اقتصاديون ينصحون إدارة أوباما: عاقبوا تريليونات الصين وليس صادراتها

دبلوماسية الـ«بينغ بونغ» التي نفذها كيسنجر نقلت بكين من العزلة إلى الهيمنة

الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون الذي طبق سياسة الانفتاح على الصين
TT

منذ دبلوماسية الـ«بينغ بونغ» في السبعينات التي نفذها وزير الخارجية الأميركي، هنري كيسنجر، على عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، لإخراج الصين من عزلتها إلى الشراكة في المسرح العالمي، وإلى دخول بكين إلى منظمة التجارة خلال العقد الماضي، باتت الصادرات الصينية تشكل صداعا مزمنا للولايات المتحدة وباقي دول العالم الحر، حيث واصلت بكين إغراق العالم بالبضائع الرخيصة، مستفيدة في ذلك من اليد العاملة البخسة الأجر، والعملة الصينية المنخفضة جدا مقابل العملات العالمية، وعلى رأسها الدولار. من خلال سياسة الإغراق نجحت الصين في قتل الصناعة والوظائف في أميركا.

الولايات المتحدة الآن في عنق الزجاجة، بمواجهة الركود بعد كل الخطوات التي اتخذها مجلس الاحتياط الفيدرالي لإنعاش الاقتصاد وخلق فرص عمل جديدة للأميركيين. البعض يرى أن الفشل ليس في سياسة التحفيز، ولكن في سياسة الإغراق التي تمارسها الصين في الأسواق الأميركية. رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي، بن بيرنانكي، يرى أن هيمنة الصين على سعر صرف عملتها (الرينمينبي) يبطئ الانتعاش، ليس في أميركا وحدها، ولكن في كل أنحاء العالم. من جانبه يقول الرئيس أوباما: «كانت الصين عنيفة جدا بالتلاعب بالنظام التجاري لمصلحتها.. إنهم يتدخلون بشكل كبير في الأسواق»، ولكن ما الذي يمكن أن تفعله أميركا تجاه التلاعب بالعملة الصينية؟

الكونغرس الأميركي يتجه يوم الثلاثاء المقبل إلى فرض رسوم جمركية كبيرة على بعض الصادرات الصينية، ولكن هذه السياسة قد تتعارض مع قوانين منظمة التجارة العالمية، وتفتح الباب للسياسات الحمائية، وربما ترد الصين بإجراءات عقابية على الشركات الأميركية. من هذا المنطلق ترى دراسة صادرة عن معهد «بيترسون إنستيتيوت» الأميركي، المتخصص في الدراسات الاقتصادية، أن مثل هذه الإجراءات العقابية قد لا تكون مجدية.

منذ دخول الألفية الثالثة بدأ الاقتصاد الأميركي يترنح تحت ضربات العجز في الميزانية، وفاتورة خدمة الديون العامة المتزايدة، وارتفاع معدل البطالة، وصاحب ذلك زيادة في ميزان العجز التجاري الأميركي مع الصين، وزيادة في رصيد الصين الدولاري، في ظل هذه الظروف أصبح من الصعب على الولايات المتحدة أن تتحمل تبعات السياسة النقدية الصينية، وارتفعت الأصوات في الكونغرس مطالبة بوضع حواجز تجارية على بضائع الصين المستوردة في أميركا، ومنذ عام 2010 سمحت الصين لعملتها الرينمينبي بالارتفاع بمعدل 5 في المائة مقابل الدولار، ولكنها واصلت دون تباطؤ في حيازتها للموجودات الأميركية، مما يعني أن الرينمينبي لا يزال أقل من قيمته الحقيقية.

وسط هذه الظروف التي تخنق أميركا، فإن إدارة الرئيس أوباما بحاجة إلى اتخاذ إجراء لإعادة ميزان التجارة الذي يميل إلى صالح بكين، وقد فشلت جولات الحوار السابقة التي عقدت بين أوباما والرئيس الصيني، جينتاو، في إحداث أي تقدم تجاه معالجة ملف التجارة والرينمينبي الساخن، وأصبح المجال مفتوحا الآن لمعاقبة الصين، ولكن ما هي الإجراءات التي يمكن أن يتخذها الكونغرس لمعاقبة الصين؟

تقول الدراسة من غير المتوقع أن تقود إجراءات عقابية بسيطة، مثل فرض رسوم على صادرات الصين إلى أميركا، إلى تحقيق الهدف المطلوب، المتمثل في خفض العجز التجاري الأميركي، أو خفض معدل البطالة، كما أن اتخاذ إجراءات عقابية كبيرة على تجارة الصين، مثل فرض تعرفة جمركية، أو تحديد حصة تصديرية، ربما يواجه بمعارضة منظمة التجارة العالمية، ويفتح الباب أمام رد فعل تجاري بمعاقبة الصادرات الأميركية إلى الصين. كما أن خيار الحرب التجارية بين الدولتين ربما يجابه بمعارضة من الشركات الأميركية صاحبة المصلحة في الصين؛ لهذه الأسباب يعتقد المسؤولون الصينيون أن واشنطن ليس أمامها خيارات، وأن التهديدات التي يطلقها المسؤولون الأميركيون تهويش وتهديدات لا تحمل وزنا حقيقيا.

