آخر مدير لمؤسسة القذافي العالمية: توجست خيفة من العمل مع المعتصم لما سمعته عنه من غلظة وجفاء في التعامل

الصواني لـ «الشرق الأوسط»: ركزنا عملها على الخارج لأن القذافي لا يقبل نشاطا خيريا بين «الليبيين السعداء في جماهيريتهم العظمى» (2 ـ 3)

د. يوسف محمد الصواني
TT

يكشف الدكتور يوسف محمد الصواني المدير التنفيذي، السابق والمستقيل، لمؤسسة القذافي العالمية للجمعيات الخيرية والتنمية التي كان يترأسها سيف الإسلام النجل الثاني للعقيد الليبي الهارب معمر القذافي، في شهادته لـ«الشرق الأوسط» التي تنشر اليوم الحلقة الثانية منها، عن إهمال سيف الإسلام للمشاريع الإصلاحية التي كان ينادي بها واستعانته بمكتب استشارات أميركي لوضع خطط إصلاحية اقتصادية، وفي آخر المطاف ذهبت كل الجهود التي أنفقت عليها ملايين الدنانير الليبية سدى.

وتحدث الصواني، الذي استقال من منصبه كأحد أبرز المقربين من سيف الإسلام في أول ظهور إعلامي له على الإطلاق منذ اندلاع ثورة 17 فبراير (شباط) ضد القذافي، عن «مشروع رؤية ليبيا لعام 2025»، الذي تبناه الدكتور محمود جبريل، المسؤول في مجلس التخطيط العام آنذاك ورئيس المجلس التنفيذي في المجلس الوطني الانتقالي الليبي حاليا، وقال إنه كان يفترض بسيف الإسلام القذافي أن يكون راعيا للمشروع لكنه لم يوله الاهتمام المناسب وكان أكثر حرصا على الاستعانة بالخبراء والاستشاريين الأجانب. وكشف عن أن قادة اللجان الثورية صبوا جام غضبهم على المشروع، وإنه من المثير للسخرية أن اللجان الثورية قالت آنذاك إن المشروع لـ«الإخوان المسلمين»، وإن جبريل «شيخ الإخوان المسلمين في ليبيا»، وتابع «وهو أمر يكتسي طرافة اليوم أمام هجوم الإخوان المسلمين على جبريل ووصفه بنعوت مختلفة كالليبرالية والعلمانية».

الصواني الذي يعمل الآن أستاذا للعلوم السياسية بالجامعة الليبية، (الفاتح) سابقا، في العاصمة طرابلس، تحدث أيضا عن المعتصم، النجل الآخر للقذافي، الذي كان يعارض بالكامل كل ما يقوم به سيف الإسلام مدعوما باللجان الثورية، وما اصطلح على تسميته بالحرس القديم. وقال بأنه توجس خيفة من العمل مع المعتصم، عندما تم تكليفه بمنصب مستشار للأمن الوطني، لما سمعه عنه من «غلظة وجفاء» في التعامل. وتحدث عن العلاقات التنافسية بين الأشقاء من أجل إرضاء القذافي الأب، وكيف أن كل واحد منهم كان يحاول تخريب ما يقول به الآخر. وإلى نص الحلقة الثانية:

