إعلام ما بعد الثورة في تونس: اتهامات وإضرابات متزايدة ومطالب دستورية

في بداية «الفورة» تجاوز العدد الـ90 صحيفة

الصحافة التونسية أمام تحديات جديدة («الشرق الأوسط»)
TT

لا يختلف المشهد الإعلامي في «تونس ما بعد ثورة 2011» عما تشهده قطاعات كثيرة من تحولات، على أثر ركود سياسي وإعلامي طال لأكثر من نصف قرن. وما يُذكر أنه بعد الاستقلال، عام 1956، أوقف الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة عددا من الصحف والمجلات، وجعل الساحة حكرا على أربع صحف فقط؛ اثنتين بالعربية، واثنتين بالفرنسية. بيد أن الساحة التونسية، شهدت بعد ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 «فورة إعلامية» بل حتى «انفجارا إعلاميا»، إن صح التعبير، على الأقل من حيث الكم، إذ تجاوز عدد الصحف التي صدرت بعد الثورة التسعين صحيفة في ظرف وجيز.

ولكن، كحال الأحزاب السياسية في مرحلة ما بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي يوم 23 أكتوبر (تشرين الأول) الفائت، بدأ عدد كبير من المطبوعات الجديدة يتهاوى ويسقط، وأخذ الزخم الإعلامي الذي استمر من 14 يناير وحتى 23 أكتوبر يبدو أشبه بـ«بالونات هوائية» ثقبت وهي في أوج انتفاخها.

بين المطبوعات التي برزت ثم اختفت، على سبيل المثال لا الحصر، صحف «14 يناير» و«الصدى» و«المحرر»، ومعها صحف أخرى لم تجد أصداء لما كانت تنشره، مقارنة بصحف تقليدية أكثر خبرة بالساحة الإعلامية. ولقد تمكنت هذه الأخيرة بفضل خبرتها من استيعاب المتغيرات الجديدة فجارتها، وبالتالي، حافظت على قرائها التقليديين من ناحية، ومن ناحية أخرى كسبت لها قراء جددا.

ولكن، هناك بطبيعة الحال أسباب أخرى، في انهيار زخم المطبوعات الجديدة في عصر «تونس - الثورة»، منها غياب عنصر التميز سياسيا لا سيما في الصحف الحزبية، ومنها انعدام التنوع التبويبي الذي يثري مطبوعة ويميزها عن منافساتها في مجال جذب القراء، ويلغي مقولة إن الصحف اليومية هي «أخبار الأمس» والصحف الأسبوعية هي «أخبار الأسبوع الماضي» وهكذا. ثم هناك، حتما، غياب التمويل ولا سيما من مورد الإعلانات الصحافية.

وللعلم، كان أصحاب الصحف يشكون في الفترة الأخيرة من التكلفة الباهظة للإصدار مقابل الشح في المداخيل ونقص الاشتراكات والإعلانات، إضافة لما يقولون إنه «تواطؤ» ضد مطبوعات بعينها يجري حجبها عن العرض عمدا في عدد من نقاط بيع الصحف، وهي ظاهرة عرفتها تونس إبان العهد السابق، واستمرت على ما يظهر بعد الثورة.

على صعيد متصل، فإن معاناة الصحف لا تقارن بمعاناة كثيرين من الصحافيين، سواء من أولئك الذين وجدوا أنفسهم على أعتاب البطالة، أو الذين ما زالوا يمارسون مهنتهم مع صحف أخرى ولكن من دون رواتب مجزية ومن دون حقوق مضمونة. وهذا الوضع الشيء حدا بعدد كبير من الصحافيين إلى المطالبة بضرورة تضمين الدستور التونسي الجديد ما يكرس حقوق الصحافيين، ورفض الاقتصار على تدوين حرية التعبير والإعلام في بنود الدستور.

