هكذا ينشغل العالم بالحفاظ على التراث غير المادي للشعوب

من طبيخ الأعراس في تركيا ونسيج «السدو» في الإمارات إلى المبارزة الشعرية في قبرص

يونسكو اليابان
TT

طوال الأسبوع الماضي، انشغلت أوساط ثقافية وتراثية في العالم أجمع بالاجتماع الذي عقدته، في جزيرة بالي الإندونيسية، اللجنة الحكومية الدولية لصون التراث الثقافي غير المادي، وهي لجنة تشرف عليها اليونسكو، أي منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم والتربية. وقد انتهت أعمال الدورة السادسة للجنة بإدراج 11 عنصرا على قائمة التراث الثقافي غير المادي، من تلك التي تحتاج إلى صون عاجل، و19 عنصرا على القائمة التمثيلية. كما أعلن عن 5 ممارسات نموذجية في قائمة أفضل الممارسات لصون التراث غير المادي. قبل الدخول في التفاصيل، يتساءل كثيرون عن جدوى هذه اللائحة، ولماذا تتنافس الدول على إدراج تقاليدها المتوارثة فيها.

لا بد، تمهيدا، من تعريف التراث الثقافي غير المادي، فعلى الرغم من الاستخدام المنتشر والمتزايد للمصطلح، لا يزال كثيرون لا يعرفون ماذا يعني هذا التراث ولماذا تعزز اليونسكو حمايته. لقد تغير مصطلح «التراث الثقافي» في مضمونه تغيرا كبيرا في العقود الأخيرة، ودخلت إليه تقاليد حركية وشفاهية، أي غير مادية. وهذا يعني أن التراث الثقافي لشعب من الشعوب لم يعد يقتصر على المعالم التاريخية ومجموعات القطع الفنية والأثرية، وإنما يشمل أيضا التقاليد أو أشكال التعبير الحية الموروثة من أسلافنا، والتي تداولتها الأجيال الواحد تلو الآخر وصولا إلينا، مثل التقاليد الشفهية والفنون الاستعراضية والممارسات الاجتماعية والطقوس والمناسبات الاحتفالية والمعارف والمهارات والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون.

يشكل التراث الثقافي غير المادي، على الرغم من طابعه الهش، عاملا مهمّا في الحفاظ على التنوع الثقافي في مواجهة العولمة المتزايدة، ففهم التراث الثقافي غير المادي للمجتمعات المحلية المختلفة يساعد على الحوار بين الثقافات ويشجع على الاحترام المتبادل لطريقة عيش الآخر، كما أن أهمية التراث الثقافي غير المادي لا تكمن في تمظهره الثقافي بحد ذاته، وإنما في المعارف والمهارات الغنية التي تنقل عبره من جيل إلى آخر، كما أن القيمة الاجتماعية والاقتصادية التي ينطوي عليها هذا النقل للمعارف تهم الأقليات مثلما تهم الكتل الاجتماعية الكبيرة، وتهم البلدان النامية مثلما تهم البلدان المتقدمة.

وهنا لا بد من توضيح أن التراث الثقافي غير المادي لا يقتصر على التقاليد الموروثة من الماضي وإنما يشمل أيضا ممارسات ريفية وحضرية معاصرة، تشارك فيها جماعات ثقافية متنوعة. وهو أيضا تراث جامع، لأن أشكال التعبير المنبثقة عن التراث الثقافي غير المادي التي نمارسها قد تكون مشابهة لأشكال التعبير التي يمارسها الآخرون. وسواء كان هؤلاء من قرية مجاورة أو من مدينة تقع في الجانب الآخر من العالم، أو هم جماعات هاجرت واستقرت في مناطق مختلقة، فإن كل أشكال التعبير التي يمارسونها تعد تراثا ثقافيا غير مادي، فهي أشكال للتعبير توارثتها الأجيال وتطورت استجابة لبيئاتهم، وهي تعطينا إحساسا بالهوية والاستمرارية وتشكل حلقة وصل بين ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا. والتراث الثقافي غير المادي لا يثير أسئلة عما إذا كانت بعض الممارسات خاصة بثقافة ما أم لا، فهو يسهم في التماسك الاجتماعي ويحفز الشعور بالانتماء والمسؤولية، الأمر الذي يقوي عند الأفراد الشعور بالانتماء إلى مجتمع محلي واحد أو مجتمعات محلية مختلفة وأنهم جزء من المجتمع ككل.

ويجب أن لا يفوتنا أنه تراث تمثيلي، أي أنه لا يقيّم باعتباره مجرد سلعة ثقافية أو لطابعه المتميز أو الاستثنائي وفق سلّم المقارنات، وإنما يستمد قوّته من جذوره في المجتمعات المحلية، ويعتمد على هؤلاء الذين تنتقل معارفهم في مجال التقاليد والعادات والمهارات عبر الأجيال إلى بقية أفراد المجتمع أو إلى مجتمعات أخرى. لذلك يصفه الباحثون بأنه تراث قائم على المجتمعات المحلية، وهو لا يكون تراثا إلا حين تسبغ عليه هذه الصفة الأطراف التي تنتجه وتحافظ عليه وتنقله، أي المجتمعات المحلية أو الجماعات أو الأفراد، ودون اعتراف هؤلاء بتراثهم لا يمكن لأحد غيرهم أن يقرر بدلا عنهم إن كان هذا الأمر أو ذاك يشكل جزءا من تراثهم.

