محلات «الأنتيكات» في القاهرة.. شاهد صامت على التاريخ

شعارها «من فات قديمه تاه»!

قطع الأثاث ذات الطراز المميز تلقى رواجا كبيرا («الشرق الأوسط»)
TT

شعارها «من فات قديمه تاه»، ومنه تستمد مهمتها وخصوصيتها، حتى لا يتوه الحاضر، أو يصبح مرثية ذابلة على جدران الزمن.

وعلى الرغم من أن كلمة «أنتيك» تشير إلى كل ما هو قديم ونفيس، فإن أصحابها يتعاملون معها باعتبارها مهنة حية في الزمان والمكان، لها كينونتها الخاصة. وفي حين يتسلح زبائنها بذوق رفيع ومعرفة واسعة بالتاريخ، يرى آخرون أن اقتناء العاديات - أو «الأنتيكات» - ظاهرة مرتبطة بطبقة الأغنياء فقط، مع أهمية ما توفره المهنة من منتجات تعكس ذوقا راقيا.

عدد المحلات العاملة في مجال بيع «الأنتيكات» بمصر في تراجع اليوم، غير أن بعض المناطق ما زالت تحتفظ بسمعتها كموطن لهذه التجارة، منها منطقة مصر الجديدة بشمال شرقي القاهرة، وشارع هدى شعراوي بوسط المدينة.

وكانت مصر، قد اشتهرت لفترة طويلة في القرن الماضي، بأنها سوق واسعة لهذه التجارة، بل اعتبرت خلال الأربعينات من القرن الماضي ثاني سوق في العالم للتحف الأصلية بعد فرنسا. ولكن، بعد مرور نحو 11 سنة على بدء الألفية الثالثة، تعاني تجارة «الأنتيكات» في مصر من ركود شبه تام بات يهددها جديا بالانقراض.

بعض المحلات ما زالت تمتلئ بالقطع الأصلية ذات التاريخ العريق، سواء لجهة صنعها أو هوية مالكيها السابقين، والبعض الآخر يعرض قطعا قديمة غير ذات تاريخ مثل غرامافون أو صور قديمة للشوارع في القرن الماضي، أو بعض الزجاجات القديمة. وبين هذا وذاك يوجد الزبون الذي يهوى كل صنف، فتارة هو طبيب يبحث عن قطعة تاريخية بسعر مناسب، وتارة هو طالب فنون جميلة يبحث عن صور قديمة يستعين بها في دراسته.

هشام السباعي، صاحب أحد محلات «الأنتيكات» في وسط القاهرة قال «أيام زمان كان زبائن الأنتيكات من أبناء الأسر الأرستقراطية الذين يسكنون القصور، وكانوا يشترون تلك القطع ليزينوا بها قصورهم، أما الآن فالزبائن من كل الطبقات».

وأضاف «ما جعل شراء الأنتيكات متاحا لجميع الطبقات هو أن التحف المقلدة دخلت إلى الأسواق، وخاصة تلك الآتية من الصين. وبالتالي، بات ممكنا شراء بعض التحف الجميلة حقا بسعر بسيط».

وأوضح السباعي لـ«الشرق الأوسط» قائلا «كنا كتجار نحصل على بضاعتنا من القصور والفيلات القديمة التي كان يرغب أصحابها بهدمها. ثم بدأنا نستورد بعض التحف المصنوعة في الخارج»، متابعا «التحف التي كنا نشتريها من القصور القديمة كانت تمثل ثروة حقيقية لمن يمتلكها وتزداد قيمتها بمرور الأيام، أما التحف المقلدة فتكتسب سعرها المرتفع من الجودة في التقليد فقط».

ثم قال «أعتمد أيضا على عدد من الرسامين الموهوبين الذين يرسمون لوحاتهم على القماش، وهي لوحات تحقق أسعارا جيدة عند بيعها والطلب عليها كبير نسبيا. ثم إنني أحضر بشكل دائم عددا من المزادات التي تقيمها صالات العرض العريقة في مصر، لكي أحصل على قطع قيمة وبسعر جيد نسبيا». واستطرد «بدأت في الازدهار مؤخرا صناعة التماثيل البرونزية التي يصل سعر الواحد منها إلى عشرات الآلاف من الجنيهات لأنها من البرونز الخالص، وهي تنافس بقوة التماثيل المستوردة التي يدخل في صناعتها خامات كثيرة مثل الجبس والشمع والإسمنت، ويغطى هيكلها الخارجي فقط بالبرونز».

