حل أزمة ديون اليورو يتطلب التعاطي مع ثلاثة محاور

قادة أوروبا أحرزوا تقدما ولكن المشوار لا يزال طويلا

TT

وسط صعوبات جمة ومحاور متعددة عمل قادة دول الاتحاد الأوروبي في بروكسل، أمس، على إيجاد حلول لأزمة منطقة اليورو التي باتت تهدد بالطوفان ليس منطقة اليورو فحسب، ولكن كامل اقتصادات العالم. يقول اقتصاديون إن الحل يحتاج إلى التعاطي مع ثلاثة محاور رئيسية، وهي: كيفية إعادة رسملة البنوك الأوروبية التي يقف بعضها على وشك الإفلاس بسبب انعدام السيولة وضعف الرساميل. ورغم اتفاق قادة أوروبا من حيث المبدأ على إضافة مائة مليار يورو (نحو 130 مليار دولار) لرأسمال البنوك فإن الخلاف بين القادة يدور حول من سيوفر هذه الأموال للبنوك. ألمانيا ترى أن المصارف يجب أن تعيد رسملة نفسها من مواردها الخاصة ثم تلجأ بعد ذلك إلى دولها وإذا فشلت دولها تلجأ لصندوق الاستقرار الأوروبي الذي يصبح الملاذ الأخير. وفي المقابل، فإن فرنسا ترى أن يقوم صندوق الاستقرار برسملة البنوك. وتشير تقارير متخصصة أطلعت عليها «الشرق الأوسط» إلى أن مصارف أوروبا ربما تضطر لبيع موجودات تقدر قيمتها بأكثر من 770 مليار دولار حتى تتمكن من رفع كفاية رأس المال إلى 9 في المائة. وهو معدل كفاية رأس المال الذي تطالب به اتفاقية بازل الثالثة التي أقرت العام الماضي. ولكن السؤال المحير هو كيف يمكن لهذه البنوك، حتى إذا كانت راغبة في بيع أصولها لتدعيم الكفاية الرأسمالية، أن تحصل على مشترين لها في ظل ظروف الركود الراهن؟

والمحور الثاني، هو حجم مشاركة القطاع الخاص، وتحديدا المصارف الدائنة لليونان في خطة إنقاذ اليونان الثانية البالغة 110 مليارات يورو (نحو 150 مليار دولار) التي أقرت في يوليو (تموز) الماضي. وكانت الخطة قد أقرت مشاركة البنوك التجارية بإعفاء نسبة 21 في المائة من ديونها على اليونان، ولكن بعض قادة الاتحاد الأوروبي ارتأوا أن تشارك البنوك بنسبة أكبر من ذلك، خاصة ألمانيا صاحبة الفكرة. ويتجه القادة حاليا عبر مشاورات يجريها رئيس معهد التمويل الدولي في واشنطن جون دالارا إلى إقناع البنوك بمشاركة تصل إلى إعفاء 50 في المائة على الأقل من ديونها على اليونان. والسؤال المطروح من قبل خبراء المصارف هل توافق البنوك الأوروبية على إعفاء هذه النسبة الكبيرة، في وقت تواجه فيه أزمة السيولة وضعف الرساميل. ويذكر أن البنك المركزي الأوروبي اضطر في الشهر الماضي إلى التنسيق مع أربعة بنوك مركزية أخرى من بينها بنك الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) وبنك إنجلترا وبنك اليابان والبنك المركزي السويسري لتوفير مليارات الدولارات، كانت تحتاجها البنوك التجارية لتمويل عمليات التجارة.

