سمعة العاصمة الآيرلندية الأدبية تتجلى من خلال مكتباتها

منحت دبلن لقب «مدينة اليونيسكو للأدب».. وأربعة متحدرين منها حصلوا على «نوبل»

أشهر مكتبة في الدولة هي المكتبة القديمة في كلية ترينيتي
TT

«نحن أهل دبلن نعتز كثيرا بمكانة مدينتنا كعاصمة للأدب في المقام الأول، لأن ذلك يعطي لمحادثاتنا قدرا من الثقل، حيث إن كل ملاحظة ساخرة أو نكتة باتت شيئا يحمل قيمة أكبر منها مجرد دعابة أو مزحة». إذا دخلت أي مكان في المدينة، سترى ذلك الملصق الشهير لمشاهير الأدب الآيرلندي معلقا على الحائط. إنه ليس تباهيا، فدبلن يحق لها الافتخار بأن بها أربعة مشاهير حاصلين على جائزة نوبل، وهم جورج برنادرد شو ودبليو بي ييتس وصمويل بيكيت وشيموس هيني. إضافة إلى ذلك، تعتبر أسماء مثل أوسكار وايلد وبرندان بيهان وفلان أوبراين، وبالتأكيد جيمس جويس، من أبرز مشاهير المدينة. لذلك، عندما يتساءل زائرو العاصمة الآيرلندية المثقفون عن أبرز الأنشطة الأدبية، فثمة كثير من الأنشطة التي يمكن إرشادهم إليها وأبرزها الجولات الأدبية والأحداث المنتظمة الخاصة بالشعر والرواية، والكثير من المهرجانات الأدبية، فضلا عن متحف للكتّاب.

لكن بالنسبة لي، تتجلى علاقة دبلن الطويلة الذائعة بالكتاب، التي تم الاعتراف بها رسميا العام الماضي، عندما منحت المدينة لقب مدينة اليونيسكو للأدب والثقافة، بوضوح من خلال عدد من المكتبات المنتشرة بمختلف أنحاء المدينة. فمن خلال هذه البنايات المميزة، بأرففها الممتدة لأميال ومجلداتها المغبرة والفهارس الضخمة وجو التركيز المخيم على المكان، تتجلى دبلن كقبلة للكلمة المكتوبة.

وحتى الآن، تعتبر أشهر مكتبة في الدولة هي المكتبة القديمة في كلية ترينيتي، التي تتميز بغرفتها الطويلة المبهرة. انتقلت إلى دبلن في أواخر التسعينات من القرن الماضي للالتحاق بكلية ترينيتي، وهي كلية لها حرم سحري وتقع في قلب مدينة دبلن، وتمتلئ ببنايات رائعة ذات تصميم معماري قديم وساحات واسعة، بمعزل عن الزحام خارج أسوارها. لكن المكتبة القديمة دائما ما تبدو جزءا منفصلا له سماته الخاصة، فبينما نتدافع من وإلى البنايات المحيطة، ونذهب لحضور المحاضرات أو لتناول الغداء أو للنوم، تبدو المكتبة القديمة هي مقصد السائحين الذين يصطفون لمشاهدة الروائع الأدبية النادرة داخلها. وحتى نهاية السنة الأولى من دراستي بالكلية، لم أكن قد دخلت مبنى المكتبة الشهيرة، وبعدها، تغير مفهومي لها بشكل جذري. فبعيدا عن نظرتي لها باعتبارها مجرد متحف، غير مرتبط بالحياة الجامعية المحيطة به، اكتشفت أنها القلب الروحي للمكان.

أنشئت المكتبة القديمة منذ أكثر من 20 عاما في مطلع القرن الثامن عشر، ويضم الطابق الأرضي «كتاب كلز» (Book of Kells) وهو يشمل الأناجيل الأربعة، التي كانت تعرف بأنها المقابل الآيرلندي لكنيسة سيستين.

