معرض فني تاريخي يستعرض علاقة مدينة ليون بفن الطبخ

يؤكد ريادتها في المطبخ الفرنسي

مدرسة الطهاة التي يراسها بول بوكوز
TT

تفخر المدن عادة، برجالاتها من السياسيين والأدباء والفنانين، فتخلد ذكراهم، سواء من خلال التماثيل التي تنصبها لهم في الساحات والميادين العامة والحدائق. أو بإطلاق أسمائهم على الشوارع والمدارس والجامعات... إلخ. لكن أن تفخر مدينة بطاهٍ فهذا أمر مستغرب، لا يتم في أي مكان من العالم. وبهذا المعنى، يمكن فهم التكريم الدائم الذي يحظى به بول بوكوز (بابا المطابخ) في العالم، وهو اللقب الذي منح له في عام 1989. فلا يمكن ذكر المدينة في أي مكان، دون أن يلمع اسم هذا الرجل الثمانيني، الذي حمل مدينته إلى العالم، من خلال المأكولات التي يقدمها، ويسعى من خلالها إلى المحافظة على تقليد ثقافي استمر في المدينة على النسق نفسه منذ أيام الرومان. كما أنه، هو، سليل عائلة، تعمل في مهنة الأطعمة، منذ القرن السابع عشر. هو إذن، الأكثر على استحضار تاريخ المدينة وثقافتها إلى جانب ريادته في المطبخ الفرنسي.

تكمن ميزة مدينة ليون، كمدينة ذات أهمية فرنسية قصوى، لا من حيث الأكل وحسب، فالأكل موجود في كل الحضارات، ولا يوجد في تاريخ أي أمة أو مدينة أو حضارة، فترات خالية من الأكل. لكن الفارق بين مدينة ليون، والجهد الذي يبذله بوكوز في هذا الجانب، هو أنها حافظت على استمرارية مجموعة من الأطباق، طوال فترة تمتد إلى ما يزيد على ثمانية قرون. وهذا إنجاز، يعطي المدينة خصوصية لا تشاطرها فيها أي مدينة أخرى لا في فرنسا ولا في العالم. كما أنها، في خضم تطوير طهاتها لبعض الأطباق وابتكارهم لأطباق جديدة. سجلت حضورا لافتا على خريطة المطبخ العالمي.

لا يمكن والحال هذا، التحدث فقط عن ليون بوصفها مدينة شرهة. الشراهة جزء من المطبخ، حيث لا يمكن تطوير المطبخ وفنون الطهو سوى بمخيلة شرهة. بعض المطابخ العالمية والعربية اليوم، تشهد تطورات هائلة، لكنها تطورات غير مدروسة، عشوائية، تعتمد التنميق وتغيير الأشكال دون أن تتدخل في النوع نفسه ومذاقه. المطبخ اللبناني، الذي يعتبر الأكثر تطورا من بين المطابخ الخارجة من رحم المطبخين التركي والحلبي، مع بعض الخصوصية، حفل في السنوات الأخيرة بالكثير من التعديلات جعلت الكثيرين يعزفون عن الجديد فيه والعودة إلى القديم المعروف والمجرب. الذوق لا يمكن تعديله بسهولة، وابتكار أطباق جديدة مسألة شاقة، خصوصا حين يتم التطوير بناء على قواعد مهنية وعلمية لا تتفارق مع التقليد والذائقة العامة، الأكل بهذا المعنى يعد ثقافة بالغة الأهمية.

يبرز المعرض الذي يستضيفه متحف غادان، ثقافة فن الطهي، كعادة أصيلة في ليون وإقليم رون ألب الذي تعتبر ليون عاصمته. كما يظهر الدور الذي لعبته المدينة من خلال طهاتها، في المحافظة على هذا الجانب الثقافي وتطويره واستمراريته. ذلك من خلال تتبع المعرض لشخصيات كثيرة، أثرت في ثقافة الطهي الفرنسية وأضافت إلى المطبخ الفرنسي قيمة عالمية معظمها من هذه المدينة، كما أنه يبرز دور مطاعم بعينها ساهمت في هذا التطور، رغم تغير طهاتها عبر الزمن. ربما في ليون وحدها يمكن رؤية مطعم لا يزال يفتح أبوابه منذ خمسة قرون. هذا ليس مجرد حدث عادي. ذلك أنه حالة نادرة وفريدة.

تظهر كرونولوجيا المعرض، أن مجد المطبخ الليوني، لم يتحقق سوى في بدايات القرن السابع عشر. ففي تلك الفترة، كانت المدينة تعيش مجد فرنسا الكولنيالي، وكذلك تتربع على رأس لائحة المدن المؤثرة في الحركة التجارية والصناعية الفرنسية، التي استفادت من تخطي فرنسا لحدودها الجغرافية والقارية. فالمدينة كانت من كبرى المدن الصناعية في أوروبا التي شهدت الانتقال من العصر الفلاحي وزمن الملكية والإقطاع إلى الثورة الصناعية التي لا تزال لغاية الآن تغييراتها في المجتمع الأوروبي حية وناضجة.