* متى فكرتم في إعداد ما يسمى بالاستراتيجية الاقتصادية والاجتماعية؟

- في هذه الفترة تعاقدت ليبيا بدفع من سيف القذافي مع الاستشاري الأميركي «مونيتور غروب» Monitor Group التي أجرت دراسة للاقتصاد الليبي وأصدرت تقريرا سمته «الورقة البيضاء حول التنافسية الاقتصادية»، وكان مايكل بورتر الأستاذ بهارفارد وصاحب الإسهام المعروف في مجال التنافسية هو من أشرف على التقرير الذي وزع على عدد من المختصين الذين كنت أحدهم لقراءته نقديا. كتبت نقدا مفاده أن التقرير يوصي بالإصلاح الاقتصادي ويتجاهل الإصلاح السياسي والمؤسسي، وأن من شأن ذلك النسج على منوال تجارب كان همها تأجيل الديمقراطية لأجل النمو الاقتصادي وأننا في ليبيا كمجتمع هيدروكربوني ودولة ريعية محتاجون إلى ما هو أبعد من ذلك وما هو أبعد من توزيع الثروة.. إلى خلق الثروة. أدى ذلك إلى توريطي بشكل مباشر في المرحلة الثانية مما عرف بالاستراتيجية الوطنية الاقتصادية والاجتماعية كعضو في لجنتها التنفيذية ومسؤول مباشرة عن القطاع الرئيسي الثاني فيها والمتعلق بإصلاح المؤسسات السياسية.

كان العمل يقوم على فريق مشترك من الخبراء الأجانب والوطنيين الذين أجروا دراسة تحليلية للأوضاع القائمة في ليبيا واستخدموا النظريات الاجتماعية ونظرية التغيير بشكل خاص في استطلاع آفاق الإصلاح المأمول وآفاق إنجاحه. إنني إذ أستذكر ذلك العمل وذلك الجهد العالي المستوى الذي بذلناه أشعر بفخر جديد بما في بلادي من طاقات وقدرات أنتجت عملا رائعا بكل المقاييس وأشعر بالحسرة الشديدة لأن ذلك العمل كله الذي كلف إعداده ملايين الدنانير قد ضاع سدى ولم يتم تنفيذ أي من توصياته التي أزعم واثقا أنه كان من شأن تطبيقها تحويل البلاد والانطلاق نحو عملية تحول ديمقراطي حقيقي.

* كيف بدأ ما يسمى بمشروع رؤية ليبيا لعام 2025؟

- قادني إهمال المقترحات التي تمخضت عن عملنا بفريق تطوير المؤسسات السياسية لقدر من الإحباط كان موازيا لإحباط آخر ارتبط بمشروع صياغة رؤية لليبيا عرفت بمشروع رؤية 2025. كانت هذه فكرة ومشروعا تبناه الدكتور محمود جبريل إبراهيم أثناء قيادته لمجلس التخطيط العام وتم تنفيذها من خلال مركز الدراسات والبحوث بجامعة قاريونس، وكان لي شرف قيادة أحد محاوره الرئيسية وهو المتعلق بالسياسة الخارجية والأمن الوطني. كان عملا وطنيا بامتياز شارك فيه أكثر من مائة وثلاثين باحثا ومثقفا وممارسا من الخبراء الوطنيين الذين قادوا تمرينا عالي الكفاءة والمهنية والوطنية.

كان يفترض بسيف القذافي أن يكون راعي هذا المشروع لكنه لم يوله الاهتمام المناسب وكان أكثر حرصا على الاستعانة بالخبراء والاستشاريين الأجانب. واجهت المسودة الأولى لورقة المشروع هجوما حادا في مجلس التخطيط العام وصب قادة اللجان الثورية وجهلاؤها أيضا جام غضبهم على المشروع. ولعله من الطريف أن الاتهام كان أن هذا مشروع لـ«الإخوان» وأن محمود جبريل هو شيخ الإخوان المسلمين في ليبيا، وهو أمر يكتسي طرافة اليوم أمام هجوم الإخوان المسلمين على جبريل ووصفه بنعوت مختلفة كالليبرالية والعلمانية! وجدتني أكثر من مرة أجادل سيف القذافي بشأن الرؤية وأهميتها، وأذكر ذات يوم وقد بلغ بنا الإحباط مبلغا كفريق أن أجريت به اتصالا هاتفيا وهو خارج ليبيا وكان ذلك بحضور محمود جبريل ومن مكتبه طالبا منه التدخل لإنقاذ الرؤية من أن ترمى في الأدراج وكيف أنه لم يول الأمر أي اهتمام. ما كان علينا حينها إلا التفكير في طريقة لنشر الرؤية دون المخاطرة بالمساءلة القانونية وكان الأمر كذلك، مع أن موقفه وموقف والده من الرؤية لم يتغير.

