رحيل شيخ الصحافة السعودية بعد قرن من العطاء

«سادن الأساطير» عبد الكريم الجهيمان في ذمة الله

عبد الكريم الجهيمان
TT

توفي أمس شيخ الصحافة السعودية، ورائد من رواد الفكر والأدب في المملكة، عبد الكريم بن عبد العزيز الجهيمان (أبو سهيل)، في أحد مستشفيات العاصمة الرياض عن 102 عام.

ويعتبر الجهيمان رائدا حقيقيا من رواد الصحافة السعودية، وعمودا من أعمدة الكلمة، في الوقت الذي يقف فيه سادنا للأساطير وحافظا للتراث، بدأت مسيرته في درب الكلمة طالبا ومعلما وصحافيا منذ نعومة أظفاره، وعمل في الصحافة كاتبا ومؤسسا ومدافعا عن حرية التعبير، ينقش في الصخر لرسم مسار عميق للعمل الصحافي السعودي، عُرف خلالها بحماسته الشديدة وحسه النقدي الذي قاده للكثير من المتاعب واضطره خلال مسيرته الطويلة إلى تقديم نفسه وحريته واستقراره قربانا للرأي الذي كان يحمله.

وُلد عبد الكريم الجهيمان في بلدة غسلة، ونشأ في القرائن، وهما بلدتان متجاورتان قريبتان من «شقراء» وسط السعودية، وتبعد نحو 200 كيلومتر عن العاصمة الرياض في عام 1912م 1332هـ، وكان والده من غسلة، ووالدته من الوقف، انفصل والده عن والدته وهو لا يزال صغيرا، فعاش منتقلا بين القريتين، وكان عمره 5 سنوات حين اجتاح نجد وباء الكوليرا، فأوقع فيها القتل والتنكيل والتشريد، وسميت السنة التي تساقط فيها الناس قتلى بفعل الوباء «سنة الرحمة».

تلقى تعليمه الأول في الكتاتيب، وفي عام 1925 انتقل إلى الرياض ودرس لدى مشايخ المساجد لمدة سنة واحدة، وفي العام التالي، 1926، غادر إلى مكة المكرمة باحثا عن الرزق وطالبا للعلم، هناك التحق بسلاح الهجانة لمدة عام، ثم انتقل للدراسة في المعهد العلمي ودرس فيه 3 سنوات تخرج بعدها في المعهد وكان ذلك عام 1351هـ، وبهذا يكون تخرجه في المعهد العلمي في مكة المكرمة في السنة نفسها التي وحد فيها الملك عبد العزيز أرجاء البلاد. في عام 1930 انتدب لإنشاء المدرسة الأولى في بلدة الخرج، بعدها بسنة واحدة انتقل للرياض لتدريس أبناء الملك سعود؛ حيث مكث هناك عاما واحدا.

وعلى الرغم من أن الجهيمان عرف في بداية حياته معلما، فإنه سرعان ما سلك درب الكتابة والنشر، في وقت لم يكن للصحافة السعودية وجود مؤسس، بل كانت التجارب الكتابية عبارة عن أنشطة للأدباء لنشر إنتاجهم الأدبي والشعري، فكانت الصحافة ملحقا أدبيا، على الرغم من محدوديته. ودخل الجهيمان حقل النشر سريعا فأصدر، مع عدد من زملائه، جريدة «أخبار الظهران» في المنطقة الشرقية، كما أصدر مطبوعات أخرى.

وكانت كتاباته في الصحافة، التي تحولت فيما بعد إلى كتب - من قبيل «آراء فرد من الشعب»، «أين الطريق»، «دخان ولهب» - تكشف عن صحافي يمتلك الشجاعة، لكنها بعد عقود من الزمن أصبحت تمثل تجارب ناضجة للعمل الصحافي السعودي وجزءا من تراثه.

في مراحل لاحقة اهتم الجهيمان بأدب الطفل فكتب للأطفال الشعر والنثر والقصة، مثل: «القطاة الساحرة»، «عايشة وأم عايشة»، «الحمامة والطوق»، «ابن الملك وأصحابه»، وبلغ عدد ما أنتجه للأطفال أكثر من 10 أعمال أدبية، وكانت تلك القصص جزءا من اهتمامه بالتربية التي انشغل بها بداية حياته، لكنها أيضا كانت تستوفي نصيبها من ولع الشاعر بمنطقته، نجد، وبحفظ وتوثيق تراثها، ومما ينقل أن الأديب الكبير كان يدور المناطق النجدية بحثا عن الأمثلة حتى يحققها ويسجلها، وكان يدفع لكل من يحضر له مثلا جديدا ريالا، وهو ذو قيمة معتبرة في ذلك الزمان.

من الشعر كتب ديوان «خفقات قلب» (قيد الطبع) وهو مجموعة من القصائد التي سبق للشاعر أن نظمها منذ ريعان الشباب، ولم يصدر الديوان بعد.