وفي هذا السباق، أعلن يوم 17 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي 30 صحافيا تونسيا الإضراب عن الطعام لمدة يوم واحد في مقر «جمعية الصحافيين الشبان»، وذلك بهدف توصيل صوت الصحافي إلى أعضاء المجلس التأسيسي. وحول هذه النقطة أوضحت سيدة الهمامي، أن إضراب الصحافيين تزامن مع الافتتاح الرسمي لـ«جمعية الصحافيين الشبان»، كـ«إشارة رمزية لمعاناة الصحافيين وتوصيل صوتهم إلى الجهات المعنية». وأكدت أن الصحافيين «يطالبون بإدراج مطالب حقوقية في الدستور وعدم الاكتفاء بالإشارة إلى حرية التعبير، كما يطالبون بتنفيذ الاتفاقية المشتركة لعموم الصحافيين ومراجعة مجلة (الصحافة الجديدة)، خاصة الفصلين الـ7 والـ20، والاحتجاج على ما يتعرض له الصحافيون العاملون ببعض الصحف المكتوبة الجديدة من طرد على أثر إغلاق المؤسسة الإعلامية».

وفي هذه الأجواء، يستمر الجدل حول عدد من وسائل الإعلام والصحافيين الذين وضعتهم لجنة الصحافيين الشبان في النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين، في «قائمة سوداء» بالاسم والصورة بحجة أنهم «خدموا الاستبداد» في العهد. ويرى البعض أن «قطاع الإعلام، والبلاد ككل، بحاجة إلى شحذ كل الطاقات لبناء مستقبل أفضل لتونس وفاء لدماء الشهداء والجرحى ونضالات أجيال من التونسيين والتونسيات الذين عذبوا في السجون والمعتقلات وعرفوا ألوانا من التضييقات، وبينهم مئات من الإعلاميين والمثقفين النزهاء واضطروا للعمل في المؤسسات الحزبية والحكومية ولكتابات ومواقف لا تمثلهم، لكنهم لم يتورطوا في الفساد المالي والسياسي والأمني الذي نخر البلاد خلال الـ55 عاما الماضية».

والجدير بالذكر، أن بين الأسماء الموضوعة على «القائمة السوداء» شخصيات ومؤسسات إعلامية اتهموا بـ«الفساد في العهد السابق، وعلى رأسهم مجموعة من كبار مديري المؤسسات الصحافية الذين - يقال إنهم - كونوا ثروات طائلة على حساب الأموال العمومية». ويتهم هؤلاء أيضا بأنهم «دعموا منذ انقلاب 7 نوفمبر 1987 المظالم وتزييف الانتخابات والقمع والخيارات الأمنية السياسية الاستئصالية، التي بدأت منذ السنوات الأولى لحكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي، وبرروا اعتقال عشرات الآلاف من الطلبة والنشطاء والنقابيين والحقوقيين والمناضلين السياسيين وتعذيبهم، إلى درجة سقوط شهداء بينهم، كما برروا اضطهادهم طوال عقدين من الزمن». كذلك هناك «أشخاص - يقال إنه - كانت لهم علاقات مالية مشبوهة بالصندوق الأسود لوزارة الداخلية وتحصلوا على امتيازات مالية غير مبررة من عدة مؤسسات حكومية وشبه عمومية من بينها الديوان الوطني للسياحة وشركة تونس الجوية». وآخرون «أعدوا تقارير لفائدة وزارة الداخلية ولسفارات دول أجنبية وعربية عن زملائهم الصحافيين وعن المثقفين والنشطاء السياسيين والحقوقيين والنقابيين».

وبالنتيجة، احتوت القائمة على أسماء 54 صحافيا وإعلاميا ومسؤولا في قطاع الإعلام. واعتبر الصحافيون الشبان نشر القائمة «دعوة للنقد واعتماد الشفافية مستقبلا في التعامل مع الملفات المالية والسياسية والإعلامية وإلى الاحتكام إلى القانون والدستور».