* أنت عشت هنا لحظات الصدام بين الحرس القديم والإصلاحيين.

- كانت التجربة المرتبطة بالرؤية وقبلها بالدستور قادتني إلى أنه لا فائدة من محاولات كهذه، إلا أن الإخوة الذين عملت معهم كانوا يدفعون باتجاه الاستمرار لأنه ليس هناك من بديل في الأفق، كان رأي كل من عمل في مبادرات الإصلاح أنه ليس هناك من ضوء في آخر النفق، اللهم إلا ما قد يحمله سيف. لقد تغذى هذا الانطباع أيضا بما كنا نشهده ونسمع عنه من تناقض بين سيف ووالده وإخوته وخاصة المعتصم الذي انحاز بالكامل لمعارضة كل ما يقوم به سيف مدعوما باللجان الثورية وما اصطلح على تسميته بالحرس القديم.

أذكر هنا أنني طلبت في تلك الفترة لمقابلة المعتصم القذافي الذي كان قد كلف مستشارا للأمن الوطني وكان يعد الترتيبات لمباشرة مهامه ببناء التنظيم وإيجاد العناصر البشرية للعمل معه. توجست خيفة من لقاء المعتصم الذي كان يشار إليه بالغلظة والجفاء في معاملة الناس. لم يكن هناك بد مما ليس منه بد كما يقال. ذهبت لمقابلته، والحقيقة أنني فوجئت بطريقة استقباله الدافئ لي بداية من باب المكتب الصغير الذي كان يجلس فيه ومرورا بالحرص على ضيافتي بشرب القهوة التركية أو العربية كما نسميها في ليبيا. كان ملاطفا ومجاملا وأظهر لي الاحترام الذي ناقض كل ما سمعته عنه، ولا أدري إن كان ذلك هو حاله أم أنه استثناء على القاعدة، وخاصة أنه كان اللقاء الأول والأخير بيننا.

تحدث المعتصم عن رغبته في بناء مؤسسة للأمن الوطني لخدمة البلاد وحمايتها وهي حسب قوله مهمة خطيرة يتصدى هو لها بإمكانات بسيطة معلقا على بساطة سيارته ومكتبه، وهي لا توحي بأنه ابن رئيس، حسب قوله. طلب مني مباشرة أن أعمل معه لأساعد في بناء المنظمة وكان الأمر بالنسبة لي مفاجأة كبيرة.

* لماذا تفاجأت بالأمر وكان يبدو منطقيا للبعض؟

- لم أكن نفسيا مستعدا للعمل مع المعتصم بسبب ما كان يشاع عنه، لذلك فكرت مسرعا في استراتيجية الخروج من المأزق، قلت له إنني مستعد للعمل ولكن مع مراعاة ما يلي:

أولا: أنني غير مستعد للتفرغ التام ولن أتنازل عن التدريس الجامعي، بمعنى أنني غير قادر على التفرغ للعمل تماما ولكن في حدود ما لدي من وقت فراغ.

ثانيا: أنني مكلف بأعمال تخص أخاه سيف وأن الجمع بين العملين غير ممكن من ناحية القدرات الجسمية والذهنية ولعامل الوقت، اللهم إلا إذا تحدث هو مع أخيه لإعفائي من تلك التكليفات.

وأخيرا لمحت له بأنني لا أنتمي لأي فريق في البلد وأنني ابن فلاح بسيط درست بجد واجتهاد وربيت على عزة النفس والكرامة.

ثم قمت بالإشادة بما سيقوم به وأنه أمر مهم للوطن ومستقبله وأنني في حدود ما قلت مستعد للتعاون.

