«الفراشة» ظاهرة تنتشر في المغرب بسبب «هاجس البوعزيزي»

باعة متجولون وأحيانا بلا تجول في كل مكان ويبيعون كل شيء

الباعة المتجولون.. ظاهرة صارت مألوفة في المدن المغربية («الشرق الأوسط»)
TT

انتشرت ظاهرة الباعة المتجولين، الذين يطلق عليهم في المغرب مسمى «الفراشة»، بطريقة لافتة، وباتت تثير الاستياء في أوساط التجار الذين يرون فيهم منافسا في ظل شروط منافسة غير سليمة، بينما تحاول السلطات، خاصة في المدن الكبرى، كالدار البيضاء والرباط، الحد من الظاهرة.. ولكن من دون الاصطدام مع هؤلاء الباعة، حيث تبقى واقعة «البوعزيزي» في تونس ماثلة في أذهان الجميع.

التجار يعتقدون أن السلطات المحلية تتساهل مع هؤلاء الباعة من دون مبرر، في حين يقول مسؤولون في تفسيرات غير رسمية إن الظرفية الاجتماعية الحساسة التي تمر بها المنطقة هي ما يحتم تفادي الاصطدام مع هذه الشرائح الاجتماعية، تفاديا لاحتجاجات اجتماعية تخرج عن السيطرة.

الواقع أن ظاهرة الباعة المتجولين عرفت في الرباط، بالذات، خلال الأشهر الأخيرة تناميا لافتا، سواء في أعدادهم أو الأمكنة التي يستغلونها، حتى باتت الشوارع الرئيسية للعاصمة المغربية اليوم مسرحا لعشرات الباعة الذين يفرشون بضائعهم على الأرض فوق قطع بلاستيكية، أو يجرون عربات يضعون عليها سلعهم.

مارس هذه التجارة كثيرون ضاقت بهم سبل العيش وما عادوا يجدون وظائف مستقرة. بل إن بعضهم ممن أكمل دراسته الجامعية يفضلون الاعتماد على التجارة بدلا من القبول بأجور شهرية هزيلة في وظائف مؤقتة لا تلبي حاجياتهم اليومية. كذلك بين هؤلاء الباعة نساء أرامل ومطلقات وفي بعض الأحيان متزوجات لكن أزواجهن بلا عمل.

يعرض «الفراشة»، صباح مساء، كل ما يحتاجه المستهلك.. ابتداء من الملابس أو الأدوات والمعدات المنزلية والكهربائية، مرورا بالكتب والصحف والعطور وأدوات زينة، وانتهاء بالخضار والفواكه والسمك والدجاج والمعلبات الغذائية. ويحول هؤلاء «الفراشة» الشوارع التي يحتلونها إلى أسواق شعبية، حيث يتعالى صراخهم، وأحيانا يستعملون حتى الأهازيج والأغاني الشعبية يبثونها من أجهزة بالية، لتبعث أصواتا صاخبة القصد منها جذب الانتباه.

ولكن ظاهرة الباعة المتجولين هذه لا تنحصر اليوم في مدينة أو اثنتين، بل انتشرت في عموم المدن المغربية، حيث يفترشون الشوارع والأرصفة لعرض سلعهم وبضائعهم، أمام مستهلكين يعتقدون دائما أنها أرخص من سلع المتاجر والحوانيت. ومع أن السلطات المحلية في بعض المدن حاولت تنظيم نشاط الباعة المتجولين عبر «أسواق نموذجية» وتنظيم حركة البيع طبقا لجدول أسبوعي، فإن جميع هذه المحاولات باءت حتى الآن بالفشل، وقوبلت بالرفض القاطع من طرف الباعة.

في هذه الأثناء يشتكي سكان الأحياء الشعبية من أن انتشار الباعة المتجولين يجلب معه مضار كثيرة، بينها الأوساخ والفوضى وعرقلة السير، لأن العربات المجرورة تعرقل حركة المرور، وتحرم السكان من بعض الخدمات الاجتماعية، بالإضافة إلى ترويج نفر من هؤلاء الباعة مواد غذائية فاسدة ومأكولات غير صحية وسلعا غير مراقبة.