ويعتبر الكتاب الذي يعود إلى سنة 800 تقريبا أعظم الروائع الأدبية في الدولة. ويعرض مجلدان فقط من الكتاب في كل مرة، وعادة ما يكون هناك حشد من السائحين المتجمهرين لإلقاء نظرة عبر الزجاج الكثيف، لكن من المثير مشاهدة الكتابة المرتفعة بالحبر التي تعود إلى 1200 سنة مضت على الرق، وكل طبقة قد طليت بدقة فائقة على يد رهبان سلتيين. ويتطلب صعود الدرج المؤدي للغرفة الطويلة تعديلا في حجم السلالم من مجموعة الكتب إلى المساحة الضخمة للمكتبة في بضع خطوات قليلة. والغرفة الطويلة هي حجرة تخلب الأنظار، ويبدو دخولها أشبه بدخول كاتدرائية ضخمة لإظهار الإجلال للكلمة المطبوعة، حيث يوجد صف تلو الآخر من الكوات المليئة بالكتب الممتدة لمسافة تزيد على 200 قدم أمامك، التي ترتفع إلى السقف المقوس المبهر. وعلى طول كل جانب، تجد صفا من التماثيل النصفية المصنوعة من الرخام لأعظم الكتاب، بدءا بشكسبير على أحد الجوانب، وهومير على الجانب الآخر. ويمنح مشهد الكتب واحدا تلو الآخر على الأرفف في كل كوة تأثيرا تكراريا قويا، حيث يعطي انطباعا أوليا بوجود صالة من المرايا. أتذكر أنني تساءلت في المرة الأولى التي دخلت فيها المكتبة؛ كيف يمكن أن توجد مثل هذه التحفة المعمارية الفخمة إلى جانب مبنى المحاضرات المضجر، حيث أمضيت حياتي الجامعية. لم أبدأ في اللجوء إلى المكتبة القديمة لإجراء بعض الأبحاث حتى السنة النهائية من دراستي الجامعية، وقد قادتني دورة تعليمية عن تاريخ الكتاب إلى غرفة الكتب المطبوعة القديمة في الطابق العلوي. وعند تقليبي الصفحات المهترئة التي قرأها طلاب وباحثون لا حصر لهم من قبلي، بدت المكتبة القديمة إلى حد كبير جزءا حيويا من الجامعة ومكانا استثنائيا بحق.

بعد «كتاب كلز» يحتفي بكتاب «عوليس» لجويس في دبلن. ويصادف أن يتقابل البطلان للمرة الأولى في المكتبة القومية الواقعة في شارع كيلدار، حيث مر ليوبولد بلوم بستيفن ديدالوس في نهاية حلقة «سيسيلي آند كريبديس». لذا من المناسب امتلاك المكتبة القومية أول نسخة من الكتاب الذي أعطاه جويس لراعيه هاريت شو ويفر.

لا يتم عرض الكتاب الرائع دائما، لكنه جدير باتباع خطى ديدالوس وبلوم إلى المكتبة القومية في أي وقت. إنها قطعة رائعة من العصر الفيكتوري افتتحت عام 1890، حيث قاعة المطالعة المتألقة بالأضواء وذات القبة مثل الهيكل لعشاق الكتب، وحيث يطل كيوبيد بأجنحته على مجموعة من المكاتب والجدران المطلية باللون الأزرق السماوي والأبيض. هناك جولات يتم تنظيمها في أرجاء المبنى، لكن يجب أن لا يفوتك معرض ييتس بالطابق السفلي، فلن يمنحك شعور الشاعر الآيرلندي العظيم مثل هذه فاترينة العرض التي تحتوي على مخطوطات وحاجيات خاصة به، والتي تعد من أكبر المجموعات في العالم. عندما كنت في المدرسة، كان مقررا علينا بعض من أشعار ييتس، التي يجب أن نحفظها، وهو أمر يضيع علينا تذوق الشعر. نتيجة لذلك، يرى الكثير من الآيرلنديين ييتس على أنه شخصية جديرة بالاحترام، لكنها لا تقدم أي إلهام. ونجح هذا المعرض في القضاء على تلك الآثار السلبية وأسبغ لونا براقا على حياة الرجل وكلماته الملهمة.

يمكن مشاهدة مسودة ييتس التي تتضمن الهوامش لـ«الإبحار إلى بيزنطة» (سيلينغ تو بيزانتيام) ومخطوطة «المجيء الثاني» (ساكند كامينغ) ونسخة مهترئة من «والدن»، والميدالية التي حصل عليها والقبعة التي ارتداها في ذلك الاحتفال، وحتى آخر نظارة ارتداها بعدستها الداكنة اليسرى. وتعرض عدد من الأفلام الوثائقية التي تتناول جوانب مختلفة من حياته على شاشات في أركان مختلفة من المكتبة، وهناك عروض تفاعلية تقدم دليلا شاملا لكل ملامح العرض. ربما تكون أكثر اللمسات تأثيرا التسجيل الصوتي لييتس وهو يلقي قصيدة «بحيرة جزيرة إينيسفري» (ذا ليك أيل أوف إينيزفري) بنغمات لها صدى. وبينما تتسم مكتبة «لونغ روم» والمكتبة القومية بالضخامة والروعة، سبقتهما في العمر مكتبة أكثر حميمية وحكمة هي مكتبة «مارش»، التي تنزوي في شارع خلفي هو شارع باتريك كاثيدرال.

بمجرد عبوري عتبة المكتبة للمرة الأولى مؤخرا، شعرت وكأنني عدت بالزمان إلى الوراء. لقد بدأ نارسيسيس مارش في بناء المكتبة عام 1701، ثم أكمل بناءها مطران دبلن لكنيسة آيرلندا البروتستانتية. وكانت المكتبة أول مكتبة عامة في البلاد، وما زالت تحتفظ بحالتها.