أما صفوان محمد، أحد ملاك محلات «الأنتيكات» في منطقة عابدين بوسط القاهرة، فقال «أغلى الأنتيكات التي أتعامل فيها هي الفازات (المزهريات)، خاصة الأصلية من خزف الـ(سيفر) التي قد يصل ثمنها إلى مئات الآلاف من الجنيهات، بالإضافة إلى القطع الأصلية والنادرة من السجاد الإيراني. ومعظم الزبائن الذين يقبلون على هذه البضائع هم من العرب أو أبناء الطبقة الثرية في مصر». وأوضح صفوان أن سبب ارتفاع أسعار «الأنتيكات»، والتحف عامة، «يرجع لعاملين: الأول ندرة تلك القطع بعدما اختفت الطبقة الأرستقراطية من مصر، فتلك الطبقة كانت تشتري القطع القيمة من مزادات خارج مصر لتضعها في بيوتها. والعامل الثاني هو القيمة الفنية للقطعة وتاريخ صنعها ومدى أصالتها وهوية الأشخاص الذين صنعوها والذين صُنعت لهم ومن الذي كان يمتلكها»». وأشار إلى أن «الخبراء يستطيعون التعرف على القطع المقلدة بسهولة، ولذا عندما أشك في قطعة معينة فإنني أستعين بأحد أصدقائي لتقييمها قبل الشراء». وتابع صفوان شارحا «بعض الزبائن، نتيجة شغفهم بالأنتيكات، أصبحوا خبراء في هذا المجال ويمكنهم تقييم القطعة التي يرغبون في شرائها، ولا يمكن خداعهم بسهولة». وأردف: «إن القطع المقلدة لا يتعدى سعرها في أغلب الأحيان 10 في المائة من سعر القطعة الأصلية، وحاليا أغلى القطع الموجودة في السوق هي الأنتيكات الفرنسية القديمة لما فيها من أشغال يدوية فنية دقيقة، ومنها التحف والنجف (الثريّات) وقطع الأثاث من طرازي لويس الخامس عشر ولويس السادس عشر».

وأما عبد السلام سعيد، الذي يعمل في بيع الأنتيكات منذ عقد الستينات من القرن الماضي، فقال لنا «بدأت العمل في هذه المهنة منذ أكثر من أربعين سنة، وكنت يومذاك أعمل على شراء التحف والأنتيكات من قصور وفيلات اليهود والأجانب الذي غادروا مصر بعد ثورة يوليو 1952، وكان أصحابها يبيعونها بأسعار بخسة لاضطرارهم للسفر. وبمرور الوقت قل المعروض واتجهت للعمل في بيع التحف المقلدة».

وأضاف «التحف المقلدة تحظى بإقبال الآن لعدة أسباب، منها قلة المعروض من القطع الأصلية وارتفاع أسعارها في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية، بالإضافة إلى أن الزبائن الذين يطلبونها أغلبهم من الشباب الذين يرغبون في وضعها كقطع ديكور أنيقة في منازلهم بغض النظر عن قيمتها التاريخية». وأقر سعيد بأن القطع المقلدة «تقل قيمتها بمرور الوقت، وبعد تداولها بين أكثر من شخص، بعكس القطع الأصلية التي يزداد سعرها كلما مر عليها الزمن، بل وتصبح مطلوبة أكثر».

الدكتور بسام عبد الله، وهو طبيب شغوف بجمع الأنتيكات والتحف التاريخية، قال لـ«الشرق الأوسط» وهو يتجول داخل محل كبير في شارع هدى شعراوي، بوسط القاهرة، «أبحث عن مرآة مزخرفة من الطراز الفرنسي، وأعلم أنني سأجد ما أبحث عنه في محلات وسط البلد، ولذا أتيت إلى هنا». وأكمل «السعر قد يكون مرتفعا، لكنني أتعامل مع الأمر على أنه نوع من الادخار والاستثمار. فلو كانت القطعة أصلية، يستحيل أن يهبط سعرها بمرور الأيام، وفي الوقت نفسه فإنني أزين منزلي أو عيادتي بقطعة فنية أصلية».

في المقابل، إيهاب متولي، وهو طالب دراسات عليا في كلية الفنون الجميلة، جاء إلى وسط القاهرة بحثا عن صور لشوارع القاهرة في القرن التاسع عشر ليستعين بها في دراسته. وقال لنا «إنني أبحث عن تلك الصور لأن مشروعي للماجستير عن العمارة في القرن التاسع عشر.. لقد وجدت كل ما كنت أبحث عنه في محلات الأنتيكات، ومع أن السعر مرتفع فإنني مقتنع بأن الصور لا تقدر بثمن».