مكة المكرمة: بوادر أزمة سكن تتحول إلى عجز بارتفاع 15%

مراقبون عقاريون: الإزالات فاقمت مشاكل الراغبين في الزواج

معظم أصحاب المساكن في مكة المكرمة يشترطون إفراغها في موسم الحج (تصوير: عبد الله بازهير)
TT

دفع التحول الكبير الذي اتبعه الكثير من أصحاب الدور السكنية في مكة المكرمة في قصر دورهم السكنية في الاستثمار لموسم الحج إلى انحسار مسألة التسكين في العاصمة المقدسة على مدار العام.

وقال سعد الشريف، خبير في المنطقة المركزية، لـ«الشرق الأوسط»: إن الإزالات عامل مهم أسهم بشكل كبير في تفاقم أزمة السكن، بعد أن اتجه أصحاب الدور السكنية في اقتصار استثمارهم على موسم الحج، وهو توجه الدولة في تنفيذ الكثير من المشاريع التنموية، التي أفرزت الكثير من الإزالات التي طالت الفنادق والأبراج السكنية المحيطة بالمنطقة المركزية للمسجد الحرام.

وقال الشريف: إن الإزالات بلغت أكثر من 6 آلاف عقار، مما حدا بالمستثمرين في المناطق والأحياء القريبة من منطقة الحرم إلى التفكير جديا في تحويل مساكنهم إلى استثمارات وقتية قصيرة في موسم الحج، على أن يتم إقفالها طوال العام، ويرضيهم ما يجنونه من عوائد قد تكون مضمونة في ظل الطلب الكبير من بعثات الحج للسكن في تلك المناطق، لعدم وجود دور سكنية لحجاجهم في منطقة الحرم المكي.

وسبب هذا التوجه، بحسب سعد الشريف، مساعدة البقية الباقية من الدور السكنية التي تؤجر طوال العام في استغلال الموقف، ورفع قيمة الاستئجار إلى معدلات غير منطقية لطالبي السكن، خصوصا فئة الشباب الذين يبحثون عن مسكن ليكملوا به مشروع الزواج.

وأوضح خبير المنطقة المركزية أن البعض من مالكي الدور السكنية اتبع أسلوبا قد يكون أقل حدة من سابقه، وهو فتح أبواب مسكنه للتأجير طوال العام، بشرط أن يتم خروج المستأجر في موسم الحج، وإعادته بعد خروج الحجاج من العمارة السكنية، وهذه ترتب على المستأجر مبالغ طائلة في نقل أثاثه كل عام، أو ما قد يخلفه الحجاج من تلفيات في مسكنه، خصوصا فيما لو أحدث فيها تحسينات، وهذا ما قد يجعله في نهاية المطاف خاسرا على جميع الأوجه، لكن البعض آثر القبول مكرها بشرط أن يخفض المالك من قيمة الاستئجار، أو أن يتحمل تكاليف نقل الأثاث، وإصلاح التلفيات التي يحدثها الحجاج في العادة.

وقال الشريف: إن البعض من المراقبين يتوقع أن تشهد مكة المكرمة انخفاضا كبيرا في معدلات الزواج، بسبب عدم وجود المسكن اللائق نتيجة تحويل الكثير من الدور السكنية إلى مساكن للحجاج، مطالبين، في الوقت ذاته، بأن تسعى الجهات ذات العلاقة إلى إيجاد حلول جذرية وناجعة لحل أزمة السكن في مكة المكرمة.

يقول عوض الجميعي، الاختصاصي النفسي والأسري: إن الوضع الذي تشهده مكة المكرمة من عدم وجود مساكن نتيجة التوجه في الاستثمار في موسم الحج من قبل مالكي الدور السكنية، أسهم، بشكل لافت، في التندر في عقد الزيجات، وذلك لعدم الحصول على مسكن؛ فالشاب، على سبيل المثال، يواجه تحديات كبيرة في الحصول على شقة تحويه هو وعروسه، بل إنني سمعت من كثير من الشباب أنهم ارتضوا، على مضض، بشقق سكنية لا تتوافق مع رغباتهم؛ حيث إن التعدد في الاختيارات قد نضب ماؤه، وأصبحوا يبحثون عن أي شقة ولو كانت تخالف تطلعاتهم.

وتابع الجميعي: «بعض الشباب أيضا يلجأ إلى السكن مع أهله داخل المنزل، وقد تكون هذه المبادرة غير متوافقة لدى الزوجة، وقد تنشأ خلافات أسرية، بسبب السكن مع الأهل، وأنا هنا لا أحرض على عدم السكن مع الأهل، لكن وفق تجربتي في النظر بالكثير من القضايا الأسرية اتضح أن السبب في الخلافات الأسرية هو السكن مع الأهل، لكني لا ألوم الشباب، خصوصا القاطنين في العاصمة المقدسة، فإن لم يسكن مع أهله فلن يتزوج إلا بعد وقت طويل».

