حكاية «تاكسي درايفر» لبناني ومأساة كردية في حلبجة

في مهرجان دبي السينمائي الدولي

لقطة من «تاكسي البلد»
TT

عين الفيلم اللبناني المعروض ضمن مسابقة «المهر العربي للأفلام الروائية» تحت عنوان «تاكسي البلد» هي على السوق الجماهيرية كما على إيداع مشاهدي المهرجانات ذخيرة فنيّة يعتبرها كافية للمنافسة. كذلك من المرجّح أن يكون مهرجان دبي أخذ بهذا الاعتبار وإلا لكان استبعده تماما كما استبعد سواه.

منذ نجاحات المخرجة اللبنانية نادين لبكي في الأسواق اللبنانية والعربية والعالمية (أيضا)، أي منذ أن حققت «سكر بنات» قبل أربعة أعوام، مكررة هذا النجاح على نطاق أوسع في فيلمه الجديد «وهلأ لوين»، وهناك رغبة مجاورة لتقليد نجاحها ذاك في أفلام أخرى. أفلام لبكي تقوم على مزج بين العنصرين الترفيهي والانتقائي في الوقت ذاته وهو حال «تاكسي البلد».

أخرجه وكتبه دانيال جوزيف من إنتاج لوليد فخر الدين وبطولة طلال الجردي وكارينا لوغ ومجموعة كبيرة من الأسماء تلعب أدوارا منتشرة على جانبي المنطقتين الجغرافيّتين اللتين تشكلانه: القرية والمدينة. فبطل الفيلم يوسف يوسف (الجردي) سائق تاكسي في بيروت (يحب القيادة في الليل، الأمر الذي ربما عاد لسهولة التصوير في الليل أيضا) الذي يأخذنا من مطلع الفيلم إلى حين كان صبيا في العاشرة يعيش في إحدى القرى الجبلية (تصوير جيد لتشارلز دي روزا). إذن التقديم عبارة عن مشهد داخل سيّارة التاكسي وبطلنا يقود مع تعليق صوتي يكون بمثابة الأنبوب الذي سننتقل عبره إلى الأمس. والأمس خلال الحرب الأهلية (من دون أن نراها) لكن القرية هادئة باستثناء أن بطلها كارلو هو أقوى رجالها وهناك من جاء يتحدّاه والصبي يوسف يشترك والآخرون في إلهاب الحماس لكارلو الذي يفوز في التحدّي لكنه يخسر في حبّه لفتاة تعيش في القرية ثم تسافر إلى كندا مع منافس آخر على قلبها.

الانتقال بيوسف وقد غدا رجلا يقود التاكسي بعد أن خسر بدوره حبيبته (وكيفية خسارته حبيبته تحتل قدرا لا بأس به من الفيلم) لا يعني أننا لن نعود إلى الماضي مجددا في مشاهد أخرى. هذا طريق لا يقطعه المخرج بل يواصل العمل به ذهابا وإيابا ولو أنه يمنح الفترة «البيروتية» حقّها من الظهور.

إنه فيلم يتحدّث عن وحدة هذا الرجل وقصّة حياته. كيف عاش في كنف القرية، وكيف يعيش الآن في شوارع المدينة. لكن الحاجة إلى هذه القصّة (وبالتالي الفيلم) تبقى غير ثابتة، وأحيانا غير متوفّرة. ليس هناك بعد فعلي لتلك الشخصية ولا لما يتناوله المخرج منها. الموضوع المؤرق الذي يُعايشه يبقى في داخله ولا نشعر به. الانتقال المتكرر لا يتم بمنهج مدروس. أنت هنا ثم أنت هناك حتى ولو أن السبب هو مجرد اختيار المخرج وكاتب السيناريو لذلك. ثم حقيقة أن صوت المعلّق هو غير صوت بطل الأحداث (والفيلم) لا يخدم المنطق لأنه إذا ما كنت تريد للمعلّق أن يكون يوسف فإن الطبيعي أن يكون صوت الممثل ذاته هو الذي نسمعه يعلّق على ما يشعر وما يعايش وما يحدث.

تابعت المشاهد من دون كثير اكتراث، رغم مواطن جيّدة التنفيذ. ما هو جيّد إدارته العامّة للجموع ولحركات ممثليه. هناك سلاسة جيّدة في هذا المجال.

هناك مشهد لممثلين لبنانيين ماتا تباعا ولا أعتقد أنهما ظهرا في فيلم واحد من قبل هما زياد مكّوك ومحمود مبسوط (صاحب شخصية فهمان الشهيرة). هنا يظهران معا. الأول لاعب طاولة زهر عند دكّان الثاني الذي يعمل حلاّقا. إنه ليس مشهدا له أي دلالة بما سبقه أو لحقه باسثتناء أنه منسوج من اللحمة البيروتية المحبوبة (شخصية يوسف مسيحية لكنه يعمل في المنطقة الغربية من بيروت) مع ممثلين كوميديين رائعين في مشهد ينتهي بهما في إطار لقطة واحدة. لقطة هي أقرب إلى التخليد إذ انتقلا من عالمنا هذا رحمهما الله.

الفيلم يمر مسليّا لكنه غير مبرر الوجود. يسعى للحديث عن بطله الذي حمل تعبيرا واحدا طوال الفيلم نظرا لأن الكتابة غير مشفوعة بعمق المشكلة التي تعاني منها، لذلك تبقى على السطح وتبقى داخل الشخصية مفتقرة إلى أي نوع من التداول بينها وبين المشاهدين.

في مسابقة الفيلم الوثائقي شاهد هذا الناقد «حلبجة - الأطفال المفقودون» للمخرج أكرم حميدو وهو كردي عراقي يسعي لتأريخ قيام النظام العراقي السابق بقصف مدينة حلبجة الكردية بوابل من الغاز الكيماوي الذي أسفر عن قتل عشرات (إن لم يكن مئات) الضحايا وذلك سنة 1988.

هو زيارة لتلك المدينة الكردستانية بعد 21 سنة على الغارة ولقاء مع من نجوا من القصف يسرد فيه هؤلاء ذكرياتهم فعلا عما حدث. بذلك يتشكّل جوهر الفيلم من تلك الشهادات المنسوجة من ألم الذاكرة، خصوصا أن جوهر البحث الذي يقدم عليه المخرج أكرم حيدو يتّخذ من بحث شخصيته الرئيسية عن أي عائلة من تلك العائلات الخمس التي يقابل هي أهله، فقد فُقد وهو طفل صغير ويعود الآن بعد اللجوء إلى أقاربه في إيران لينتمي.

موضوع جيّد وشغل حيدو على الكاميرا ومتطلّباتها والفيلم بأسره جيّد. لكن بعد نصف الساعة الأول يتبلور الفيلم في سرد رتيب. طبعا العلاقة بينه وبين ما يثير من مشاعر في نفوس المشاهدين تبقى واضحة، لكن المنوال نفسه يصبح متكررا خصوصا أن الفيلم تشبّع بحالته وموضوعه من البداية.