الآن، بعد هذه المقدمة الطويلة والضرورية، قررت اللجنة في اجتماعها الأخير في بالي إدراج العناصر التالية الجديدة على لائحتها التي باتت تضم أكثر من 200 عنصر، وهو تراث غير مادي يحتاج إلى صون عاجل تعمل اليونسكو على تأمينه وتساهم بخبرتها في حمايته وتطويره: «يا ما كان»، وهي الحكايات الشفوية في منطقة الهدسن الصينية، ورقصة السامان في إندونيسيا، وفن «النقالي»، أي السرد الروائي في إيران للسير الشعبية والحكايات الدينية، والمهارات التقليدية لبناء مراكب اللينش والإبحار في الضفة الإيرانية من الخليج، و«الياوكوا»، وهو طقس تمارسه جماعة في البرازيل للحفاظ على النظام الاجتماعي والكوني، والمجتمع السري لـ«كوريدوغو» أو طقس الحكمة في مالي، وملحمة «تحي الدين» الموريسكي في موريتانيا، وتقنية لاعبي المزمار في منغوليا، و«نشيد شوان» في محافظة «فو تو» الفيتنامية، وصلوات «إيشوفا» المرتلة بلغة شعب «الهواشويباير» في ألبيرو، و«السدو» أو حرفة الحياكة التقليدية في الإمارات العربية المتحدة. مَن ذا الذي لا يستهويه الاطلاع على كل هذا التراث المخبوء في تضاريس هذه الأرض؟

أما العناصر المدرجة على القائمة التمثيلية فهي: المعارف التقليدية لقبائل «الشامان جاكوار» في كولومبيا، وممارسة موسيقى وغناء «البشاراش» في شرق كرواتيا، والرقص الصامت الدائري في وديان كرواتيا، والمبارزة الشعرية المعروفة باسم «تسياتيستا» في قبرص، ورحلة الملوك الفرسان في جنوب شرقي تشيكيا، وركوب الخيل التقليدي في فرنسا وبالذات «فرسان الإطار الأسود» في مدينة سومور، والحج إلى ملاذ «سيد كولوريتي» في ألبيرو، وطقس زراعة الأرز في ميبو الواقعة في مقاطعة هيروشيما اليابانية، والرقص الديني في ملاذ «سادا» في اليابان، والممارسات والتعبيرات الثقافية «البالافون» للجماعات المحلية في مالي وبوركينا فاسو، و«المارياشي»، أي الموسيقى الوترية والغناء في المكسيك، و«الفادو» وهو الغناء الشعبي الحضري المعروف في البرتغال، الذي يجمع ما بين الموسيقى والشعر وبمصاحبة القيثارة، والسير على الحبل المشدود في منطقة جولتاغي بكوريا الجنوبية، و«التايكيون»، أي فن القتال الكوري، وفن الحياكة المسمى «موزي» في مقاطعة هانسان بجمهورية كوريا، وعيد «سيدة السلامة» في إسبانيا، والاحتفالية التقليدية لوجبة طعام الكشكاك في تركيا، وهو طبق شعبي من القمح واللحم يقدم في الأعراس والمواسم الدينية، حيث يشترك الرجال والنساء في طبخه.

وبالإضافة إلى ما تقدم، اختارت اللجنة أفضل خمس ممارسات في مجال صون التراث غير المادي، هي التالية: صون الألعاب التقليدية في منطقة «الفلاندر» في بلجيكا، والنداء لمشاريع البرنامج الوطني للتراث غير المادي في البرازيل، والمتحف الحي لـ«فاندنقو» في البرازيل أيضا، وإحياء المعارف التقليدية في الصناعة اليدوية لمادة الكلس في مدينة إشبيلية الأندلسية في إسبانيا، وأسلوب «تانشاز»، وهو النموذج المجري لنقل التراث الثقافي غير المادي.

وبهذه الحصيلة تكون قائمة التراث الثقافي غير المادي التي تحتاج إلى صون عاجل قد بلغت، حتى اليوم، 27 عنصرا من 9 بلدان. وبلغت القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي 232 عنصرا من 70 بلدا، كما أن هناك قائمة بأفضل ثماني ممارسات في الصيانة. أما الاجتماع القادم للجنة الحكومية الدولية لصون التراث الثقافي غير المادي فمن المقرر أن يجري في غرناطة (إسبانيا) 2012. ووحدها البلدان التي أبرمت اتفاقية حماية التراث غير المادي يمكنها أن ترشح عناصر لإدراجها على القائمة. وهناك، حتى اليوم، 139 بلدا أبرم الاتفاقية التي اعتمدها المؤتمر العام للمنظمة عام 2003. أما اللجنة الدولية فتتألف من 24 عضوا يجري انتخابهم من قبل الجمعية العامة للدول الأطراف في اتفاقية حماية التراث الثقافي غير المادي. ويجري تجديد نصف أعضاء اللجنة كل سنتين.

وجدير بالذكر أن اليونسكو باشرت، أيضا، وبدعم من الاتحاد الأوروبي، مشروع التراث المتوسطي الحي لتنفيذ اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي في مصر والأردن ولبنان وسوريا، وذلك بمشاركة دار ثقافات العالم في فرنسا. وكانت جلسة إعلامية تمهيدية قد نظمت عام 2009، وتلقت البلدان الشريكة معلومات عن آليات تنفيذ الاتفاقية التي اعتمدتها الجمعية العامة للدول الأطراف في العام الأسبق.