كان لا بد في ذلك الزمن، أن تتطور المدينة على هذا المستوى. فإذا ما أمعنا النظر، في سيرة المطبخ الليوني من خلال هذا المعرض، نشاهد، أن تلك الفترة كانت الفترة التي بدأت تفتح فيها المطاعم خارج البيوت والقصور. إذ كانت تستهدف التجار وكبار التجار وطبقة الملاك والطبقات الملكية والمخملية، وهي طبقات كان بإمكان أفرادها الجلوس خارج البيت لتناول طعام الغذاء أو العشاء. فضلا عن أن بعض الطهاة المشهورين كانوا دوما أصحاب الحظوة الكبيرة في القصور الملكية والأميرية بسبب الحفلات التي كانت تقام باستمرار ويحضرها علية القوم ونخبته المهمة. يعرض المعرض إلى جانب السرد التاريخي للمطعم الليوني وتطوره. بعض الأدوات التي كانت تستخدم في المطاعم، وبعض الأدوات التي لا تزال تستعمل للآن. أدوات الطبخ مسألة غاية بالأهمية، إذ من خلالها يمكن الحصول على المذاق وعلى الشكل، ومن خلالها يمكننا، اليوم، اكتشاف الكثير من التقنيات التي لا تزال مستخدمة حتى يومنا هذا. وإن برزت في القرن العشرين، الأدوات الكهربائية التي توفر الوقت والجهد، فإنها والحال هذا لا يمكنها أن تعطي، نفس القيمة المعنوية للطبق الذي يحضر. يقول بوكوز «ما زلت لغاية اليوم أستعمل بعض الأدوات القديمة، خاصة في صنع الحلويات فهي تعطي قيمة للطبق الذي يحضر وليس الشكل فقط». لا يعني هذا الكلام أن بوكوز هجر الأدوات الحديثة، هذا الأمر غير ممكن، حين يكون الرجل صاحب أهم ثلاثة مطاعم في فرنسا، ومطعم في اليابان، ذلك أن اليابانيين هم الأكثر وقوعا في غرام المطبخ الفرنسي. فهو، يعمل على التطوير والابتكار، لا من خلال الآلات الحديثة التي يستعملها، بل أيضا، من خلال عشقه للطهي الذي يصل إلى حد فناء العمر في سبيل هذه المهنة. رسالته اليوم، من خلال هذا المعرض، هي أكثر رسالة، للطهاة الجدد الذين يتعلمون اليوم تحضير كل شيء بمساعدة الآلات، «في حين أن يدا يمكنها صنع الكثير»، على ما يقول في غير مكان من شهادته.

ثمة جانب مناطقي في هذا المعرض، ذلك أنه في إبرازه دور ليون في تطوير المطبخ الفرنسي يتغافل عن ذكر عدد من الطهاة الكبار الذين مروا في تاريخ فرنسا وكانوا ينتمون إلى مدن أخرى. والمناطقية لا تصل إلى حد العنصرية. فلكل منطقة في فرنسا اختصاصها وأطباقها الأكثر شعبية. لكن ليون وسكانها ومعهم هذا العجوز المعلم، يفخرون بنتاج مدينتهم وما قدمته. إذ يحصي المعرض، أن المدينة قدمت إلى المطبخ الفرنسي أكثر من ألفي طبق خلال فترة لم تتجاوز الخمسة قرون. كما أنها، قدمت من بين أكثر مائة طبق شعبية في فرنسا نحو ثمانين في المائة. وهذا وحده يعد مادة للفخر والتفوق.

في الطريق إلى متحف غادان، وفي الطرقات القديمة للمدينة، لا يمكن العثور على طريق غير ممتلئ بالمطاعم من كل الدرجات، لكن دون تنوع. فهنا المطاعم في غالبيتها تقدم الأكل الليوني، أما المطاعم العالمية الأخرى فلها أماكنها في ليون الجديدة. لكن الظاهرة الجديدة، اللافتة، في المدينة التي تعد نحو مليوني نسمة دون ضواحيها ومحيطها، هو مطاعم الساندويتش التركي الشهير «كباب» الذي دخل إلى ذائقة الفرنسيين والأوروبيين عموما وأصبح ساندويتشا يشار إليه كمنافس لمطاعم الوجبات السريعة، لكنه لغاية اليوم لم يصل إلى منافسة الساندويتش الفرنسي الأكثر شهرة والليوني بامتياز «الجامبون بالزبدة»، وهو الساندويتش الأبرز للفرنسيين، في حين أن الكباب لا يزال أكثر شعبية لدى المهاجرين والطبقات الفقيرة.

يكشف لنا هذا المعرض عظمة المطبخ الفرنسي، لا بالنسبة للفرنسيين وحسب بل للعالم. فهو مطبخ ابتكر أطباقه وطورها وساهم بفعالية في خلق فن الطهي، الفن الذي يمكن أن يحيل طاهيا لأن يكون نجما. فالنجوم لا تصنعهم الشاشة والسياسة والرياضة والفن، بل كذلك يصنعهم المطبخ. هذا ما يقوله المعرض.