يمكن أن تعود بنغازي الواقعة في شرق ليبيا مدينة مهملة مجددا، بعد أن ظلت لستة أشهر مقر المعارضة الليبية المسلحة، ما لم تستغل موردا مهما.. النفط.
فسكان بنغازي يعملون جاهدين لتحويل تضحياتهم وقت الحرب إلى نفوذ اقتصادي لاستعادة مكانة المدينة التي كانت تعتبر في وقت من الأوقات ندا للعاصمة طرابلس، وانتشالها من الإهمال النسبي الذي كانت تعانيه في عهد معمر القذافي.
ففي عهد القذافي كانت حصة بنغازي من التمويل الحكومي تحت رحمة طرابلس، رغم أن معظم الأموال تأتي من الحقول النفطية الشرقية القريبة من المدينة، ويعتمد الاقتصاد الليبي بشكل كامل تقريبا على إيرادات النفط والغاز.
وحسب تقرير لوكالة «رويترز»، فقد كانت بنغازي، وهي مهد الانتفاضة ضد القذافي، في أسفل أولويات الإنفاق لدى العقيد المخلوع، وهو ما اعتبره كثيرون عقابا من جانبه للمعارضة التقليدية في الشرق لحكمه الذي استمر 42 عاما، ولهيمنة طرابلس. وقال مصدر في قطاع النفط الليبي في المدينة التي أقام فيها المجلس الوطني الانتقالي مقره في الأيام الأولى للانتفاضة «هناك شعور بالاستحقاق في بنغازي، وهم يريدون الجزاء. لقد تحملوا المسؤولية لمدة ستة أشهر، وهذا جاء بعد فترة من القمع».
ويجسد يوسف محمود، المهندس في شركة «الجوف» التابعة للمؤسسة الوطنية للنفط، مثالا للحس الإقليمي الناشئ في مسألة الموارد، والذي يمكن أن يقلب أوضاع صناعة النفط في البلاد. يقود محمود مجموعة من نحو 4000 من العاملين في قطاع النفط الحكومي تسمى لجنة 17 فبراير (شباط) النفطية، تقوم بالضغط على حكام ليبيا المؤقتين للحصول على سلطة أكبر في السياسة النفطية قد يرمز لها نقل مقر المؤسسة الوطنية للنفط من طرابلس إلى بنغازي. وشكا محمود قائلا «القذافي نقلها (المؤسسة الوطنية للنفط) إلى طرابلس لأنه أراد السيطرة. لكن أين تقع الحقول؟..»، ووضع إصبعه على خريطة لليبيا وعليها عدد كبير من الدوائر السوداء التي تمثل حقول النفط في حوض سرت بشرق البلاد.
ويسهم الشرق بأكثر من 60 في المائة من صادرات النفط. ويعتقد أن جزءا كبيرا من احتياطيات النفط الليبية غير المستغلة تقع في هذه المنطقة التي تضم حوض الكفرة الواقع قرب الحدود السودانية، بينما تمتلك ليبيا أكبر احتياطيات نفطية في أفريقيا. ويأمل سكان بنغازي أن تؤدي إيرادات النفط التي تبلغ نحو 130 مليون دولار يوميا بالأسعار الحالية لخام برنت إلى إنعاش الاقتصاد في الشرق، من تنظيف الشوارع إلى النهوض بصناعات جديدة مثل السياحة. وقال علي الذي يعمل في نزل للشباب في بنغازي «إنه ليس النفط فقط.. لدينا أماكن جميلة».
وتوجد في الفنادق بطاقات بريدية قديمة تذكر الزائرين بسحر المدينة في ما مضى. وتظهر إحدى البطاقات المتنزه الشاطئي الإيطالي لونغوماري الذي يتخذ شكل الهلال وله أعمدة مشيدة على الطراز الدوريسي اليوناني ويضم كاتدرائية كاثوليكية ذات قبتين. وتظهر بطاقة أخرى شاطئ جوليانا وهو ممتلئ بأطفال يمرحون. واليوم أصبح الزائرون للشاطئ يشمون رائحة مياه الصرف التي تفوح من كل مكان تقريبا، ويرون هياكل السيارات القديمة الصدئة.
وقد يكون من الصعب على حكام ليبيا الجدد تجاهل مطالب بنغازي نظرا للدور الذي لعبته المدينة في إشعال الانتفاضة ضد القذافي في فبراير، وفي قيادة الحملة العسكرية المدعومة من حلف شمال الأطلسي التي دحرت قوات القذافي حتى سرت. ولن تقبل كثير من الكتائب الشرقية الموالية للمجلس الانتقالي بأن ترى منطقتها تخسر في حقبة ما بعد القذافي، رغم أن مقاتلي الجبل الغربي ومصراتة ربما يكون لديهم نفس الحرص على تحويل إنجازاتهم العسكرية إلى قوة سياسية، لكن الورقة التي تلعب بها بنغازي هي النفط.
وقال هنري سميث، المحلل المختص بليبيا في شركة «كنترول ريسكس» للاستشارات ومقرها لندن «حين يبدأ اللاعبون المحليون المسلحون وربما الميليشيات في القول إن هذا النفط في منطقتنا.. يصبح هذا خطرا سياسيا ناشئا». وبالإضافة إلى الأدوار السياسية والعسكرية التي لعبتها بنغازي والتي جرى توثيقها بعناية، فقد لعبت شركة «الخليج العربي» للنفط التي مقرها بنغازي دورا محوريا في بيع النفط وشراء الوقود حين شلت العقوبات الدولية مؤسسة النفط الوطنية، وأدى هذا لقلب العلاقة بين الشركة الأم والشركة التابعة ربما إلى غير رجعة.
وقال مصدر رفيع في المؤسسة الوطنية للنفط إن هناك خططا لاستعادة السيطرة مجددا من شركة «الخليج العربي» للنفط بحلول منتصف أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، لكنه أضاف أنه سيتعين على الأرجح تعديل العلاقة بين الشركتين. وقال «سيكون هناك صراع على السلطة. تريد المؤسسة الوطنية للنفط أن تعود إلى دورها القديم، وتقول (الخليج العربي) إنها دعمت الثورة لذا تريد دورا أكبر»، وأضاف «إنها تريد قاعدة تجارية. تريد (الخليج العربي) الحصول على بعض الأرباح من العمليات». وفي مؤشر على التوترات المحتدمة، وصف مصدر داخل شركة «الخليج العربي» للنفط المؤسسة الوطنية بأنها «باب العزيزية لقطاع النفط» وهو اسم مجمع القذافي الحصين في طرابلس.
وسيكون علاج الشقاق التاريخي بين الشرق والغرب والخلافات الجديدة التي نشأت أثناء الثورة اختبارا رئيسيا للحكام المؤقتين للبلاد التي كثرت فيها الفصائل وانتشر السلاح. وترجع الخلافات الثقافية بين طرابلس وبنغازي إلى ما قبل العصر الروماني حين كانت طرابلس وبرقة إقليمين منفصلين. وكانت عائلة السنوسي الملكية من الشرق، وكانت بنغازي تعتبر ندا لطرابلس، قبل أن يطيح ضباط في الجيش بقيادة القذافي بالملك إدريس السنوسي في 1969.