أما المحور الثالث، فهو دور ومالية صندوق الاستقرار المالي الذي حدد له أن يرفع إلى 400 مليار يورو (نحو 550 مليار دولار). ويرى الكثير من خبراء المال في أوروبا وأميركا أن هذا المبلغ غير كافٍ ولن يمكن منطقة اليورو من التعاطي مع احتياجات التمويل الحالية والمستقبلية التي تقدر بأكثر من 4 تريليونات دولار. وبالتالي يرى البعض أن ترفع مالية صندوق الاستقرار المالي إلى تريليوني دولار أو أكثر وأن يعطى دورا شبيها بدور صندوق شراء الموجودات الفاسدة الأميركي الذي أسس في أعقاب أزمة المال في عام 2008. وتطالب فرنسا في هذا الصدد بأن يحول صندوق الاستقرار الأوروبي إلى مصرف وتزداد صلاحياته ولكن ألمانيا تعارض زيادة مال الصندوق إلى أكثر من ذلك أو حتى تحويله إلى مصرف بحجة أن ذلك يتعارض مع نصوص اتفاقية منطقة اليورو.

ولكن عقبات حل أزمة اليورو لا تقف عند حد هذه المحاور، بل تتخطاها إلى عقبات أخرى. من بينها توفير التمويل المستقبلي بسعر فائدة معتدلة على سندات الدين التي ستطرحها في المستقبل دول اليورو الضعيفة ماليا، مثل إيطاليا وإسبانيا والبرتغال وآيرلندا واليونان. ويلاحظ أن أسعار الفائدة على سندات هذه الدول أصبحت مرتفعة جدا، كما أن تكاليف تأمينها أصبحت غالية. وبالتالي فإن أعباء خدمتها تضاعف من أزمات هذه الدول ماليا وتعيق مستقبل عودتها للنمو.

يقول اقتصاديون في هذا الصدد إن التعاطي الجزئي مع أزمة اليورو يعقدها ويضاعف من الأعباء التمويلية على الدول المدينة وعلى منطقة اليورو، حيث تنتهي أموال الإنقاذ التي ستدفع للدول المدينة إلى جيوب الدائنين ولن تستفيد منها اقتصاديات الدول الضعيفة التي في أمَس الحاجة للإنعاش وتوفير الفرص الوظيفية والخروج من الركود. وبالتالي تتواصل الحلقة المحرقة المتمثلة في عمليات إنقاذ متواصلة مثل مريض موضوع في غرفة العناية الفائقة يخرج من أزمة ليدخل في أزمة. وحتى الآن يساهم البنك المركزي الأوروبي في تخفيف وطأة التمويل الإنفاقي لبعض دول منطقة اليورو عبر شراء سنداتها بسعر فائدة منخفض، ولكن عمليات شراء السندات هذه تمثل جزءا ضئيلا من احتياجات التمويل الكلية لهذه الدول، التي تضطرها إلى طرح مزادات لسندات التمويل في السوق المفتوحة التي تتكون من البنوك وصناديق الاستثمار. ويلاحظ أن المشترين من القطاع الخاص يطالبون بسعر فائدة مرتفع مرة تلو الأخرى تماشيا مع ارتفاع نسبة المخاطر. بناء على ذلك طالب بروفسور اقتصاد في جامعة هارفارد عمل في السابق كبير اقتصاديي صندوق النقد الدولي في برنامج «هارد توك» بـ«بي بي سي» برفع مالية صندوق الاستقرار الأوروبي إلى 4 تريليونات دولار. حتى تتمكن منطقة اليورو من التعاطي مع احتياجات رسملة البنوك واحتياجات خدمة الديون الحالية وتمويل النفقات المستقبلية لدول المنطقة الضعيفة.