وطالب الجميعي بأن تسارع الجهات ذات العلاقة إلى وضع حلول عاجلة لحل أزمة السكن التي نشأت مؤخرا، من خلال بناء وحدات سكنية، أو فسح المخططات، ولو التي في خارج حدود الحرم، لكي تكون هنالك خيارات كثيرة أمام راغبي السكن في مكة.

متابعون لواقع السوق العقارية في مكة أكدوا أن الظاهرة الجديدة رفعت أسعار العقار بسعر جنوني وبنسبة تصل إلى 40% في المساكن و70% في تأجير العقارات للقطاعين الخاص والحكومي، مرجعين أسباب انتشار الظاهرة إلى جشع أصحاب العمارات والمكاتب الذين استغلوا المتغيرات الجديدة على الخارطة العقارية بمكة المكرمة بعد إزالة عقارات الشامية والحجون وأم الجود والعمرة وشارع المنصور لصالح التوسعة الشمالية والطرق الدائرية والأنفاق الجديدة.

وتوقعت اللجنة العقارية في الغرفة التجارية الصناعية في مكة المكرمة أن نسبة العجز في المساكن في العاصمة المقدسة قد بلغت أكثر من 15%، موعزة هذا الأمر إلى توجه الكثير من المستثمرين إلى بناء وحدات سكنية خاصة بسكن الحجاج، وابتعادهم عن الاستثمار في المساكن الخاصة.

وتوقع مصدر في الغرفة التجارية الصناعية في العاصمة المقدسة أن هذه النسبة هي من أصل 200 ألف وحدة يتطلب إنشاؤها نزع 6 آلاف عقار لصالح مشاريع تنموية قائمة؛ حيث إن جميع المستثمرين يتوجهون إلى بناء مساكن الحجاج بدلا من المساكن الخاصة بالمواطنين والمقيمين، وذلك بسبب أن مساكن الحجاج ذات دخل مضمون ومجزٍ، خلافا لمساكن المواطنين والمقيمين، التي أشغلت بها الجهات الرقابية والتنفيذية في ظل التهرب الدائم من سداد قيمة الإيجار.

من جهته، قال بندر الحميدة، عضو اللجنة العقارية في غرفة مكة: «قد لا ألوم مستثمري وملاك الدور السكنية، من توجههم إلى الاستثمار في موسم الحج، وذلك لضمان العائد المادي، بالإضافة إلى ابتعادهم عن المشاكل التي قد تنشأ بينهم وبين المستأجرين، لكن في المقابل يجب أن نعترف بأن هنالك معضلة تتمحور حول أزمة سكن قائمة في الوقت الراهن، مما يؤثر على التركيبة السكانية في مكة المكرمة، فلو افترضنا أن 60 إلى 70% من الدور السكنية قد تحولت إلى مساكن موسمية للحجاج، فيعني هذا أنه ستكون هنالك هجرة من مكة إلى خارجها، ويكون هنالك إخلال في المنظومة الاقتصادية التي تعتمد على الاستمرارية في الإقبال طوال العام، فكيف يتحقق مطلب الاستمرارية في الإقبال في عدم وجود سكان في الأصل؟ بالتالي لا بد أن تكون هنالك حلول مستعجلة من شأنها أن تنهي هذه الأزمة قبل تفاقمها».

وأضاف الحميدة: «من الحلول التي من رأيي أنها بين متناول اليد: قيام مخططات بعد فسحها من قبل وزارة الشؤون البلدية والقروية، والسماح بتعدد الأدوار السكنية، مما يسمح بتوسيع الرقعة السكانية في محيط مكة وبجوارها، الأمر الذي سيسهم في إيجاد دور سكنية دائمة للراغبين من المواطنين والمقيمين».

محمد الحازمي، أحد المواطنين، يقول: «لا أستطيع أن أحدد لك حجم معاناتي؛ فمشروع زواجي متوقف على إيجاد سكن، لا أريد أن أبالغ في أنني لم أجد، بل وجدت، لكن سعر الإيجار مرتفع إلى الضعف، صدقني كنت متغربا عن مكة لمدة 6 سنوات بحكم عملي العسكري في إحدى المناطق، ووضعت تخطيطا في مخيلتي، وميزانية أتبعها في تسديد الإيجار على ألا يتراوح سعر الاستئجار بين 13 و15 ألف ريال، لكن ما شاهدته أن إيجار أقل شقة ذات مميزات قليلة لا ينقص عن 22 ألف ريال».

ويضيف الحازمي: «جميع أموري ارتبكت، صدقني مرتبي لن يكفيني على تسيير أموري فيما لو وافقت على هذا السعر، وجدت شققا سكنية معقولة، لكن الشرط الذي نحر طموحي في الزواج، وهو موافقتي على الخروج من المنزل قبل شهر ذي الحجة، بنحو شهر والعودة إليها في شهر محرم، مما يعنيه أن أستأجر مسكنا آخر لمدة 3 شهور، سوف يكبدني خسائر فادحة».

