الفساد في مصر له جذور أميركية

المديرة التنفيذية الجديدة للمركز المصري للدراسات الاقتصادية: كانت بعض صفقات الخصخصة غريبة للغاية وتصب في صالح المشرفين على العملية

TT

قبل عقدين من الزمان، قامت الولايات المتحدة بتمويل مركز بحثي مصري متخصص في الإصلاح الاقتصادي. ولكن تظهر حاليا محصلة مختلفة، مع تتابع تداعيات الربيع العربي في مصر. أنشأ المركز المصري للدراسات الاقتصادية بمنحة قدرها 10 ملايين دولار من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وكان يجمع هذا المركز قادة القطاعات في حلقة صغيرة - وكان جمال مبارك، ابن الرئيس، داخل المركز. وبمرور الوقت تولى أعضاء في المركز مناصب بارزة في الحزب الحاكم والحكومة المصرية. وفي الوقت الحالي، يقبع جمال مبارك وأربعة من أعضاء هذا المركز البحثي في السجن، متهمين بتبديد المال العام وبيع موارد عامة وأراض وشركات تديرها الدولة في إطار عملية إعادة هيكلة واسعة. وتمكن البعض من الهرب خارج البلاد، في غمرة حالة من الغضب الشعبي إزاء صفقات وممارسات فساد أطاحت بالرئيس حسني مبارك. وتقول ماجدة قنديل، المديرة التنفيذية الجديدة للمركز البحثي، عن برنامج الخصخصة الذي روج له مؤسسوه: «أصبح نوعا من الرأسمالية بالمحسوبية». ويقدر المركز حاليا أنه بسبب الفساد درت الأصول التي باعتها مصر منذ 1991 صافي 10 مليارات دولار فقط، أي أقل بمقدار 90 مليار دولار عن قيمتها المقدرة. وتأتي حكاية الخصخصة كتحذير من النفوذ ومخاطر المساعدات الخارجية الأميركية - ولا سيما نحو 8 مليار دولارات قدمتها الولايات المتحدة لمصر منذ التسعينات لدفع البلاد تجاه إصلاحات اقتصادية.

وأنكر جمال مبارك (47 عاما) والآخرون ضلوعهم في أي أفعال خاطئة، ورفضوا تهما بالفساد رفعتها الحكومة المصرية الجديدة ضدهم، ويقولون إنها تهدف لتهدئة المحتجين في الشوارع الذين يدعون إلى الانتقام منهم. كما أكد المتهمون على أن هذه الصفقات كانت قانونية بموجب القوانين المعمول بها. ولكن يذكر مسار الخصخصة بدعم أميركي داخل مصر بأعوام من الشكوك من جانب منتقدين حول شفافية وفاعلية أكثر من 70 مليار دولار قُدِّمت في صورة مساعدات اقتصادية وعسكرية إلى مصر على مدار العقود الستة الماضية، لتصبح مصر أكبر دولة غير إسرائيل تحصل على مساعدات أميركية.

وعلى الرغم من أنه لم يثر مسؤولون أميركيون علنا تساؤلات حول التمويل المقدم إلى المركز المصري للدراسات الاقتصادية، فإنهم أعربوا في برقيات سرية عن قلقهم من أن جهود الخصخصة قد تؤدي إلى فساد عالي المستوى، وفقا لمراجعة أجرتها صحيفة «واشنطن بوست» لمئات من وثائق «ويكيليكس». وجاء في برقية سرية خاصة بوزارة الخارجية الأميركية كتبها دبلوماسي لم يذكر اسمه في عام 2006: «خلقت الخصخصة والانفتاح الاقتصادي خلال الأعوام الأخيرة فرصا لـ(فساد رأسي) بمستويات أعلى داخل الحكومة مما يؤثر على موارد الحكومة»، مقتبسا بعض ما ذكره هتلر طنطاوي، الرئيس السابق للهيئة العامة للرقابة الإدارية في مصر.

ورفض مسؤولون في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية مناقشة دعمهم للمركز البحثي المصري وجهود الخصخصة داخل البلاد أو المشاعر التي نقلتها البرقيات السرية.