فهم المعتصم القذافي الرسالة وقام من فوق كرسيه متجها نحو الباب إيذانا بانتهاء اللقاء، قائلا «أنت لا تريد العمل معنا!»، رددت على الفور مرتبكا بأنني مستعد للتعاون وأن الأمر مهم وواجب وطني وأن البلد بحاجة للتفكير استراتيجيا في مسألة الأمن الوطني الذي يجب أن ينطلق من أمن المواطن وتعزيز فرص التنمية. أنهى المعتصم الحوار قائلا في ازدراء واضح «قل هذا لصاحبك سيف».

خرجت من عند المعتصم القذافي وأنا ألعن اليوم الذي درست فيه علم السياسة الذي أدخلني في هذا الأمر ودعوت الله صادقا أن يجعل العواقب سليمة. الحمد لله لم يحدث لي مكروه مثل ما توقع عدد من الأصدقاء الذين أطلعتهم على ما جرى. لا شك أن الله ستر ثم إن تكليفي مديرا تنفيذيا لمؤسسة القذافي بعد ذلك بوقت قريب كان حاسما في إبعادي عن مرمى نيران المعتصم ولو لوقت.

* كيف كانت علاقة سيف مع أشقائه؟

- علاقته بإخوته كانت شائكة ولا تخلو من الحساسيات، الجميع كانوا يتنافسون على الحصول على نصيب أكبر عن طريق إرضاء الأب، كان كل واحد يحرص على تخريب ما يقوم به الآخر.

* كيف بدأت العمل للمرة الأولى في مؤسسة القذافي؟

- كنت عائدا من زيارة لبريطانيا برفقة زوجتي لأسباب صحية في بداية الأسبوع الثاني من شهر أبريل (نيسان) 2007. بمجرد أن وصلنا إلى مطار طرابلس وكنا بانتظار تسلم حقائبنا رنّ هاتفي ولم أكن أعرف الرقم المتصل. ترددت في الإجابة ثم فعلت. كان المتحدث على الطرف الآخر هو محمد إسماعيل الذي عرفني بنفسه. لم أذكره، فأشار إلى أننا كنا قد تقابلنا في ندوة نظمتها أكاديمية الدراسات الدبلوماسية بمالطا قبل بضع سنوات وأنه يعمل سكرتيرا خاصا لسيف القذافي. كان الغرض من المكالمة إبلاغي بأن سيف القذافي قرر تكليفي بمهام المدير التنفيذي لمؤسسته «مؤسسة القذافي العالمية للجمعيات الخيرية والتنمية». فوجئت بالأمر وأنه جاء على هذا النحو. في الحقيقة لم أكن أعرف عن المؤسسة إلا القليل ولم أكن قد زرتها من قبل. كانت كل حدود معرفتي بها هو لقائي بمديرها صالح عبد السلام الفرجاني أكثر من مرة بمكتب عبد الله عثمان بالمركز العالمي دون أن يجري بيننا أي حوار، ودون أن أشارك معهم في أي عمل.

أبلغني محمد إسماعيل بأن الأمر مستعجل وأنهم كانوا يبحثون عني منذ أيام. قلت له إنني لا أعرف شيئا عن هذه المؤسسة وعملها فكان ملحا على ضرورة تنفيذ «تعليمات سيف». بينت له أنني قادم للتو من السفر وأني أنتظر حقائبي لأعود للبيت وليس لدي وقت الآن وأنهيت المكالمة. بمجرد خروجي من صالة المطار وركوبي السيارة عاود اتصاله وكرر ذات الطلب. قلت له إن التعليمات لا تعنيني، فأنا لا أعمل مع سيف ولست موظفا لديه. ألح هو في طلبه مستلطفا فوجهت له سؤالا عن دوره وهل هو تبليغ الرسالة فقط، فأجاب بـ«نعم» وعندها قلت له إن مهمته انتهت. أقفلت هاتفي وعدت للبيت ليظل هاتفي مقفلا لمدة ثلاثة أيام متوالية. في اليوم الرابع ذهبت للجامعة لإلقاء الدروس على طلابي بقسم العلوم السياسية وبمجرد خروجي من قاعة الدرس شغلت هاتفي الذي رنّ بمجرد اتصاله بالشبكة لأجد أن المتحدث هو صالح عبد السلام الفرجاني الذي أعاد على مسمعي ما أبلغني به محمد إسماعيل. كان صالح أكثر إلحاحا ورجاني أن أقبل وأن أتولى المهمة وأتسلم منه. علمت لاحقا أن مشكلة ما حصلت وقرر سيف استبدالي شخصيا بصالح في إدارة المؤسسة. كان الأمر بالنسبة لي معقدا ومربكا في آن واحد. هل أقبل أم أرفض؟! وما هي انعكاسات ذلك؟!

