كيف تلاعب بوتين بمحاوريه من القنوات التلفزيونية المركزية؟

استحضر ذاكرة الـ«كي جي بي» والخطوط الحمراء

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال حديثه للإعلام الروسي (أ.ب)
TT

في إطار الاستعدادات للانتخابات البرلمانية في نهاية هذا العام، ثم الرئاسية في مطلع العام المقبل، لجأ رئيس الحكومة الروسية فلاديمير بوتين إلى الصحافة والإعلام، في محاولة من جانبه لتبديد ما علق بأذهان الناخبين من قوالب وصور تقول إن السأم والملل سيكونان السمة المميزة للعملية الانتخابية، على اعتبار أنها صارت محسومة لصالحه، وأن أحدا لن يستطيع تغيير ما تقرر حول عودته إلى عرش الكرملين.

من هذا المنظور اختار بوتين الإطار الذي كان «خلفه وسلفه» ديمتري ميدفيديف سبق واعتمده سبيلا إلى مخاطبة مواطنيه طوال السنوات الثلاث الماضية عبر شاشات القنوات التلفزيونية الفيدرالية الثلاث، أي «القناة الأولى» و«الثانية الرسمية» و«إن تي في»، كبرى القنوات الخاصة المملوكة في معظمها لمؤسسة «غاز بروم».

في هذا الحوار الذي أجراه بوتين مع مديري هذه القنوات وهم صحافيون محترفون قبل تحولهم إلى مقاعد الإدارة، بدا بوتين أكثر تحفزا واستعدادا لمنازلة محدثيه وهو ما تجلى في مفرداته التي انتقاها بعناية، مستندا إلى ما في جعبته من ملفات ومعلومات وما تعلمه من فنون الحوار والمبارزة الكلامية خلال سنوات تدريباته في الـ«كي جي بي» (لجنة أمن الدولة) للاتحاد السوفياتي السابق.

وعلى الرغم من أن بعض ما طرحه محاورو بوتين من أسئلة بدا وكأنما كان «متفقا» عليه قبل اللقاء فإن ما تخلل الإجابات من عبارات وتعليقات عفوية أضفى على الحديث الكثير من الحيوية والإثارة.. بل والسخونة في بعض اللحظات التي تطلبت إماطة اللثام عن بعض جوانب السيرة الذاتية التي لم يكن أصحابها سعداء وعلى ما يبدو بالكشف عنها في مثل تلك اللحظة وعلى مثل ذلك المستوى.

الحديث بدأ نمطيا تقليديا استهله بوتين بالرد على السؤال الذي طالما تردد على ألسنة العامة والخاصة منذ أعلن ميدفيديف عن ترشيحه لبوتين للعودة إلى سدة الرئاسة في الانتخابات المرتقبة في مارس (آذار) من العام المقبل. أعاد بوتين ما سبق وقاله حول أنه لم يكن يوما من الطامحين إلى هذا المنصب، مؤكدا أنه وكعادته حريص على إتقان تنفيذ ما يعهد إليه من عمل وعلى بذل قصارى الجهد من أجل الاضطلاع بأي مهام توكل إليه وبأكبر قدر من الفعالية.

وهنا تحديدا بدا حرص بوتين واضحا على جر سامعيه ومشاهديه ودون مقدمات، إلى مقارنة ما كانت عليه روسيا قبل توليه للسلطة في الكرملين إبان العهود السابقة وما أصبحت عليه بعد ذلك. استعاد بوتين وبما عرف عنه من ذكاء متوقد بعض ما كان يتردد في نهاية ثمانينات القرن الماضي آخر سنوات الاتحاد السوفياتي السابق من دعابات حول نقص المواد الغذائية والاستهلاكية. حكى بوتين أن أحد الأصدقاء وفد لزيارة صديقه ليبادره الأخير بسؤاله: هل اغتسلت اليوم بالصابون أم من دونه؟

وقبل أن يكشف الصديق عن دهشته تجاه توجيه مثل هذا السؤال باغته بقوله: أريد أن أعرف كيف لي أن أقدم لك الشاي.. بسكر أم من دونه؟.. في إشارة إلى استحالة الاستمتاع بترف استعمال الصابون وتناول السكر في يوم واحد على اعتبار أنهما من المواد التي يشح وجودها في الأسواق.