من ناحية أخرى، ثمة مفارقة هنا، هي أن محاولات الانتحار على «طريقة (محمد) البوعزيزي» أضحت رائجة في عدد من المدن المغربية، وكانت آخرها تلك التي وقعت في مدينة بركان، بشمال شرقي المغرب، عندما أضرم بائع خبز متجول اسمه حميد الكنوني النار في جسده، وفارق الحياة بعد نقله إلى المستشفى. ولذا ساد انطباع في الشارع يقول إن السلطات إنما تتساهل مع الباعة المتجولين تفاديا لتكرار «ظاهرة البوعزيزي». وهو أمر، بطبيعة الحال، يستغله الباعة المتجولون لصالحهم بشكل واضح.

على الغالب الأعم، يفضل «الفراشة» عرض بضاعتهم قرب الأماكن التي يتجمع فيها الناس سواء في الأسواق العادية أو قرب الأسواق الكبرى. وبسبب مزاحمة الباعة المتجولين لأصحاب الدكاكين والحوانيت الصغيرة اضطر عدد من هؤلاء لبيع متاجرهم والبحث عن بدائل، بيد أن بعض أصحاب الحوانيت ابتكروا طريقة جديدة وذكية للتغلب على هذا الوضع.. وهي عرض بضاعتهم أمام الدكان أو الحانوت للفت انتباه الزبائن، لمنع الباعة المتجولين من استغلال الفسحات المقابلة.

أحمد الحموني، وهو صاحب محل للأدوات المنزلية في «سوق العكاري» بالرباط، شرح لـ«الشرق الأوسط» الوضع في لقاء معه قائلا: «بسبب هذه الفوضى تأثرت تجارتنا كثيرا. ويحدث أن تمر علينا عدة أيام من دون أن نبيع شيئا.. فلا بيع ولا شراء». بينما قال صاحب محل تجاري آخر لبيع الخضار والفواكه في السوق نفسه، وقد بدا واضحا غضبه الشديد «الشرطة والسلطات المحلية تتساهل أكثر من اللازم مع هؤلاء الباعة المتجولين لأسباب لا نعرفها».

من جانبه، يرى رشيد محمدي، وهو بائع خضار متجول «يفرش» بضاعته في سوق العكاري، أن أصحاب الدكاكين يهددون قوته اليومي بسبب الشكاوى التي يتقدمون بها، لأن «الفراشة» في نظره هي «الحرفة» الوحيدة التي تحميه من الانحراف، ولأنه يفضل «الرزق الحلال».

وأيد سعيد صابر، وهو زميل لرشيد، كلام زميله قائلا: «نعم، أصحاب المحلات المجاورة يرفضون وجودنا إلى جانبهم لحجة أننا نعرقل تجارتهم ونصيبها بالكساد، وفي المقابل لا ندفع ضرائب مثلهم، ولكن الحقيقة أن الكساد يهدد جميع فئات التجار بسبب ارتفاع الأسعار». وتابع قائلا: «إن الباعة المتجولين يعرضون سلعا بأسعار متدنية مناسبة للمستهلكين، لأنهم يبحثون عن ربح قليل، ويفضلون التخلص من بضاعتهم في اليوم نفسه، خاصة إذا كانت مادة غذائية. ولتحقيق هذه الغاية يخفضون السعر في المساء، ولا سيما في الأحياء الشعبية».

على أي حال، رغم انتشار الظاهرة، فإن الجميع يضجون بالشكوى. أصحاب المتاجر يشكون من الباعة المتجولين، وهؤلاء من هزالة المداخيل وانعدام البدائل أمامهم، والسلطات من تفشي الظاهرة ومضارها السلبية الكثيرة.. وهكذا غدت «الفراشة» حديث الناس في المغرب.