* من التعليم إلى الصحافة

* تمثل المرحلة التي قادت الجهيمان لاستكشاف العالم الخارجي منعطفا أساسيا في حياته؛ فبعد عودته تحول من عمله في التعليم إلى الصحافة، وتم ذلك بعدما سافر إلى مصر، وفي مذكراته يتحدث الجهيمان عن تأثير السفر على حياته: «وقد أحدث السفر إلى مصر بالنسبة لي خاصة تحولات في تفكيري الاجتماعي وعرفت كثيرا من الشخصيات البارزة في الدولة.. وبما أن هذه السفرة هي أول سفرة في حياتي خارج بلادي، فقد رأيت فيها الكثير من الأمور التي منها ما أحببته ومنها ما كرهته.. فقد خرجت من مجتمع محدود يعيش عيشة محدودة، عيشة الكفاف والعفاف، وإذا بي في أيام قلائل أرى نفسي في مجتمع يموج بمختلف التيارات والرغبات والصراع في سبيل العيش بين الكبار والصغار والفقراء والأغنياء.. وبالجملة فقد استفدت مما سمعت واستفدت مما رأيت.. وعرفت مسالك الخير ومسالك الشر في هذا المجتمع الجديد الذي شاهدته، فكان الأول من نوعه في حياتي التي قاربت الأربعين عاما».

الرحلة إلى الخارج قادت الجهيمان إلى باريس؛ حيث تعرف هناك على شخصيات كثيرة وألف كتابا سماه «ذكريات باريس»، كما زار بلجيكا وهولندا وسويسرا وإيطاليا.

في الخمسينات، وبعد عودته للبلاد بعد رحلات قادته إلى عالم مختلف عما عاشه وعايشه؛ حيث تعلم الكثير من اختلاطه بمختلف فئات المجتمعات من مصر إلى أوروبا، حط رحاله في المنطقة الشرقية؛ حيث أسس مع صديقه عبد الله الملحوق شركة «الخط للطباعة والنشر» بالمنطقة الشرقية، كمقدمة لتأسيس صحيفة يومية تصدر من الدمام، وفي مذكراته يقول: «وأرسلنا برقية باسم مطابع الخط إلى ولي العهد سعود الذي كبر والده الملك عبد العزيز، فصار يتولى جميع شؤون البلاد. وجاءت الموافقة من سموه بإصدار هذه الجريدة باسم (أخبار الظهران)».

وفي مذكراته، يكتب الجهيمان أن هذه الصحيفة صدرت بداية من بيروت لأن «مطابع الخط لم يكن لديها الاستعداد آنذاك لإصدارها، أي طبعها، فكنا نرسل المواد كاملة إلى بيروت، مقالاتها وأخبارها وإعلاناتها، وبعد فترة قصيرة تولينا إصدارها من الدمام نصف شهرية مؤقتا، وكانت في بدايتها ضعيفة هزيلة كأي بذرة توضع في التربة، وكأي عمل ينشأ من جديد.. ثم إنها كانت أول صحيفة تصدر في هذه المنطقة التي انتقلت أكثر منها من طور القرى إلى طور المدن.. ثم إن أكثر القاطنين فيها هم عمال في شركة (أرامكو)، ولكن (أخبار الظهران) بدأت تنمو وتكبر ويتسع توزيعها ويكثر قراؤها شيئا فشيئا، لما يلمس القارئ فيها من صراحة في القول وإخلاص في علاج الكثير من المشكلات الاجتماعية والثقافية والسياسية. ولهذا فقد كانت موضع الثقة من الحكومة ومن المواطنين على حد سواء، وظهر من بين هؤلاء العمال كتاب ومفكرون صاروا يغذون هذه الصحيفة بألوان من البحوث والمقالات المليئة بالوطنية والإخلاص، والجرأة في بعض الأحيان.. وقد اكتسبت من رئاسة تحرير هذه الصحيفة مكسبا معنويا كبيرا.. وكانت نقلة جديدة في حياتي الوطنية والفكرية؛ حيث كان يرد إلى هذه الصحيفة مختلف الآراء والاتجاهات التي منها ما يكون متزنا ومنها ما يكون مندفعا ومتهورا ومنها ما يكون مدسوسا فيه بعض الأفكار التي لا تتناسب مع محيطنا ومجتمعنا المحافظ الذي تسوده قيم وأخلاق توارثها الخلف عن السلف، فإذا تجاوزها إنسان اعتبر شاذا.. فالحقيقة بنت البحث، كما يقول المجربون في حِكمهم التي يطلقونها في مجتمعاتهم، وسارت الصحيفة على هذا المنوال حتى أصبحت موضع ثقة واحترام الجميع، وكنت بصفتي مسؤولا عن هذه الصحيفة ومسؤولا عن جميع ما ينشر فيها.. كنت أنخل ما يرد إليَّ من بحوث ومقالات وأخبار فأعرف منها مختلف التيارات التي تعيش في المجتمع أو يعيش فيها المجتمع أو بعض فصائل المجتمع».