أما العقبة الأخرى التي تقف أمام منطقة اليورو، فهي مسألة نجاح برامج التقشف في اليونان والبرتغال وآيرلندا وإيطاليا وإسبانيا. ففي اليونان يرى اقتصاديون أن فرص نجاح برنامج التقشف الذي ستطبقه اليونان لمدة ثلاث سنوات ضئيلة، لأسباب عدة، أهمها أن تنافسية اليونان ضعيفة مقارنة مع الدول الأوروبية الأخرى، كما أنها لا تستطيع رفع معدل التنافسية وزيادة الصادرات بسبب عضويتها في منطقة اليورو، ولا تستطيع اليونان التحكم في سعر اليورو، أي تخفيض قيمته لزيادة تنافسية صادراتها مثل الدول التي مرت بظروف مشابهة وخفضت قيمة عملاتها ورفعت حجم صادراتها، كما حدث في تركيا في التسعينات أو المكسيك والأرجنتين ودول جنوب شرقي آسيا. لقد كانت تملك هذه الدول عملاتها الخاصة وبالتالي أجرت تخفيضات هائلة عليها ساهمت مباشرة في رفع حجم الصادرات والسياحة وتمكنت بعد سنوات قليلة من النمو والخروج من براثن الإفلاس. ولهذا السبب عوم الملياردير سورس في حوار بالعاصمة النمساوية فيينا بشأن الخروج من أزمة اليورو، فكرة خروج اليونان مؤقتا من اتفاقية اليورو والعودة لعملتها الوطنية الدراخما، إلى حين أن تعود للنمو وحل مشاكلها المالية ثم تعود مرة أخرى إلى عضوية اليورو. وربما يحتاج تبني مثل هذا الاقتراح إلى تعديل في اتفاقية اليورو، ولكن هنالك مخاوف من أن يقود ذلك إلى التفكك الكامل لدول اليورو في ظل ظروف السخط العام والغليان الشعبي الذي يجتاح أوروبا بكاملها.

أما العقبة الأخرى فهي تحويل الاتحاد النقدي الأوروبي إلى «اتحاد نقدي مثالي» مثلما هو الحال في الولايات المتحدة. حيث تكون لمنطقة اليورو المكونة من 17 عضوا وزارة مالية واحدة وبنك مركزي واحد وسندات تمويل موحدة تصدر من وزارة المالية الموحدة. وهذا الحل ينادي به البروفسور الحائز جائزة نوبل جوزيف ستيغلتز. وهو حل يقود أوروبا في النهاية إلى دولة واحدة وليست عدة دول تحكم مركزيا من بروكسل، مثلما هو الحال في واشنطن (اتحاد لولايات أميركية تحكم من واشنطن) تحت حكم فيدرالي. وهو ما يطلق عليه في علم الاقتصاد «الاتحاد النقدي المثالي». ويرى اقتصاديون في هذا الصدد أن الاتحاد النقدي الأوروبي يعاني من ثلاثة اختلالات وهي: أولا: هنالك تفاوت في التنافسية الاقتصادية بين دول الشمال الغنية ودول الجنوب الفقيرة داخل منطقة اليورو. وثانيا: فإن سياسة البنك المركزي الأوروبي من حيث سعر الفائدة والكتلة النقدية تخدم الاقتصادات الغنية وليست الفقيرة، فاليورو القوي يخدم ألمانيا أكثر من اليونان، كما أن سعر الفائدة المرتفع يعمل ضد إنعاش اقتصاديات الدول المثقلة بالديون. أما الاختلال الثالث، فهو أن الدول تحدد حجم إنفاقها والتمويل بنفسها كل على حدة دون أن تحدد المفوضية في بروكسل ذلك. وبالتالي وقعت بعض الدول في فخ الإفراط في الاستدانة قبيل الأزمة المالية مما أدى إلى أزمة الديون والإشراف على الإفلاسات الراهنة في بعض دول اليورو. وبالتالي يدعو ستيغلتز إلى إنشاء كتلة نقدية واحدة بوزير مالية واحد وبنك مركزي واحد يشرف على إصدار السندات الأوروبية وعمليات الإنفاق والميزانيات.

ويلاحظ أن ترك الدول تحدد ميزانيات إنفاقها، رغم الحدود والمعايير الخاصة بالعجز والدين العام الذي حددته الاتفاقية النقدية الأوروبية، أدى إلى أزمة اليورو الحالية. كما يلاحظ أيضا أن المواطن في ألمانيا مثلا يرفض أن يتحمل أخطاء مواطن آخر في اليونان ويسدد فواتير ديونه في ظل تعدد حكومات منطقة اليورو. من هذا المنطلق تتشعب عملية حل أزمة ديون اليورو رغم الجهود التي يبذلها قادة اليورو والضغوط التي تتكثف من أميركا والمؤسسات الدولية بضرورة حلها. فالحل يحتاج إلى تغييرات في السياسة والحوكمة والمال والنقد.