«الشرق الأوسط» في مهرجان أبوظبي السينمائي

لقطة من «أسماء»
TT

اللقطة الأولى.. لا أعذار

* حين كتب أحد الزملاء نقدا حادا في أول أيام المهرجان حول تأخر حفل الافتتاح ساعة ونصف الساعة من دون اعتذار، ومن مقاعد حفلات مفتوحة (كون الصالة المفتوحة تقام في الهواء الطلق) أدت إلى الشعور بالألم المبرح نتيجة الجلوس عليها لأكثر من ثلاث ساعات، نصفها بمصاحبة موسيقى صاخبة، اعتبر البعض أن ما قيل سابق لأوانه، وأنه لا يمكن اصطياد المهرجان بدءا من أولى ساعاته.

لكن الزميل كان على حق في كل ما ذهب إليه، إذ ما ذهب إليه كان صحيحا (هذا الناقد لم يكن موجودا). وأمس حدث ما هو شبيه به، مما يوسع من طرح الموضوع: هناك برنامج يصرف المنظمون جهدا ووقتا طويلا عليه لإتمامه، مؤلف من أفلام متتابعة، فإذا كان عندك فيلم في السادسة وآخر في الثامنة والنصف مثلا، فإنك تريد من الفيلم الأول أن يبدأ في موعده لكي تلحق بالفيلم الثاني، علما بأن بعض المسافات طويلة ولا تدري ماذا سيكون عليه حجم الإقبال، فإذا كان كثيفا وتأخرت، فقد تجد نفسك بين شلة مراهقين أكثر اهتماما بإرسال الرسائل الهاتفية من متابعة الفيلم، أو ما شابه.

كان موعد عرض الفيلم المصري «أسماء» في الساعة السادسة والنصف. لكن هذا الموعد تأخر 40 دقيقة رغم وجود لجنة التحكيم، بل ورغم أن النجوم وصلوا، ولو متأخرين بعض الشيء. فوصولهم إلى صالة العرض لا يعني دخولها؛ إذ يصطف المصورون لالتقاط الصور، وتتداخل الأحاديث الجانبية. ثم هناك الصعود إلى المسرح وإلقاء الكلمات والتحيات وسماع رد الجمهور.. وكل ذلك يأخذ وقتا. وحين يبدأ الفيلم، وإذا كنت حريصا على فيلمك التالي، فإن ذلك انتقص 40 دقيقة من الفيلم المتأخر الذي ربما كان جيدا ومن الضروري مشاهدته كاملا.. لكن كذلك الفيلم اللاحق.

لكن بصرف النظر عن التأخر عن الفيلم التالي، أو وجوده أصلا، فإن الموعد هو أمر مقدس لا يجب التأخر عنه. وإذا ما أكملت المهرجانات العربية هذا التقليد، فإنها لن تستطيع إجبار النجوم على الحضور باكرا كما هي حال معظم نجوم الدنيا. تأخر عشر دقائق أو ربع ساعة معقول، رغم أنه ليس صوابا، لكن أكثر من ذلك، فهذا يشمل استهتارا بالجمهور وعدم احترام لقوانين المهرجان نفسه.

كضيف، وحتى تدخل الفيلم، تفرض عليك قوانين المهرجان أن تقف في الصف لكي تأخذ بطاقة تدخل بها رغم أن لديك بطاقتك الصحافية. هذا بات تقليدا راسخا، لكن إذ تقوم بهذا «الواجب»، لم لا يقابله واجب التقيد بالمواعيد.

أقول ذلك من دون أن أقصد أن الحفلات جميعا كانت متأخرة، لكن القليل منها يترك تأثيرا سلبيا بلا ريب.

فيلم مصري عن الإيدز لا يكتسب مناعة كافية

* تضاربت الآراء بشأن فيلم «أسماء» بعد عرضه، مع غالبية تأخذ عليه تدرجه بالموضوع الجاد الذي طرحه من نقطة عالية إلى نقطة منخفضة، وصولا إلى الموقف الميلودرامي المعتاد.

المعجبون بالفيلم تحدثوا عن أسلوب مناخي جديد للمخرج عمرو سلامة يستند إلى الحاجة للتعبير بصورة جديدة تختلف عن تلك المعتادة من قبل، وعن موضوع يطرح قضية شائكة. المعجبون أيضا ركزوا على أن هذا الفيلم من تبعات الثورة التي حدثت في يناير (كانون الثاني) الماضي، وتعبير عن السينما الجديدة.

أما المعارضون، فيؤكدون على أن العمل تفكك بعد حين، والسؤال الذي حاول عدم الإجابة عنه لم ينجل عن أمر كان يستحق إبقاءه مستترا طوال الوقت.