وفي بيان لها قالت الوكالة إنها اتخذت إجراءات لضمان أن المنح المقدمة للمركز استخدمت بالصورة المناسبة. وقالت الوكالة: «يحظى المركز المصري للدراسات الاقتصادية بسمعة طيبة، كما أنه مركز بحثي أعد الكثير من الأوراق البحثية الاقتصادية القيمة على مدار العشرين عاما الماضية». ومنذ السبعينات من القرن الماضي، قدمت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية مليارات من الدولارات في صورة مساعدات اقتصادية لمصر مقابل وعود بتحرير اقتصاد اشتراكي يرجع إلى حقبة الرئيس جمال عبد الناصر في الخمسينات.

وعلى الرغم من هذه التعهدات، تحركت عملية الخصخصة داخل مصر في البداية بوتيرة فاترة، ويرجع ذلك بصورة جزئية إلى أن استحواذ مبارك على السلطة جعله مترددا في التحرك ضد معارضة شعبية. وبنهاية الثمانينات، كان القطاع العام لا يزال يمثل أكثر من نصف الإنتاج الصناعي المصري و90 في المائة من قطاعاتها المصرفية وقطاع التأمين. وكانت 20 في المائة على الأقل من القوة العاملة في القطاع العام. ولكن بدأت الصورة تتغير في أوائل التسعينات، بعد أزمة مالية في مصر، عندما قال مقرضون دوليون إنهم لم يعودوا مستعدين لدعم اقتصاد يعتمد بدرجة كبيرة على شركات تديرها الدولة.

وفي مقابل مساعدات، وافقت مصر على إجراء إصلاحات هيكلية من نوعية تلك الإصلاحات التي كانت حدثت بمختلف الأنحاء عقب انهيار الشيوعية السوفياتية. وتصور صناع السياسيات أن السوق ستخرج الشعب من الفقر، وستعطي دفعة للطبقة المتوسطة وفي النهاية تحقق إصلاحات ديمقراطية. وكان يطلق على هذا الجهد العالمي «إجماع واشنطن».

وفي مصر، وجد برنامج الخصخصة بطلا يتمتع بنفوذ يتمثل في جمال مبارك. تخرج جمال في الجامعة الأميركية في القاهرة وبدأ حياته المهنية في «بنك أوف أميركا» داخل لندن. وقام جمال مع شقيقه الأكبر، علاء، بتأسيس «ميد إنفست»، وأصبحا من المؤمنين بالرأسمالية وكسبا ثروة من خلال بيع وشراء الدين المصري، وفقا لما جاء في إدعاءات مدعين مصريين.

وفيما أصبح جمال مبارك يلعب دورا أكبر في الحياة العامة، تحرك تجاه «إجماع واشنطن» بالتزام شديد. ووجد جمال في محام طموح يدعى طاهر حلمي حليفا، وساعده على صياغة تشريع في عام 1991 أجاز برنامج الخصخصة المصري، مع خطة لخصخصة أكثر من 350 شركة تبلغ قيمتها 104 مليارات دولار. بعد عام من ذلك اجتمع مبارك مع حلمي لإنشاء المركز المصري للدراسات الاقتصادية لتعزيز إصلاحات السوق عبر الكتب والصحف السياسية والمؤتمرات، وكان مصدر الدخل الوحيد للمركز منحة بقيمة 10 ملايين دولار أميركي من وكالة المعونة الأميركية.

عقدت بعض صفقات الخصخصة في التسعينات، لكن تغييرا ذا مغزى تضمن أصولا حكومية رئيسية ظهر فقط في أعقاب تولي جماعة مبارك ورفاقه من الإصلاحيين السيطرة على الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم آنذاك. ثم جاءت الإصلاحات في سلسلة من السياسات والقوانين الجديدة، وكثير منهم تستند مباشرة على التقارير التي يعدها المركز المصري للدراسات الاقتصادية وتموله الولايات المتحدة. في عام 2002، شكل مبارك لجنة السياسات القوية بالحزب، وعلى أثر ذلك قامت الجمعية العامة للحزب بتعيين باقي أعضاء المركز المصري للدراسات الاقتصادية أعضاء في لجنة السياسات، بمن في ذلك حلمي، الذي كان رئيسا لمؤسسة بحثية آنذاك؟ في كلمة تحث على التفكير الجديد قال مبارك «إن النمو الاقتصادي يجب أن يأتي من خلال التطبيق الأمثل لمبادئ السوق الحرة». وقد كان هذا الخطاب خرج مباشرة من أوراق السياسة التي أعدها المركز.