سامي عابد، مواطن، يقترح أن تطرح أمانة العاصمة المقدسة مزيدا من المخططات السكنية لأهل القرى، الذين يسكنون المدن على نظام الإيجار بهدف إيقاف النزيف السكاني للمدن بإيجاد فرص سكنية داخل المراكز والقرى والهجر الواقعة خارج مكة المكرمة وجدة والطائف، مشيرا إلى إمكانية توظيف دور البنوك الوطنية في إيجاد شراكة تبتعد عن تحمل المواطن الديون؛ بحيث تتبنى البنوك بناء قرى سكنية تسلم للمواطنين بنظام الإيجار المنتهي بالتمليك.

برهان علي، مقيم تركي يعمل في مكة، يبحث في مكاتب العقار عن شقة تؤويه هو وأسرته، يقول: «أقيم في مكة منذ 7 سنوات، جمعت من المال ما يكفيني والحمد لله، وعندما قررت أن أستقدم عائلتي بدأت في البحث عن شقة أستأجرها، وكنت أطمح إلى أن تكون قريبة من مقر عملي لكي يتسنى لي الوصول إلى منزلي في أسرع وقت بعد الانتهاء من دوامي؛ حيث إن عملي على وقتين في النهار وفي وقت المساء.

يتابع برهان حديثه: «لقد تحطمت أحلامي في قدوم أسرتي على أعتاب أبواب مكاتب العقار؛ حيث صدمت من سعر الإيجار، بالإضافة إلى أن البعض منهم يشترط خروجي من المنزل وقت موسم الحج، وهذا ما لا أرتضيه، ففكرت جديا في أن أستأجر في الفنادق ذات الشقق السكنية ولمدة أشهر معدودة أستقدم فيها عائلتي لتكون معي في هذه الفترة على أن أعيدهم بعد انتهاء مدة التأشيرة، وآمل في المستقبل القريب أن تسمح لي الظروف وأجد مسكنا وفق رغباتي».

إبراهيم المالكي، صاحب مكتب عقار، يؤكد وجود عقبات تواجه طالبي السكن الدائم، وما يثبت ذلك هو انخفاض عرض الدور السكنية الدائمة في مكاتب العقار إلى أكثر من 50%، في ظل توجه الكثير إلى الاستثمار في موسم الحج.

وأضاف المالكي أن ما يوجد لدى مكاتب العقار من دور سكنية قد لا يتواءم مع متطلبات راغبي السكن، من حيث ارتفاع سعر الإيجار، وهو ما يثقل كاهل المواطن أو المقيم، وبالتالي يسير الباحث في دائرة مفرغة إلى أن يرضخ إلى مطالب أصحاب الدور السكنية، مشيرا إلى أن الكثير من هؤلاء الملاك يشترطون أن تكون مدة العقد سنة واحدة فقط تتجدد مطلع كل عام فقط.

وينظر المالكي إلى هذا المطلب على أنه خط رجعة للمالك فيما لو فكر أن يحول مسكنه إلى تأجير حج، بحيث لا يجد عقبات أمامه في خروج المستأجرين؛ لأنه لا يربطه معهم سوى عقد لمدة عام، مع وعود على أن يطيل مدة العقد فقط لعامين أو ثلاثة أعوام، وذلك لكي تتم له مراقبة الوضع العقاري في مكة المكرمة وهل سيلجأ إلى خيار الاستثمار في الحج أم يؤجله لأعوام قليلة.

كانت دراسة حديثة للمرصد الحضري بالعاصمة المقدسة قد أكدت أن الإسكان الموسمي وراء أزمة الإسكان وارتفاع قيمة الإيجارات بالعاصمة المقدسة. وقالت الدراسة، التي انتهى المرصد من إجرائها: إن عددا من أصحاب العمارات في الأحياء التي اتجه الحجاج إلى السكن فيها، مثل العدل والروضة والششة والعزيزية والهجرة وكدي والخالدية والكعكية والنزهة والسلامة، عمدوا إلى إخلاء العمارات من السكان واكتفوا بتأجيرها خلال موسم الحج، مما أدى إلى نقص كبير في العمارات المعدة للتأجير.

وأضافت الدراسة أن ذلك انعكس على ارتفاع الإيجارات وأن المواطنين يتطلعون إلى أن تركز الدراسة على حلول عملية لأزمة الإسكان الحالية، وارتفاع الإيجارات الذي أثر كثيرا على محدودي الدخل. ويتطلع العقاريون وأصحاب العمارات إلى أن تركز الدراسة على السلبيات التي تحدث من بعثات الحج التي تتولى استئجار العمارات، وأصبحت تتحكم بشكل كبير في الإسكان الموسمي، وتحصل على عمولات تزيد على نصف مليار ريال سنويا، وتؤدي إلى حدوث تكدس في العمارات، وحالات رفض السكن من بعض الحجاج في العمارات المستأجرة لبعدها عن الحرم أو لوقوعها في مناطق جبلية.