«أسماء» فيلم تم تمويله بمعونة من اليونيسكو كونه يدور حول «الإيدز».. هذا، على الرغم من مرور نحو عشرين سنة على بداية انتشار هذا الوباء. لكن وإن كان ذلك ليس مانعا لإنتاج فيلم عن الموضوع في أي وقت، إلا أن التمويل، يقال، كان أكثر مما صرف على الفيلم نفسه. والصورة على الشاشة تعكس، لجانب حس شبابي معين، تقشفا واضحا، ثم مزجا بين كاميرا المتابعة والرصد (ذات السند التسجيلي)، وقالب العمل الروائي.

هناك مادة صحافية تم توزيعها وفيها كلمة من المنتجة والممثلة بشرى تقول فيها إن الفيلم يتطرق إلى «تابو» حين يتحدث عن الإيدز. وما تشي به المساحة التي شوهدت من الفيلم هو أن المخرج عالج الموضوع بذكاء محسوب وعملية دخول وخروج سلسة بين الواقع الفردي والوضع الاجتماعي، رغم أن العمل لا يمكن تصنيفه فيلما من سينما جديدة أو قديمة، فما قد نعتبره جديدا، لم يعد جديدا بالمرة. السينما العربية (عموما) متأخرة سنوات ضوئية عن مثيلاتها، وأحيانا هو تأخر ناتج عن ظروف ومواضع ورقابات وأحيانا ناتج عن عدم سعي السينمائيين للاستنباط والإبداع وتحريك الثوابت الفنية التي يعملون بمقتضاها.

الفيلم المغربي «بيع الموت» (ترجمته إلى الإنجليزية لا تفي بالمعني المطلوب، فترجمته «موت للبيع») لفوزي بن السعيدي يحرك الثوابت، لكنه يحركها خطأ.

الفيلم يدور حول ثلاثة شبان في مدينة تطوان يعيشون عالة على المجتمع.. يشربون ويسرقون محافظ الفتيات ويتاجرون في الممنوعات إذا ما سمح لهم. أحدهم، مالك (فهد بن شمسي) واقع في غرام عاهرة اسمها دنيا (إيمان المشرفي) التي يلقى القبض عليها في حملة، ومن شدة حبه لها يشي بزوج أمه الذي يتاجر في المخدرات (علما بأنه كان يبيعها له) فيدخله السجن وذلك انتقاما من موت أمه انتحارا من سوء معاملة زوجها لها ورغبة في إجراء صفقة: تسليم تاجر مخدرات والتحول إلى مخبر لقاء الإفراج عن دنيا.

لهذا الخط، هناك الكثير مما يدور في «بيع الموت» وكل هذا الكثير يكون في النهاية حبكة مثيرة للاهتمام وبوليسية الخطوط تنتهي بأن يخسر مالك كل شيء.

إذا ما بدأ فيلم «النهاية» بمشهد مقلوب، فإن «بيع الموت» ينتهي بالمشهد المقلوب؛ كناية عن وضع مالك الخاسر لكل من حبه وغنيمة كانت ستغنيه عن العمل كمرشد، وصديقه الأقرب. لكن هذه الحبكة تتبلور في الساعة الأخيرة من الفيلم (المؤلف من نحو ساعتين)؛ أما الساعة الأولى، فهي تمهيد بلا توضيب منفتح على مشاهد تتركك منتظرا ما بعدها من دون إثارة. ما إن يجمع المخرج (وكاتب الفيلم) في يده الخطوط التي يود مواصلة الفيلم بها، ويضع في صف واحد، المفارقات والأحداث عوضا عن تركها متناثرة، يصبح الفيلم أكثر أهمية مما كان عليه.

لكن تبقى مشكلة أخرى: هناك هجوم غير ممنهج أو معتنى به على الإسلام وسخرية من العودة إلى أصوله. إنه شيء مختلف حين يكون القصد نقد التطرف، وشيء مختلف تماما حين ينطلق المنتقد من نقد التطرف إلى نقد الإسلام وجوهره على نحو عام. شيء يعكس ضحالة ثقافة المخرج في ما ينتقده. العودة إلى العلاقة الروحانية مع الله سبحانه وتعالى مُدانة ومصورة بمشهد شاب (أحد صديقي مالك) وهو يشعل نارا يدور حولها، ثم في سجالات من الحوار التي يسخف فيه مالك وصديقه الآخر أقوال رفيقهما.

المخرج نفسه يظهر في الفيلم لاعبا دور رجل الأمن. ظهوره مثل إيذان بأنه يريد أن يكون بالصورة، لكنه ظهر على نحو أفضل (حجم دور ودرامية مشاهد) في عمله السابق «يا له من عالم رائع» لاعبا دور قاتل محترف لا أمل له.

نهاية «بيع الموت» هي أيضا ضد الأمل، وهذا يأتي منطقيا حيال ما ورد، لكن ما ورد في بعض الأحيان ليس منطقيا بحد ذاته.