ومن هذه النقطة انتقل بوتين ليقول إن الأمر لم يكن يقتصر آنذاك على شحة المواد الغذائية والاستهلاكية، بل تعداه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي إلى مواجهة احتمالات انهيار الدولة الروسية وتفشي ظواهر الجريمة والإرهاب وعجز الدولة عن سداد مرتبات أبنائها ومعاشاتهم التقاعدية. أشار إلى سقوط البلاد في شرك الحركات الانفصالية مما دعاها إلى استخدام الطائرات والدبابات ومختلف أنواع الأسلحة ضد شعبها في القوقاز. قال أيضا إنه تسلم تركة مثقلة كانت تنوء بحملها الجبال.. ولم يكن لأحد أن يجادله.

فما قاله حقيقة لا مراء فيها وما حققه من إنجازات كان وراء ما اكتنزه من شعبية وجماهيرية واسعتين. على أن ذلك سرعان ما توارى خلف جدران النسيان على وقع الإحساس العام بتراجع حرية الكلمة وكل ما يندرج تحت مفهوم «الديمقراطية».

ومن هذا المنطلق حاول فلاديمير كوليستيكوف مدير قناة «إن تي في» التي أسسها فلاديمير جوسينسكي الملياردير وأول رئيس للمؤتمر اليهودي الروسي، والذي لاذ بالفرار إلى إسرائيل في أعقاب أول مواجهة مع بوتين في مطلع عام 2001، حاول عقد مقارنة بين أجواء سنوات حكم بوتين وما سعى خلفه ميدفيديف إلى تحقيقه من إصلاحات تتسم بقدر كبير من الليبرالية وإضفاء الطابع الإنساني على الكثير من قراراته في إشارة لا تخلو من مغزى تجاه ما يقال حول معارضة وانتقاد اعتماد بوتين على الأساليب السلطوية والاستناد في حكمه إلى سطوة الأجهزة الأمنية والمخابراتية. هنا باغت بوتين محدثه بسؤال عن اسمه بالكامل وهو الذي يعرفه جيد المعرفة فيما سبق والتقاه مرارا.

وحين اضطر كوليستيكوف إلى تأكيد اسمه ولقب أبيه، أضاف إليهما بوتين صفة «المحترم»، مردفا ذلك بقوله: «لعل الذاكرة لا تخونني إن قلت إنك يا فلاديمير ميخائيلوفيتش عملت لفترة من الزمن مع إذاعة (ليبرتي) الحرية. أليس كذلك؟»، وهو ما اضطر كوليستيكوف إلى الإجابة بأن ذلك حدث فعلا. وتعليقا على ما قاله أحد الحاضرين حول أن ذلك كان نقطة سوداء في تاريخه، قال بوتين بنبرة توحي بسماحة مفتعلة: «ليس مهما أن تكون النقطة سوداء أو بيضاء.. المهم أنكم كنتم تعملون هناك». وأضاف أنه حين بدأ عمله كضابط في «كي جي بي»، (لجنة أمن الدولة) في الاتحاد السوفياتي كانوا يعتبرون هذه الإذاعة إحدى وحدات المخابرات المركزية، وإن كانت «دعائية» تمولها المخابرات الأميركية وهي التي كانت تمارس عمليا تجنيد العملاء في الاتحاد السوفياتي.

وأضاف: «إنه من الصحيح أن الوضع تغير الآن لكن إذاعة (ليبرتي) تعرض وجهة نظر أجنبية على كل الأحوال. أنتم عملتم هناك فيما تترأسون اليوم ومنذ فترة طويلة قناة تلفزيون روسية وطنية». وتساءل: «أليس ذلك من مؤشرات الليبرالية؟!»، ثم عاد ليقول: «إنه وبعبارة أخرى لا يجوز التصريح بأنه لا توجد في روسيا ليبرالية».