من هذا المنطلق تعتقد الدراسة التي صدرت حديثا عن معهد «بيترسون إنستيتيوت» الأميركي، أن العقاب الأفضل للصين هو فرض ضرائب على تلاعب الصين بعملتها بدلا من معاقبة الصادرات الصينية. وفي سبيل الحفاظ على قيمة الرينمينبي متدنية مقابل الدولار، تعمل الصين على شراء الموجودات الدولارية في شكل مشتريات لسندات الخزانة الأميركية الطويلة والقصيرة الأجل، وتقول الدراسة: «لكي تتمكن أميركا من شراء أذونات الخزانة الأميركية، فعليها أن تفرض ضرائب على الأرباح التي تحققها بكين من الموجودات الدولارية التي تملكها في أميركا، وضربت مثلا على ذلك، وهو أن الإدارة الأميركية يمكن أن تفرض ضرائب بمعدل 30 في المائة على أرباح السندات الأميركية؛ إذ تستطيع بهذه الآلية جمع ثلاثة مليارات دولار على كل 10 مليارات دولار يربحها البنك المركزي الصيني من سندات الخزينة الأميركية». وقالت: «مثل هذه الضريبة مسموح بها في قوانين منظمة التجارة العالمية، ولكنها قد تحتاج من الولايات المتحدة إلى اتباع وسيلة إجرائية صحيحة لإلغاء أو تعديل اتفاقية الضرائب مع الصين، وعلى الرغم من أن فرض الضرائب على موجودات الصين في أميركا سيثير غضب بكين، فإنه لن يسمح للصينيين بالرد على أميركا ومعاقبتها؛ لأن الموجودات التي يملكها الأميركيون في الصين تقل عن 10 في المائة من الموجودات الصينية في أميركا».

وأشارت إلى أن هذا الخيار سيسمح للإدارة الأميركية بفرض حظر تجاري على الصادرات الصينية، إذا تعاملت الصين بشكل غير عادل مع الصادرات والشركات الأميركية كرد فعل على فرض الضرائب على موجوداتها. وقالت الدراسة إن الضريبة على الموجودات يمكن أن تكون عامة على صادرات كل الدول التي تشوه السعر العادل لعملتها في سبيل الحصول على مزايا تجارية، ويمكن أن تبدأ الضريبة بـ3 في المائة وترتفع حسب معدل التشويه لسعر الصرف، وقالت: «بهذا الأسلوب تستطيع أميركا أن تؤثر إيجابيا على سياسة الصين النقدية والدول الأخرى التي تستخدم آلية سعر الصرف بشكل خاطئ، وتجبرها على تعويم سعر الصرف بدرجة أسرع».

ويلاحظ أن مثل هذه السياسة ستعمل على تصحيح الأفكار الخاطئة في الصين، التي تروج أن الولايات المتحدة بحاجة إلى شراء الصين للأذونات الأميركية. ويرى الكثير من الصينيين أن الحكومة الصينية تسدي جميلا لواشنطن بشراء سندات الخزينة الأميركية، دون أن يفهموا أن شراء هذه السندات هو عبارة عن آلية تستخدمها الصين لدعم صادراتها إلى أميركا، وتقليل تنافسية الصادرات الأميركية إليها، ويلاحظ أنه من دون المشتريات الصينية الضخمة لأذونات الخزانة الأميركية، التي تؤدي تلقائيا إلى تخفيض قيمة سعر صرف الرينمينبي، فإن الشركات الأميركية ستكون في وضع تنافسي أفضل مع نظيراتها الصينية. من جهة أخرى يرى اقتصاديون أميركيون أن الحفاظ على سعر الرينمينبي أو اليوان منخفضا مقارنة بأسعار العملات الأخرى، يكلف الصين 240 مليار دولار في السنة، وهذه الكلفة ترتفع عاما بعد عام، ولكن هذه الكلفة ستنخفض بمعدل كبير إذا سمحت الصين لعملتها بالتعويم الحر مثل العملات الحرة الأخرى، وخفضت رصيدها الأجنبي، وعلى الرغم من أن في الأسابيع أو الشهور الأولى من فترة التعويم ستتعرض الصين إلى خسائر مالية، فإنها ستعود إلى تحقيق أرباح.

ولفهم الخسارة التي تتحملها الصين من الرينمينبي أو اليوان المنخفض، فإن مبلغ الـ240 مليار دولار الذي تخسره الصين، هو في الواقع أكبر من حجم الفائض التجاري الذي حققته الصين في العام الماضي البالغ 183 مليار دولار. كما يعادل هذا المبلغ حوالي 4 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للصين في عام 2010. والأكثر من ذلك فإن هذه الكلفة لا تتضمن الضرائب الخفية التي تجبيها البنوك على رصيدها الأجنبي، والتي تمرر على المستهلك الصيني في شكل السعر المنخفض على ادخارات المواطن الصيني. ومنذ يونيو (حزيران) هذا العام ارتفع الرصيد الأجنبي الصيني من 2.9 إلى 3.2 تريليون دولار، وتتشكل كلف هذا الرصيد من مكونين، أحدهما أن الفوائد المجنية على هذا الرصيد أقل من سعر الفائدة المدفوع لتمويله، والمكون الثاني أن قيمة هذا الرصيد باليوان تنخفض وتواصل الانخفاض. وعلى الرغم من أن الصين لا تنشر مكونات رصيدها الأجنبي، فإن هنالك اعتقادا واسعا أنه يتكون من السندات والودائع الأميركية والخارجية التي يبلغ أجلها في المتوسط عامين.

والنصيب الأكبر من هذا الرصيد يعتقد أنه بالدولار واليورو. وحسب الدراسة فإن الرصيد الأجنبي الصيني يتكون من رصيد بالدولار ويشكل نسبة 60 في المائة، ورصيد باليورو ويشكل نسبة 25 في المائة، ورصيد بالين ويشكل نسبة5 في المائة، ورصيد بالجنيه الإسترليني ويشكل نسبة 5 في المائة، والباقي في عملات متنوعة من بينها الفرنك السويسري، والدولار الكندي، والدولار الأسترالي.