كانت المحطة الأبرز في تاريخ هذه الصحيفة، ومعها ارتبط بسيرة الجهيمان، هو المقال الذي نشرته صحيفة «أخبار الظهران»، وكان بعنوان «نصفنا الآخر» ونشر في عددين بقلم «م. البصير من الدمام»، ويدافع المقال عن حق البنات في التعليم.

ففي العدد الصادر في 30 - 3 - 1375هـ نشر مقال باسم مستعار «بقلم م. البصير» تحت عنوان «في شؤوننا - 13 - نصفنا الآخر» يقول فيها: «ومع ذلك فإننا لا نزال نرى الكثيرين من مواطنينا يتهيبون من تعليم بناتهم ويذهبون في تهيبهم هذا إلى شيء أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة ويتركون بناتهم أشبه ما تكون بالببغاء التي تحكي ما تلقت، فإذا خرجت بها قليلا عما لقنت وجدتها كالعجماوات الأخريات اللاتي لديهن شيء من الذكاء الفطري، إلا أنه ينقصهن التوجيه العلمي والصقل الفكري. ونحن لا ندري لماذا يتخوفون، ولماذا يتوهمون، وهم يرون بأم أعينهم أن الجهل لا يعصم من المزالق، وأن العلم والمعرفة لا ينحدران بصاحبهما بقدر ما ينحدر به الجهل.. ونظرة خاطفة إلى ما حولنا أو مقارنة سريعة تظهر لنا هذه الحقيقة واضحة جلية لا غبار عليها».

بعد ذلك نُشر مقال آخر بعنوان «في شؤوننا لا تهيب ولا أوهام». دافع هو الآخر عن المقال الأول على الرغم من الزوبعة التي أحدثها وطالب بحل العقبات التي تعترض سبيل تعليم البنات.

وقد أدى المقال إلى سجن رئيس التحرير عبد الكريم الجهيمان 21 يوما، وأدى كذلك إلى إيقاف الصحيفة نفسها. وقد استمرت تجربة الجهيمان مع «أخبار الظهران» حتى العدد 44 بتاريخ 29 - 4 - 1957 بعد إيقافه وقفل الصحيفة. وبعد أن عاودت الصحيفة الظهور من جديد بعد عامين في 23 - 4 - 1961 لم يكن الجهيمان في طاقم تحريرها، لكنها نشرت بعض مقالاته، وتوقفت نهائيا بعد صدور قانون المؤسسات الصحافية عام 1962.

في مذكراته، يستعرض الجهيمان التجاذب الذي كان يواجهه كصحافي يؤمن بحرية التعبير، ويسعى لإحداث تغيير متدرج، وبين قوى الضغط الاجتماعية والسياسية، فيقول: «لكن بعض المواطنين يطالبوننا بحرية واندفاع إلى الأمام أكثر مما نحن عليه سائرون، بل يريدوننا أن نقفز في درجات سلم أهدافنا قفزا، فنحاول أن نفهمهم بأن القفز قد يعرض إلى السقوط وأن الاتزان هو الطريق الأسلم والأحكم».

كتب الجهيمان في جريدة «اليمامة» مع صديقه حمد الجاسر تحت عنوان «أين الطريق؟»، وخلال غياب الجاسر كان يتولى مسؤولية إدارتها. كما كتب بجريدة «القصيم» عند صدور العدد الأول تحت عنوان «مع الزمن» في الصفحة الأولى و«المعتدل والمايل» في الصفحة الأخيرة.

في دراسته لسيرة الجهيمان الصحافية، يلاحظ الباحث المعروف محمد عبد الرزاق القشعمي أن الجهيمان «أسهم بشكل بارز في الصحافة السعودية منذ نشأتها، وكانت كتاباته في جرائد (أخبار الظهران) ثم (القصيم) و(اليمامة) وغيرها مثار اهتمام شعبي ورسمي؛ حيث حرص باستمرار على أن يكون ضمير الشعب في كتاباته، وأن يسلط الأضواء على مكامن الضعف في حياة المملكة في تلك الفترة، ولم يتردد أن يوجه، عبر الصحافة، رسائل مفتوحة إلى كل وزير من وزراء الدولة لتبصيره بالأوضاع الإيجابية والسلبية في عمل وزارته وما يريد الناس منها».

وكان الجهيمان، كما يضيف، يكره المتملقين والمنافقين والمدعين ويرثي لحالهم. وإذا عرف أن أحدهم في مكان معين يعتذر عن عدم الذهاب إليه بدعوى أنه مرتبط بموعد مسبق، إلى جانب حبه للطيبين الصادقين.