ما لم يقله بوتين وأدركه صاحب الشأن أن سيرة حياته تتضمن الكثير من «الثغرات» التي سبق ونفذ منها الخصوم والأصدقاء، حيث سبق وعمل كوليستيكوف في جريدة «الحياة» مراسلا لها من موسكو بعد فترة قضاها بين جنبات مجلة «نوفويه فريميا» التي كانت تضم الكثير من ممثلي التيار اليهودي الصهيوني وأكثرهم عدوانية وتعصبا. ومن صحيفة «الحياة» انتقل كوليستيكوف للعمل في قناة «إن تي في» مع أبرز رموز اللوبي اليهودي المؤيد للرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين متزعمين حملة إعادة انتخابه لفترة ولاية ثانية التي شابها الكثير من وقائع التزوير الصارخ فضلا عن كل تجاوزات الأوليجاركيا اليهودية التي اقتسمت أعلى المناصب في أول حكومة بعد انتخابات 1996 مستندة في ذلك إلى ما دفعته من أموال لتمويل الحملة الانتخابية ليلتسين.

على أن الأمر لم يقتصر عند استدعاء بوتين بعضا من سيرة كوليستيكوف على النحو الذي أصابه بارتباك لم يبرأ منه حتى نهاية الحديث. فقد عاد الزعيم ليلقن من حاول النيل من توجهاته المتشددة واتهامه بالتطاول على الليبرالية بعضا من آداب الحديث. وكان كوليستيكوف حاول الرد على «وخزات» بوتين وتفتيشه في ماضيه من خلال انتقاده السياسة الخارجية الروسية التي يبدو ما يشبه الإجماع حول أنها تفرط في الكثير من مكاسب روسيا بعد ظهور عجزها في أكثر من مناسبة وإن حاول تملقه من خلال الإشادة بما يحققه من خلال علاقاته الشخصية مع بعض الزعماء الأوروبيين، والتي قال إنها تكاد تكون الإنجاز الوحيد للسياسة الخارجية الروسية.

قال كوليستيكوف إن موسكو تفقد الكثير من هيبتها ومكانتها في أروقة السياسة الدولية، حيث تصدرت الدول الكبرى منصات السياسة العالمية ودفعت بروسيا إلى الصفوف الخلفية التي كانت في أحسن الأحوال في «صالة» المسرح السياسي وبلغ الأمر في أحيان أخرى إلى الزج بها إلى «البلكون» وهو ما لا يتناسب مع قدر ومكانة روسيا التي لا تجوز مساواتها بدول من الدرجة الثانية، مشيرا إلى أندورا على سبيل المثال. هنا عاد بوتين ليمارس دور والمعلم مؤكدا أنه وقبل كل شيء يرى ضرورة تحذيره من عدم جواز النظر باستخفاف إلى أي من الدول الصغيرة، مشيرا إلى أن ذلك تجاوز غير مسموح به سواء بالنسبة لأندورا أو غيرها.

وقال أيضا إنه تعلم من ممارسته لرياضة الجودو الشرقية فلسفة احترام الشركاء والمنافسين أيا كانوا. وأعاد بوتين إلى الأذهان الصين وكيف كانت عليه في الأمس القريب وكيف أصبحت اليوم قوة لا يستهان بها يعمل لها الجميع لها ألف حساب. وانتقل بمحدثيه إلى ما كان الكثيرون في أوروبا يقولونه عن روسيا سخرية وتندرا، مشيرا إلى تغير مواقفهم منها اليوم.

ورغم أن كوليستيكوف اعترف بالخطأ فقد فعل ذلك على نحو نال فيه من زملاء آخرين ما قد يكون نتيجة ضياع البوصلة واهتزاز الثقة بالنفس بعد الكثير من الضربات الموجعة التي كالها له الزعيم في كياسة متقنة. وحين حاول كوليستيكوف لاحقا «تطعيم» أسئلته ببعض الإيحاءات الجنسية وجدنا بوتين أكثر يقظة وتأدبا في الرد على هذه الإيحاءات بما لا يخدش حياء المشاهد وبما يعيد محدثه إلى وقاره.

وإذا كان هناك من تصور أن بوتين تعمد توجيه «وخزاته» إلى كوليستيكوف تذكيرا بماضيه كأحد أنصار اللوبي اليهودي السابق ممن خدموا في بلاطهم أو بلاط «شركائهم» من ممثلي المخابرات المركزية الأميركية، فإن الواقع يقول إن بوتين لم يكن في موضع محاسبة الآخرين على ماضيهم وهو الذي وكما تشير الشواهد يغض الطرف عن وجودهم وأمثالهم في إذاعة «صدى موسكو» على سبيل المثال التي تمولها أيضا مؤسسة «غاز بروم» التي كان ديمتري ميدفيديف عضوها المنتدب حتى وقت قريب مضى.