* لماذا رأيت الأمر مربكا إلى هذا الحد؟

- كان سيف وقتها قد حاز مركزا بارزا في نظام أبيه وبين قادة الغرب بشكل خاص. لقد حقق نجاحات أرضت الطرفين: القذافي كان لاهثا من أجل إعادة الاعتراف به من المجتمع العالمي والقوى العظمى وخاصة أميركا وكان مستعدا للقيام بأي تنازلات. الغرب كان يسعى لاحتواء القذافي وتحويل ليبيا من دولة مارقة إلى طرف يمكن الدخول معه في صفقات. نجح سيف في تحقيق رغبات الطرفين فحقق لنفسه مركزا مرموقا بينما أحاط نفسه بعدد من الاستشاريين الغربيين وبدأ يدرس السياسة بلندن ليكتمل له أمر المباركة الفكرية أيضا التي عززها بمشاركته في منتدى دافوس أيضا.

* هنا وجه آخر لنجل القذافي، حدثنا عنه.

- كان للنفط والمال الليبي والموقع الاستراتيجي سحره أيضا، فقدر لسيف أن تلتقي مصالحه مع إمبراطوريات المال والمصارف والشركات الكبرى التي وفر لها عقودا مغرية. لم يهمل سيف أي شيء بل حاول أن يضع في حقيبة معداته السياسية كل أنواع العلاقات. ارتبط بعلاقات مع رجال المخابرات ورجال المال واليهود ورجال الفن ورجال ونساء السهرات المخملية والمنتجعات وهو ما يثير أسئلة كثيرة حول مصدر ما يقوم بإنفاقه على حياته المرفهة ورحلاته الخاصة. أعتقد أن سيف تمكن من بناء إمبراطورية مال في الخارج بمساعدة أصدقائه وهي التي كان يديرها عبد الرحمن الكرفاخ ويساعده آخرون مثل مصطفى زرتي ورجب إلياس وغيرهما، وهي التي وفرت له حياة الرفاه وليس الفقر كما كان يشاع. كما نجح سيف في نسج علاقات واسعة مع مجتمع الصحافة من كل المشارب. كانت له جاذبيته ولا شك أن كثيرين رأوا فيه أكثر من فرصة، فيما أراد هو تمتين عدته في الخارج ليكون أكثر قدرة على الأداء في لعبة الداخل.

* وكيف وافقت إذن على العمل معه؟

- قررت استشارة بعض الأصدقاء وبعض ممن لهم خبرة في التعامل مع النظام، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء الأسبق المهندس جاد الله عزوز الطلحي الذي ربطتني به مودة شخصية عندما كنا معا جزءا من فريق الحوار الليبي - الأميركي. جاد الله الطلحي اختصر المسألة في أنه علي القبول درءا لأي تأويلات. شرحت له حرصي على استقلاليتي وأنني لم أعد نفسي لأكون مجرد موظف ينفذ التعليمات، أجابني بأنهم إن كانوا راغبين فيك كشخص فسيقبلون ويحترمون كيانك، وإن كان العكس فعندها سيعطونك المبرر للانسحاب.