جولة أفلام

* أحد الأفلام المغربية الأخرى التي عرضت بنجاح ملحوظ هو «النهاية» وهو الفيلم الروائي الطويل الأول لمخرجه هشام لعصري، وهو ثاني فيلم مغربي يصور الدار البيضاء كمدينة هادمة للذات المنفردة وكعائق ضد تحقيق أحلام من فيها. الفيلم الأول هو «أياد خشنة». المزيد عنه في رسالة لاحقة، لكن الواضح فيه هو السعي لإنجاز أسلوب بصري لافت ينقل الفيلم من مجرد شعارات على الحائط، كما هي حال معظم النقد السينمائي هذه الأيام، إلى مستوى فني جيد.

الفيلم الأميركي «مذكرات الفراشة» هو للمخرجة ماري هارون التي لا يمكن اعتبارها من بين المخرجات المعروفات، لكن أفلامها السابقة، في الحقيقة، تركت بصمات مهمة على مستويات مختلفة. أولها كان «أنا الذي قتلت آندي وورهول» حيث العنوان يكشف عن فحوى الفيلم، والثاني «أميركان سايكو» الذي قام ببطولته كريستيان بايل ودار حول قاتل متسلسل ربطت المخرجة ظاهرته بالفترة الاجتماعية للبطل الفرد كما وردت في مرحلة الرئيس رونالد ريغان.

فيلمها الجديد مختلف من حيث إن بطولته لامرأة مليئة بالتساؤلات التي يتعامل الفيلم وإياها بجدية بالغة. البطولة لمجموعة من الممثلات غير المعروفات منهن ليلي كول، وسارا غادون، وسارا بولغر.

في المقابل، مر الفيلم الجنوب أفريقي «محظوظ» (أو «لاكي» على اعتبار أنه اسم الصبي ذي العشرة أعوام) من دون لفت نظر كثير. إنه الفيلم الأهم في تاريخ مخرجه أفي لوثرا، القصير. من قبل، حقق فيلمين قصيرين وفيلما روائيا واحدا. «لاكي» ربح جوائز عدة وعرض في عدة مهرجانات؛ آخرها تورونتو، وهو يدور مجددا حول النظام العنصري البائد. وما يفعله هو البحث عميقا في ذات بطله الطفل وتوسيع الرقعة في ما بعد للتعليق على آثار تلك الفترة اليوم.

شاشات أبوظبي

* العدد الكبير من الضيوف الذين دعوا لحضور هذا المهرجان منتقى بعناية جيدة. تلتقي فقط بمن تستطيع التحاور معه حول السينما سواء التقيت به أم لا. وليست هناك غالبية أو تعددية بناء عن تفضيلات شخصية، بل نسبة لحجم العمل الصحافي السينمائي المتوفر في كل بلد.

* المخرج السعودي عبد الله آل هياف هو أحد أعضاء لجنة تحكيم «أفلام من الإمارات» التظاهرة الرئيسية (كانت يوما مهرجانا منفصلا) التي تختص بعرض جديد ما تم إنتاجه من أعمال. اللجنة بقيادة المخرج المغربي أحمد المعنوني وتضم لجانب المخرج آل هياف (ما زلت أذكر فيلميه «الإطار» و«مطر» بكثير من الإعجاب) المخرج الإماراتي هاني الشيباني والمخرجة اليميني خديجة السلامي والمخرجة ذات الأصل العراقي التي تعيش في لندن ميسون بشاشي.

* الزميل الكويتي عبد الستار ناجي كان مفترضا به أن ينضم لإحدى لجان التحكيم بدعوة من المهرجان، لكنه اعتذر عن الحضور، كما تردد هنا، عندما اكتشف أن تذكرته هي الوحيدة التي تمر به في بلد آخر، رغم قرب المسافة بين مطاري الكويت وأبوظبي ووجود رحلات مباشرة.

* هناك حركة نشر ما زالت نشطة في مجال السينما. مجلة «فاراياتي أرابيا» تسترعي المزيد من الانتباه (ولو أنها لم تكمل بعد رسالتها على نحو يهم كل أبناء الوسط) والعدد الحادي عشر من مجلة «سينما ماغ» المغربية وصل إلى المهرجان مبلورا جهدا جيدا وتبويبا ومواضيع مهمة. كذلك حمل البعض كتبا عن السينما وصل إلينا منها: «الجنس والوعي» للمؤلف العراقي فراس عبد الجليل الشاروط. وهذا الناقد على بعد أسابيع من صدور كتابه عن عناصر النقد عموما والنقد السينمائي على الأخص، إلى جانب كتابين؛ أحدهما عن التأثير المفترض للمتغيرات الحاصلة على السينما العربية، إنما من خلال رحلة تبحث في الأحداث التاريخية وما عكسته على الشاشة من مواضيع ومعالجات.