كما أنه لم يفعل ذلك مع آخرين من الحضور ومنهم أوليغ دوروفييف، رئيس القناة «الثانية الرسمية» وأحد أهم مؤسسي قناة «إن تي في» قبل أن يغادرها احتجاجا على تصرفات وسياسات أصحابها وعدد من رفاق الماضي من غلاة ممثلي اللوبي اليهودي.

ولعله من المناسب هنا أيضا الإشارة إلى بعض تعليقات بوتين ردا على أحد أسئلة قسطنطين أرنست، رئيس «القناة الأولى» ومنها ما يتعلق بتسميته بـ«الصقر» التي يتداولها الكثيرون من ممثلي الدوائر الغربية حين يتحدثون عن تشدده بالمقارنة مع ميدفيديف. وكان بوتين رد على ذلك بقوله «إن الصقر طائر جيد». وحين تعمد أرنست التعقيب بقوله إنه ليس من «الحمائم»، قال بوتين إنه إنسان قبل كل شيء ولا تروقه مثل هذه التسميات.

على أنه من اللافت في هذا الصدد أن بوتين أبدى قدرا كبيرا من الإلمام بالتاريخ والعلاقات الدولية، وهو ما تجلى بعضه في التعبير عن إعجابه بالزعيم الفرنسي الراحل شارل ديغول الذي أعاد إلى الأذهان الكثير من مقولاته التي يتخذ بعضها نبراسا له ومنها: «إذا كان لك الخيار.. فلتختر الطريق الأكثر وعورة لأنك سوف تكون على يقين من أنك لن تصادف هناك منافسين».

كما أنه وجد في التاريخ الأميركي ما يساند توجهاته إزاء العودة إلى سدة الحكم لفترة ولاية ثالثة قد يعقبها برابعة حين قال إن الدستور الأميركي لم يكن يحظر الولاية الثالثة للرؤساء الأميركيين حتى سنوات الحرب العالمية الثانية.. وقد حاولوا ذلك دون أن يفلح أي منهم بالولاية الثالثة، وإن أشار إلى أن الرئيس الأميركي روزفلت استمر في الحكم لأربع ولايات متعاقبة.

ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن بوتين وبـ«شياكة» مفرطة استطاع القفز على السؤال الذي تصورنا أنه سيقدم إجابة شافية ترضي فضول الملايين من أبناء شعبه وشعوب البلدان المحسوبة على موسكو تقليديا وهو موضوع ربيع الثورات العربية واحتمالات ضياع مواقع روسيا في المناطق التي تعترف روسيا بأنها في دائرة مصالحها الحيوية. اكتفى بوتين ردا على سؤال كوليستيكوف «المشاغب» حول «إن في هذه المنطقة حكاما (أولاد كلب)، لكنهم وحسب القول المأثور الشائع (أولادنا)، بما يعني ضرورة حمايتهم دفاعا عن المصالح الوطنية الروسية». ببضع كلمات أشار فيها إلى أنه لا غضاضة فيما يحدث وقد سبق وعاش الاتحاد السوفياتي السابق تحول مصر بكل ما كانت تعنيه من أهمية إلى الاتجاه المعاكس نحو الغرب والولايات المتحدة في سبعينات القرن الماضي دون أن يورط نفسه في موقف بعينه أو يلزم بلاده برأي أو تعليق.

وبعيدا عن تفاصيل أخرى وهي كثيرة استطاع بوتين استعراض مهاراته بمهارة فائقة متسلحا بكل ما يلزم ذلك من معلومات وتواريخ وأرقام تسانده في ذلك ذاكرة حديدية صقلتها وشحذتها تدريباته في أعتى المؤسسات الأمنية مما وضع محاوريه في المكان الذي يريده وليس الذي كانوا ينشدونه تأكيدا على أنه لا يزال في موسكو الأكثر جدارة بامتلاك ناصية القول والسرد والتحليل بما يجعله الأحق بالقول الفصل والكلمة العليا. هكذا يقولون!.