لم تكن نصيحة الطلحي مقنعة تماما لذلك قلت لصالح عبد السلام الذي واصل الاتصال بي إنني لن أبدي رأيا قبل أن أتحدث مع سيف وأفهم ما المطلوب مني بالتحديد والوضوح اللازم. كان الأمر أن أعطاني صالح عبد السلام رقم هاتف سيف القذافي الذي كان وقتها بالبيضاء. تحدثت إليه بالهاتف وحاولت الاعتذار غير أن الإصرار كان إجابته الوحيدة. طلبت منه إعطائي مهلة أطلع خلالها على المؤسسة وأعد له مقترحا لما أرى ضرورة القيام به، فوافق على ذلك.

* على أي نحو دشنت عملك الجديد في المؤسسة؟

- زرت المؤسسة وطرحت أسئلة وقرأت ملفات وفي خلال أيام كتبت مقترحا حول رؤيتي للمؤسسة ومكامن الخطأ وما يجب عمله. كان محور تركيزي ينصب على ضرورة جعلها منظمة غير حكومية، فصلها عن شخص مؤسسها ورئيسها وأخيرا إبعادها عن النشاط التجاري وتصفية الشركات التابعة لها، وخاصة أن غالبيتها كانت تعاني من الخسائر أو من مشاكل عالقة أو أن عائدها لم يكن مناسبا. عموما رأيت أنه لا يستقيم وجود مؤسسة خيرية من ناحية وتتصدى للإصلاح من ناحية أخرى.. أن تمارس أعمالا تجارية بما يلحق الضرر المعنوي بأجندتها ويخالفها. اقترحت أيضا إمداد المؤسسة بكوادر مؤهلة ومتخصصة وتنظيمها على شكل مكاتب تخصصية وفقا لأهدافها وأنشطتها.

أرسلت المقترح لسيف القذافي وبعد يومين اتصل بي منذر رمضان الذي عمل مساعدا له ليبلغني عن اجتماع يخص الموضوع. كان مكان الاجتماع ببرج «ذات العماد» حيث التقيت بالإضافة إلى منذر، عمران أبو خريص وعبد الرحمن الكرفاخ وهو الأكثر صلة بسيف ومخزن أسراره ودينامو نشاطاته المختلفة وهمزة الوصل بينه وبين الحكومة وناقل تعليماته والمتحدث باسمه معا.

بدأ الكرفاخ الحديث وكان يقلب بين يديه نسخة من المقترح الذي أعددته أنا متسائلا عن جوانبه. لم أرتح للطريقة المتعالية التي تحدث بها معي ولا لتعليقاته حول المقترح. كنت بالنسبة لهم أجنبيا ولست من الفريق الذي يشملهم. وبدأ الكرفاخ في محاولة القصد منها أن يبين لي أنه صانع قرار وأنه الشخص الأهم بعد سيف وربما أنه المعني بكل شيء. احتد النقاش وقلت له إن هذا المقترح هو يوسف الصواني وإنه أعد لرئيس المؤسسة وهو غير قابل للتجزئة. رد بانفعال وتعال كبيرين بأنهم يقررون ما يرغبون وأنهم يضعون أو يرفعون من يشاءون. استفزتني اللغة وأغاظني الأسلوب المبتذل فرددت عليه بأني غير معني بما يقول وأنني لست هنا لأناقش المقترح ونهضت وخرجت من الغرفة غير آبه بما كان يقول. لحق بي منذر رمضان محاولا إرجاعي للمكتب إلا أنني رفضت ولم أعد.

* وماذا فعلت لاحقا؟

- عدت لمكتبي وأجريت اتصالا بمحمد إسماعيل وأبلغته ما جرى وطلبت منه أن ينقل استيائي الشديد لسيف وأن الأمر بالنسبة لي قد انتهى قبل أن يبدأ. لم يمض وقت طويل حتى اتصل بي سيف هاتفيا متسائلا عن الموضوع فأبلغته ما حدث واستيائي، وكان جوابه أن مقترحي مقبول بكامله وأنه بإمكاني تنفيذه دون أن آبه بأحد. قال لي إنني رئيس المؤسسة ومديرها أيضا، فأبديت تقديري له كرئيس فكرر قوله بأن أعتبر نفسي الرئيس قائلا «شيل اللي تبي تشيله وحط اللي تبي تحطه»، أي إن لي مطلق الحرية في اتخاذ القرارات المنسجمة مع مقترحي.