عقدت صفقات الخصخصة بسرعة، وفي عام 2003، قامت مصر بتخصيص تسع شركات تبلغ قيمتها نحو 18 مليون دولار، وفي عام 2005 و2006، ارتفع عدد الصفقات إلى 59 صفقة بقيمة 2.6 مليار دولار. بدا حينها أن التغييرات ستعود بالنفع على الاقتصاد الكلي في مصر، حيث تضاعف الناتج المحلي الإجمالي في مصر وبلغ معدل النمو 7 في المائة، لكن دبلوماسيين أميركيين حذروا من وراء الكواليس من متاعب محتملة.

وكتب السفير الأميركي فرانك ريتشاردوني في برقية سرية في مطلع عام 2006 أن «مصالح أفراد بارزين من الحزب السياسي ونظام حسني مبارك يمكن أن تشكل خطرا على الإصلا»، فلا يزال الفساد عائقا كبيرا أمام النمو، ويمكن أن يصبح من الصعب السيطرة عليها مع تقدم الإصلاح الاقتصادي»، بحسب ما ورد في البرقية. ولكن في النهاية، كانت الخصخصة تسير بأقصى سرعتها، وكان المركز المصري للدراسات الاقتصادية في قلب الحدث.

أجريت بعض صفقات الخصخصة والتي شملت شركات كبرى عبر المركز، وتم التعامل مع بعض منها من قبل شركة حلمي، وشملت بيع بنك الإسكندرية الوطني مقابل 1.6 مليار دولار وبيع شركة تليكوم إيجيبت مقابل 892 مليون دولار.

وقد قال محمود محيي الدين، رئيس اللجنة الاقتصادية بالحزب الديمقراطي، والشخصية البارزة في المركز آنذاك لبروس رازرفورد، المحلل السياسي في جامعة كولغيت، لكتابه «مصر بعد مبارك»: «جاء المركز المصري للدراسات الاقتصادية في المكان المناسب والتوقيت المناسب. فقد كان يحمل مجموعة من المقترحات المعدة بالفعل التي تتسق مع ما ترمي إليه الحكومة».

في ظل قيادة حلمي، تعامل مع مكتب القاهرة التابع لشركة المحاماة الدولية العملاقة «بيكر أند ماكنزي» في شيكاغو مع صفقات خصخصة بلغت أكثر من 3 مليارات دولار، بما في ذلك بيع الشركات والأصول والأراضي، وفقا للمعلومات على موقع الشركة، اولبيانات الصحافية والتقارير الإخبارية. وقد مثلت الشركة الحكومة في صفقات ساعدت شركات القطاع الخاص في الحصول على المشاريع التي تديرها الحكومة. وقد دأب حلمي على ترديد أنه يعمل لصالح الوطن. فصرح لمجلة «بيزنس توداي إيجيبت» في عام 2004: «نحن نقدم يد العون لأن هذا واجبنا كمصريين. نحن نود مساعدة مصر على التقدم من خلال وضع مسودات التشريعات التي تجاري التطور السريع في السياسات الاقتصادية».

من بين الذين قيل إنهم استفادوا من علاقاتهم بالمركز جمال مبارك، وأحمد عز، العضو المؤسس للمركز والعضو البارز في البرلمان والحزب الحكم السابق، الذي استفاد من جهود الخصخصة. وكان عز يلقب في السابق بـ«ملك الحديد»وقد استولى عز على شركة الإسكندرية الوطنية للحديد والصلب المملوكة للدولة ليصبح أكبر منتج للحديد في الشرق الأوسط ويعمل لديه أكثر من 7,000 موظف. وقد تعاملت شركة حلمي مع التحويلات الخاصة بـ«حديد عز».

في عام 1998، وبشركة تواجه الإفلاس بدأ عز في شراء الأسهم بمساعدة من وزير الصناعة آنذاك إبراهيم سالم محمدين. ويزعم المدعون العامون أنه حقق أكثر من مليار دولار أرباحا غير شرعية على مدى العقد التالي، كما أنه حصل على أكثر من نصف أسهم الشركة التي تديرها الدولة.

