسريح العمال، أفاد بأن «وسائل الإعلام بدأت تتحدث عن تدهور صناعة النسيج بشكل عفوي، منذ 1994 وليس 2008، بل إن أحد الوزراء تحدث عن ذلك من باب العلم بالشيء، ولكنه لم يبق في وظيفته بعد ذلك». وأعرب الضحية عن أمله في قيام «الارتقاء بالصناعات التونسية التقليدية منها، والفلاحية والتكنولوجية همه الأول».

في الدائرة الريفية، لم يعد الصوف يلقى الاهتمام الذي كان يلقاه في السابق، وخلت الكثير من البيوت من السدو، وما بقي منه أصبح مجرد أثاث قديم. وقالت امرأة ريفية تدعى زينب لـ«الشرق الأوسط»: «منذ أكثر من 15 سنة لم نرفع قوائم السدو في بيتنا، ولم ننسج أي عبانة (بطانية) أو زربية أو مرقوم أو كليم (أنواع من السجاد التونسي)». وتابعت «البطانيات الصناعية أصبحت موجودة في كل بيت، وهي أخف وزنا، وتقوم بمهمة التدفئة بشكل جيد، وهي ليينة الملمس عكس العبانة (البطانية التقليدية) فهي خشنة وثقيلة فضلا عن كون البطانية الصناعية رخيصة فهي لا تزيد عن العشرين دينارا (10 يورو)».

وعن طريقة التعاطي مع الصوف سابقا أشارت إلى أن «الأسر التي تملك قطعانا، تقوم بجز أصواف تلك القطعان في كل ربيع، وتقوم النسوة بغسل الصوف، ومن ثم تليينه بالأمشاط وغزله بالمغازل، ثم تقام قوائم السدو وتشتري خيوط النسيج، وغالبا ما تجتمع نساء القرية في بيت إحدى الأسر للمساعدة في عملية التنظيف أو التمشيط والغسل، كما يسهمن في عملية النسيج من باب المساعدة ويبقى ذلك دينا على المرأة المستفيدة فتذهب بدورها للأخريات عندما يكن لإحداهن ما تنسجه». وعما إذا كان هناك أكثر من منسج في وقت واحد أوضحت أن «النساء يرتبن مع بعضهن البعض فأحيانا تترك الواحدة منهن منسجها لتساعد غيرها ثم تأتي الأخرى في يوم واحد فاجتماع امرأتين على المنسج يعطي مردودا أفضل على مستوى النشاط فالحديث أثناء الغزل أو النسج لا يعطل العمل كما هو الحال في أعمال أخرى وإنما يسرع في إنجاز المطلوب».

تذكرنا في تلك اللحظة مثل «الحديث والمغزل» ويعني أن ينسج الإنسان على طريقة غازلات الصوف فهن يتحدثن ويعملن في نفس الوقت.

في السوق كان الوضع سرياليا، فسي محمد القلاب، أحد التجار الذين تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» غير راض عن الوضع الذي آلت إليه الصنعة، حيث قال «(الشرق الأوسط) هي أول صحيفة تزورنا، فوسائل الإعلام المحلية مهملة لهذه الصنعة». وبادرنا بالحديث عن نمط جديد من منتجات النسيج وهي بطانية رقيقة تفند جودتها ما قالته تلك القروية المؤيدة للسلع الوافدة. هذه البطانية من النوع الجديد، وهي صناعة ساحلية لم تعرفها بقية أرجاء البلاد، وتصنع في سوسة والساحلين وقصر هلال، وكما تلاحظ لا توجد طريقة واحدة في النسيج ولا منوال ينسج عليه الجميع، لدينا النسيج القيرواني ونسيج الجنوب وأنماط أخرى من مختلف جهات البلاد التونسية.

وكشف سي محمد القلاب عن وجود أنواع كثيرة من خيوط الغزل بما فيها ما يطلق عليه أرباب الصنعة «البرسم» وفي محل سي القلاب عثرنا على أشكال مختلفة من الصناعات الجهوية التي تبعث على الانبهار، وجدد لنا الحديث عما تختلف فيه الجهات التي تخصصت كل واحدة منها في شكل من أشكال الصناعات التقليدية، بل إن الصنعة الواحدة تختلف في طريقة الزينة والتزويق والنسج عن غيرها من الجهات. ومع كل قطعة منسوج هناك بطاقة خاصة تتحدث عن طول القطعة وعرضها ونوع الصوف أو المادة المصنوعة منها وقيمتها الحرفية ففي كل حرفة في تونس وتحديدا النسيج هناك مقومون يقيمون مستواها وبالتالي السعر الذي تستحقه البطاقة هي بمثابة جواز السفر للقطعة كما هو حال جواز السفر للإنسان فيجب على موظفي المطارات معرفة اسم المسافر ولقبه والاطلاع على صورته وفي بعض الجوازات تكتب مهن حامليها.

كانت الأسعار مرتفعة بعض الشيء مقارنة بالبطانيات والمنتجات الرخيصة، ولكن الجودة تفرض سعرها كما يؤكد سي محمد القلاب، هذه البطانيات صنع يدوي يعمر كثيرا، ولمن يملكون جلودا رقيقة جدا أن يستخدموا اللحاف تحتها. في السوق أنواع كثيرة من المنسوجات الصوفية التي كان الناس يستخدمونها في الماضي وبالأخص سكان الريف التونسي. وعلمت «الشرق الأوسط» من سي محمد أن الكثير من أصحاب النزل والمقاهي واستوديوهات التصوير أصبحوا يستخدمون هذه المقتنيات كديكورات يجلبون بها الزبائن، ويحافظون بها على الصناعات التقليدية.

وفي الوقت الذي ترى فيه بعض الريفيات والكثير من سكان المدن أن المنتجات المحلية من النسيج أفلت شمسها ودار ظلها هناك الكثير من السياح الذين يحرصون على اقتناء هذه المنسوجات للذكرى. أصبح السائح يحتل الرقم الأول في قائمة زبائننا فهذه القطعة من النسيج تعد كنزا ثمينا بالنسبة له، والكثير من السياح الذين لا يقتنون هذه الأشياء يلتقطون الصور معها، وقد شاهدت «الشرق الأوسط» عددا من السياح يلتقطون الصور أمام محلات تكتسي بضائعها صبغة تقليدية، لكنهم لم يكونوا في مزاج للحديث لأن المنطقة في عرف وزارة السياحة التونسية للعبور وليست فضاءات سياحية، رغم الطابع التاريخي والحضاري لهذه المدن.