بهذه الطريقة ضمن سيف القذافي قبولي بالمهمة وهذا ما حدث وطلبت منه أن يأذن لي بالاتصال به لأخذ رأيه كلما كان ذلك لازما. غير أني اكتشفت بعدها مباشرة أن المؤسسة التي كلفت بها لم تكن تعني الشيء الكثير وأن الفريق الخاص لسيف بقيادة الكرفاخ وصالح ومنذر ومحمد إسماعيل وآخرين كانوا يديرون شبكة واسعة من الأعمال والمهام التي تتم باسم سيف والمؤسسة دون أن تكون لي صلة بالأمر.

* وهل أطلعت نجل القذافي على القصة؟

- نعم، أبلغت سيف عدم رضاي عن الأسلوب المتبع والاعتماد على أشخاص بعينهم دون أن تكون لديهم بالضرورة المؤهلات اللازمة، إلا أن أي تغيير لم يحدث. ذات يوم جرى بيننا نقاش جاد حول إدارته للأمور وكنت أقترح أن ينظم العمل من خلال مكتب يتولى كل قسم فيه قطاعا ما بالدراسة وإعداد المقترحات والتواصل مع الناس. كان أن رد علي مستهزئا: «أتقصد حكومة ظل؟!»، أجبته بأن الأمر ليس بالضرورة كذلك، فأجاب بأنه مثل والده دائما «موبايل». أيقنت حينها أن الأمر يخرج عما تصورته وأن المسألة أبعد من ذلك بكثير.

قادني العمل للتعرف على جوانب عديدة ذات صلة بسياسة البلد وعلاقات العائلة والسلطة والداخل والخارج وتفاعلهما. غير أن أهم اكتشافاتي كانت أن العمل الذي طلبت من أجله يمكن أن يقدم للبلد خدمة تاريخية. رأيت أنه من المهم أن أستغل موقعي في فسح المجال أمام قوى اجتماعية ونشطاء ومنادين بالإصلاح حتى يتمكنوا من القيام بدور أوسع لدفع البلد نحو التغيير ولو ببطء. كنت وما زلت أؤمن بالتأثير القوي للأعمال الصغيرة وبنظرية «توسع بقعة السائل المنسكب على أي سطح» spell over effect، وبالنظرية الوظيفية بشكل عام، لذلك قررت أن أخوض غمار التجربة مستعينا في ذلك بالكثيرين ممن التحقوا بما عرف بـ«ليبيا الغد»، مستندين إلى ما أمكن توفيره من حماية مظلة المؤسسة.

* لماذا كان القذافي يرفض فكرة نشاطكم الخيري؟

- كان العمل في المؤسسة ذا طابع خيري ركز على الخارج لكون القذافي الأب كان لا يقبل نشاطا خيريا بين «الليبيين السعداء في جماهيريتهم العظمى»، لذلك لعب سيف على ذلك وسعى أيضا لاستغلال هوس أبيه ذي المصادر المتعددة بأفريقيا وحدد للمؤسسة مجال العمل الخيري خاصة في أفريقيا، جنوب الصحراء، وبالذات تشاد والنيجر ومالي وبوركينا فاسو، بالإضافة إلى ساحات ارتبطت هي الأخرى بأبيه مثل باكستان وجنوب الفلبين واليمن. لقد ارتبطت بعض هذه المناطق بعمليات دفع فديات وإطلاق رهائن تمت قبل أن ألتحق بالمؤسسة غير أن إحساسي أنه كان يتم تدبير الأموال من خارج المؤسسة لتحقيق مكاسب سياسية.