كان مارش يعرف بعلاقته بجوناثان سويفت، رئيس كاتدرائية سانت باتريك الذي كثيرا ما تهكم على المطران من خلال كتاباته. ويُعرض نموذج لذلك في المكتبة لذا يبدو أن مكتبة «مارش» كانت لتخسر كثيرا لولا سويفت. وتعد مكتبة مارش من أكثر الأماكن المسكونة بالأشباح في دبلن. ويُروى أن شبح المطران ما زال يسكن بها ويبحث حثيثا عن ورقة تركتها ابنة أخته قبل أن تهرب. ودُفن مارش بجانب جدران المكتبة في باطن أرض كاتدرائية سانت باتريك.

وتعد المكتبة متواضعة مقارنة بقاعة «لونغ روم»، حيث تتضمن المكتبة قاعة على شكل حرف «L» بها مكتبات مصنوعة من خشب البلوط بطول الجدران المقابلة. وهناك فجوات في الجدار، يوضع بها الكتب. وقد اعتاد الطلبة أن يتم حبسهم مع المجلدات ثم تفتيشهم قبل مغادرة المكتبة في إطار إجراءات شبيهة بالتي تتم في المطارات. تضم مجموعة الكتب التي تحتويها المكتبة 25 ألف مجلد أكثرها عن علم اللاهوت والمواضيع الدينية، لكن إذا تجولت ستجد كتبا تتناول مجالات أخرى، مثل الطب والعلوم والقانون والأدب وغير ذلك. المذهل في الأمر هو أن أكثر الكتب موضوعة على نفس الأرفف التي وضعت عليها منذ ثلاثة قرون.

وتعد مكتبة مارش نموذجا لإرث كنيسة آيرلندا البروتستانتية في المدينة، لكن أكثر المكتبات تدينا في دبلن هي مكتبة «تشستر بيتي» التي توجد داخل قلعة دبلن، وهي لم تبن بأمر من أسقف أو رجل دين. كان ألفريد تشستر بيتي أحد أقطاب صناعة التعدين الأميركيين ومنح عام 1950 الولاية الآيرلندية مجموعة غير عادية من المخطوطات والكتب والرسوم واللوحات الدينية المسيحية والشرقية وبعض القطع الفنية النادرة من آسيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأوروبا، في دلالة على السخاء الذي جعله يحظى بجنازة مهيبة في الولاية عام 1968.

وما زالت أبواب المكتبة مفتوحة أمام الطلبة، لكن أكثر ما يلفت الأنظار إليها هو مجموعة بيتي في القاعة الرئيسية في المكتبة. تتضمن هذه المجموعة الثرية من الأعمال الفنية التاريخية قطعا نادرة، مثل نسخة من إنجيل مرقص تعود إلى القرن الثالث ومخطوطة من ورق البردي لرسائل بولين تعود إلى ما بين عام 180 إلى 200، وأقدم النسخ لرسائل بولس، وكذلك واحدة من ضمن مخطوطات قليلة نادرة تناولت حياة الرسول محمد تعود إلى القرن السادس عشر.

في الفضاء ذي الإضاءة الخافتة يشع فيلم عن الشعائر الدينية نفحة من القداسة ويضفي مزيدا من الجلال على الأجواء. ولا عجب إذن في أن يعد هذا المكان مصدر إلهام للمعجبين به. وتجاوزت آيرلندا الحقبة الكاثوليكية والدينية على كثير من الأوجه، لكن نجح تشستر بيتي بفضل طبيعته المنحازة للدين. مثل الكثير من أبناء جيلي، لا أؤمن بالتوجه الديني المنظم، لكن متحف «تشستر بيتي» من المتاحف المفضلة لدي في دبلن بالتحديد، لأن هذه الأعمال الفنية تقدم منظورا قويا للإيمان والثقافة عندما تعرض في مكتبة.

إذا كنت تبحث عن مكان للراحة بعد يوم من التجول بين المكتبات، يمكنك الذهاب إلى «لايبريري بار» أعلى فندق «سنترال هوتيل». وعلى الرغم مما يوحي به اسمه، تعد هذه الكافيتريا التي توجد وسط الكتب بمقاعدها وأرائكها الجذابة من أكثر الأماكن تشجيعا على تبادل الأحاديث. لقد أمضيت أمسيات كثيرة هناك في الحديث وأرخى الليل ستاره علي ومضى الوقت. أقر بأن «غينيس» هي أفضل ما في المدينة، لكن المحيط الرائع يجعل منه أنسب مكان لشرب نخب كتاب دبلن، فربما يكون ميراث المدينة الأدبي هو أفضل ما ستكتشفه في المكتبات، لكن ربما يكون من الأفضل مناقشته مع مشروب.

*خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ «الشرق الأوسط»