وقد استفاد عز أيضا من القوانين التي صاغها ودفع بها ودفعت زملاءه في المركز المصري للدراسات الاقتصادية، ودعاة الخصخصة الذين عملوا معه في أيضا في لجنة السياسات في الحزب الوطني أو في الحكومة، وفقا لدراسة حديثة أجراها صندوق مارشال الألماني في الولايات المتحدة. ففي عام 2004 على سبيل المثال خفض القانون الأول الذي صاغه حلمي ضرائب الشركات إلى 20 في المائة وهو ما أدى إلى اتساع إمبراطورية عز. وفي العام التالي شارك حلمي في كتابة قانون المنافسة الذي بدا أنه يحمي شركة عز من مزاعم بالاحتكار. وفي سبتمبر، عندما ظهر في قاعة محكمة في القاهرة الجديدة، قال عز لهيئة المحكمة المكونة من ثلاثة قضاة: «أنا لست مذنبا، وجميع هذه الادعاءات لا يوجد لها سند قانوني لها وتنافي العقل».

وكان من بين أعضاء المركز المصري للدراسات الاقتصادية، الذين شاركوا في طفرة الخصخصة أحمد المغربي، المطور العقاري الذي أصبح وزيرا للإسكان في مصر، والذي أنشأ شركة بالم هيلز للتعمير، وهي شركة مشتركة مملوكة للمغربي وأبناء عمه، وبنى فيلات فاخرة في مدينة 6 أكتوبر، قبالة الطرق السريعة المؤدية إلى مدينة الإسكندرية، وفقا لموقع المشروع على الإنترنت.

وفي أحد الأيام في الآونة الأخيرة، أخرجت قنديل كتابا جديدا - وهو كتاب مثير للجدل بين مجلس الإدارة الذي لم يوافق على نشره حتى بعد الثورة - وقلبت في صفحاته حتى وصلت إلى إحدى الصفحات التي يوجد بها إحصاءات تبين أنه قد تم استرداد عشرة في المائة فقط من القيمة الحقيقية للأصول العامة في مصر على مدى العشرين عاما منذ أن بدأ البرنامج.

ووصلت أسعار المبيعات إلى 9.6 مليار دولار، أي نحو واحد في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في مصر، في حين بلغت قيمة الأصول الحقيقية 104 مليارات دولار، حسب تصريحات قنديل.

وقالت قنديل، وهي خبيرة اقتصادية مصرية تم تدريبها في الولايات المتحدة وحصلت على دكتوراه من جامعة ولاية واشنطن ثم تم تعيينها من قبل لجنة البحث برئاسة حلمي: «كانت بعض صفقات الخصخصة غريبة للغاية. وكانت النتائج تصب في صالح هؤلاء الذين أشرفوا على العملية». وخلال تحقيقات الفساد التي بدأت منذ الثورة، تم توجيه اتهامات لخمسة أشخاص يرتبطون ارتباطا وثيقا بالمركز المصري للدراسات الاقتصادية - أعضاء أو مديرين أو مؤسسين. وبالإضافة إلى جمال مبارك، شملت القائمة كلا من عز والمغربي والمسؤولين الذين عملوا كوزراء للإسكان والتجارة. (تلقى عز حكما خلال الشهر الماضي بالسجن لمدة 10 سنوات بعد إدانته بالبيع غير المشروع لتراخيص الحديد والصلب).

وقد علقت قنديل عضوية مبارك والمغربي حتى يتم حل القضايا المتعلقة بهما، في حين تم إلغاء عضوية عز لأنه لم يسدد مستحقاته، حسب تصريحات قنديل. (قالت النيابة العامة المصرية خلال هذا الأسبوع إنها تملك أدلة تشير إلى أن مبارك وشقيقه قد قاما بإيداع مئات الملايين من الجنيهات في حسابات مصرفية بالخارج، بما في ذلك 340 مليون دولار في سويسرا). وقالت قنديل إن حلمي، الذي ترأس المركز المصري للدراسات الاقتصادية العام الماضي، قد طلب منه أن يتنحى من منصبه. وقالت إن آخر مرة شاهدته فيها كانت قبل ثورة يناير، عندما قال إنه ذاهب في رحلة عمل، ولكن قنديل قالت إنه أخبرها بأنه ليس لديه خطط فورية للعودة من المملكة المتحدة، حيث يعيش الآن مع زوجته وأطفاله الثلاثة. وقالت قنديل: «أشعر أنه لا يريد أن يعود من هناك».

> ساهم في كتابة التقرير أوهارو من واشنطن، ومحرر البحوث أليس كريتيس والمراسلة الخاصة أنجي حسيب من القاهرة.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»