عازف البيانو الفرنسي تيبوديه يثير جنوب كاليفورنيا

أعياد روما وكونشرتو البيانو لليد اليسرى فقط

عازف البيانو الفرنسي الشهير جان إيف تيبوديه
TT

احبسوا الأنفاس! عازف البيانو الفرنسي الشهير جان إيف تيبوديه قادم إلى آخر مدينة في جنوب كاليفورنيا قبل الدخول إلى المكسيك. تيبوديه المولود قبل خمسين سنة في مدينة ليون الفرنسية يمثل نوعا خاصا من الفنانين فهو بارع في عزف الموسيقى الكلاسيكية كما يبدع في عزف موسيقى الجاز.

افتتحت مدينة سان دييغو وفرقتها السيمفونية بقيادة المايسترو جاجا لينغ ذي الأصل الصيني موسمها الجديد منذ أيام باستضافة تيبوديه كنجم من نجوم هوليوود وقابل تيبوديه الود بكرم ملموس فقدم اثنتين من قطع البيانو الشهيرة للموسيقار الفرنسي موريس رافيل (المعروف دوما بقطعة «بوليرو» المستلهمة من لحن عربي - إسباني) حيث تتبارى آلة البيانو مع الأوركسترا: كونشرتو البيانو من مقام صول وكونشرتو البيانو لليد اليسرى الذي ألفه رافيل تكريما لصديقه الذي فقد ذراعه اليمنى أثناء الحرب العالمية الأولى. احتوى البرنامج الحافل أيضا على قطعتين للأوركسترا تسلطان الضوء على أعياد روما واحتفالات عاصمة الرومان بصراع الأسود وعيد الساحرة للموسيقار الفرنسي برليوز والموسيقار الإيطالي رسبيغي. وجرى الحفل في صالة الموسيقى السيمفونية التي بنيت على الطراز المكسيكي - الإسباني أيام كانت جنوب كاليفورنيا تحت حكم المكسيك.

يعرف تيبوديه في الولايات المتحدة بأنه مختص بموسيقى رافيل والموسيقى الفرنسية رغم براعته في الموسيقى الكلاسيكية الألمانية وتميزه في عزف ألحان الموسيقار برامز لكن شعبيته تجاوزت الحدود حين أصدر ألبومين لموسيقى الجاز الأميركية منذ نحو ثلاثة عشر عاما كان أولهما الأسطوانة المدمجة باسم «حوار مع بيل إيفانز» موسيقار الجاز المرموق في نيويورك في الستينات، ثم قدم أسطوانة «تأملات مع دوك الينغتون» أحد عمالقة موسيقى الجاز الأميركي حيث صيغت أغانيه المعروفة بشكل قطع للبيانو بشكل خاص لعزف تيبوديه.

رأينا تيبوديه يتألق في مباراته مع أوركسترا سان دييغو السيمفونية وقائدها جاجا لينغ والجميع في انسجام كامل خلقته موسيقى رافيل وأسلوب لينغ في القيادة، وكان شعور الجمهور المتحمس مماثلا لنجاح تيبوديه في موسيقى الجاز فأسلوبه يعكس أحاسيس الحب والقرب والعواطف العميقة كما يتميز ببراعته في تطبيق معايير الموسيقى الكلاسيكية الصارمة على موسيقى الجاز المرتجلة، فهو نموذج فريد لعزف أنواع موسيقى القرن العشرين المختلفة وتجاوز الحدود المصطنعة مما جعلنا نكتشف مدى رغبة رافيل في اقتباس موسيقى الجاز حين كتب أعماله عام 1930 وكان معجبا بموسيقى غيرشوين الموسيقار الأميركي صاحب القطعة المعروفة «أميركي في باريس». يقول رافيل في إحدى المقابلات الصحافية في الثلاثينات إن الكونشرتو من مقام «صول» يتبع المعنى الدقيق للحركات الثلاث حسب تقاليد موتسارت ويعكس جوا فرحا وجذابا دون أن يكون قطعة عميقة أو يهدف لخلق تأثير درامي، وإنه أدخل فيه موسيقى الجاز إنما بقدر معتدل. أما كونشرتو اليد اليسرى الذي تم تلحينه في الوقت نفسه مع الكونشرتو من مقام «صول» فقصته مختلفة، فهو يحتوي على حركة واحدة وجرعة وافرة من موسيقى الجاز ويخلق حيوية مثيرة ونشاطا منسجما على أسس لحنية عذبة ورقة تسمح بالانتقال السلس من جملة موسيقية إلى أخرى. يبدو أن تيبوديه قد أتقن طريقة العزف كما أرادها رافيل خاصة حين أسند يده اليمنى للراحة وأطلق العنان ليده اليسرى لمدة ثلث ساعة بشكل مثير وانضباط ملحوظ وخلق التعارض المطلوب بين القسم الهادئ والقسم السريع لينهي القطعة ومرحلة الارتجال بشكل مفاجئ يتبعه تصفيق الجمهور المعجب بهذا العزف الرائع للبيانو والأوركسترا وكأن المباراة انتهت بالتعادل.

الحفل كان دوليا بكل المقاييس فالقطعة الأخيرة للموسيقار الإيطالي رسبيغي تلميذ الموسيقار الروسي الشهير رمسكي كورساكوف صاحب «شهرزاد» أظهرت تأثير الأستاذ على تلميذه في التوزيع الموسيقي الفذ واستخدام الألوان الموسيقية عبر انتقاء ذكي لآلات العزف المتنوعة بشكل يتخيل فيه المتفرج أنه انتقل من صالة العزف إلى مهرجان ساحة نافونا بوسط روما حيث يحتفل الأطفال بعيد الساحرة ويركبون الألعاب الدوارة، فالموسيقى التصويرية ساهمت في خلق جو البهجة والمرح أكثر مما تفعله أفلام هوليوود.

أصبحت سان دييغو بعد توسعها ومقدم الكثير من سكانها من مختلف الولايات حبا في جمالها الطبيعي وجوها اللطيف معقلا للثقافة ولو بشكل محدود. فبالإضافة إلى الموسيقى يجري الاعتناء بالفن التصويري حيث يقام الآن في متحف «بالبوا» معرض نادر للوحات الفن الإسباني «من الرسام أيل غريكو إلى الرسام دالي» يحتفظ بها ثري مكسيكي قام بتجميع تلك اللوحات بما فيها بعض روائع بيكاسو التي لم تعرض في أي مكان آخر. سألت أحد العاملين في الصالة بعد انتهاء الحفل: هل يا ترى سيذهب تيبوديه لرؤية هذا المعرض ويستمتع بلوحات بيكاسو؟ أجاب بشيء من المزاح وشيء من البلبلة: «لا أعتقد أن لديه الوقت الكافي لذلك لأنه مضطر للعودة إلى باريس، ولكنه قد يذهب الليلة إلى مطعم بيكاسو القريب لتناول المقبلات الإسبانية!».