* وكيف كان الأمر؟

- كانت معاناة مضنية تلك التي عشتها في محاولة لمأسسة هذا العمل الذي اعتمد على أشخاص معروفين لسيف أو للكرفاخ دون قيود أو شروط. أذكر أن مشاريع كثيرة كانت تقرر وتنفذ دون دراسة أو في غياب المختصين وكانت مجرد هدر للأموال. واجهت المعارضة الشديدة والصعوبات الجمة لترتيب الأمر وجعله علميا بدرجة مناسبة. من ناحية أخرى قضيت وقتا وجهدا هائلا في محاولة إقناع سيف والحكومة بأنه من المفيد أن تتلقى المؤسسة دعما غير مباشر لصالح مشاريع محددة وأن تحصل على أموالها بطريقة شفافة من أي مصدر. لم أنجح في ذلك إلا بعد أن بينت لسيف أن قبول المؤسسة دوليا كمنظمة غير حكومية يقتضي ذلك.

* وكيف كان رد فعل سيف الإسلام القذافي؟

- كانت كل خطوة تحمل في طياتها معركة وكان سيف القذافي لا يأبه كثيرا بما يجري وظلت المؤسسة غير قادرة على التحول تماما لمنظمة غير حكومية رغم جهود أعضاء مجلس أمنائها من شخصيات عالمية. ظلت المؤسسة في الداخل تعاني من التشرذم ومن وجود مراكز قوى حول سيف القذافي الذي لم يكن يأبه كثيرا بالتمييز بين من يكلف وبماذا، إذ كثيرا ما كان يكلف أحدا ما للقيام بعمل ما يقع ضمن دائرة اختصاص شخص آخر، وكان مثيرا للإرباك مما جعل العمل مشخصنا ويعتمد على العلاقات غير الرسمية. كانت مسائل كثيرة وربما أموال كثيرة لا أعلم مصدرها يجري القيام بها والتصرف فيها دون المرور على الإدارة الرسمية للمؤسسة ممثلة في مديرها التنفيذي.

* من كان يدير الأمر إذن؟

- كانت هناك شبكة محدودة من الأشخاص ضمت عبد الرحمن الكرفاخ ومحمد إسماعيل ونجمي أبو راوي وعمران أبو خريص ومصطفى الزرتي وفتحي لاغا وفيصل الزوي وغيرهم ممن يقومون بما لم يكن متاحا لي معرفته. لم أكن أسأل وحافظت دائما على مسافة مناسبة بيني وبين سيف وهؤلاء ضمنت لي احترامي. غير أن ما شدني أكثر للعمل فيما بعد كان تكليفي من خلال المؤسسة بالتعبير عن وإدارة مبادرات ذات صلة وثيقة بالإصلاح السياسي والحقوقي. يتعلق الأمر هنا بمبادرات المنابر السياسية والإعلام والمجتمع المدني من خلال تأسيس مركز الديمقراطية وجمعية العدالة لحقوق الإنسان ومواصلة العمل في مسألة الدستور.

كل مبادرة من هذه المبادرات كانت تجربة غنية بحد ذاتها وكانت تقدم الدلائل والإشارات لفهم ما يجري وما سيجري في ليبيا خلال السنوات القادمة. لذلك فإنني سأخص هذه المبادرات بعرض مفصل للتأريخ لها من ناحية، ولبيان الدروس التي استخلصتها منها فيما يتصل بسيف القذافي والمشروع الذي قاده.. حقيقته ودوره وأثره وأسباب فشله بما يخدم المساهمة في جلاء الصورة عن هذه المرحلة المهمة، ويساهم في الإجابة المتعلقة بتفسير الموقف الذي اتخذه سيف القذافي من ثورة الشعب الليبي في السابع عشر من فبراير وما انتهى إليه من انحياز كامل لعائلته ولآلة القمع والقتل التي استخدمت ضد الشعب.