اشتباكات جديدة بين الثوار في طرابلس تعكر صفو أول مؤتمر للمصالحة الوطنية

تباين في وجهات النظر بين المجلس الانتقالي والحكومة الجديدة حول شروط العفو عن أتباع نظام القذافي ومؤيديه

افتتاح مؤتمر المصالحة الوطنية بطرابلس أمس ويبدو من اليمين: المفتي صديق الغرياني، والشيخ يوسف القرضاوي، وراشد الغنوشي، ومصطفى عبد الجليل، وعبد الرحيم الكيب، ود. خالد العطية (إ.ب.أ)
TT

شهدت العاصمة الليبية طرابلس اشتباكات جديدة بين مجموعة من الثوار المسلحين، أسفرت عن مصرع وإصابة أربعة أشخاص على الأقل، فيما برز أمس للمرة الأولى خلاف في وجهات النظر بين المستشار مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الانتقالي الليبي، ورئيس الحكومة الانتقالية الجديدة الدكتور عبد الرحيم الكيب، حول إمكانية العفو عن أتباع العقيد الراحل معمر القذافي وكبار مسؤوليه السابقين، حيث قال عبد الجليل إن المجلس مستعد للصفح عن المقاتلين الذين قاتلوا إلى جانب القذافي خلال الثورة في ليبيا، بينما رأى الكيب أن الذين قاموا بالتعذيب والاغتصاب والقتل الجماعي وسرقوا أموال الشعب لا بد أن يتعرضوا للمحاسبة.

وفي ما بدا أنه تعبير عن صراع مكتوم بين الثوار المسلحين، تجددت أمس للمرة الثالثة منذ سقوط نظام القذافي قبل نحو شهرين، الاشتباكات العنيفة بين مقاتلين من الثوار، حيث قال مسؤولون حكوميون وسكان في العاصمة طرابلس لـ«الشرق الأوسط» إن مواجهات مسلحة اندلعت بين مجموعة من ثوار الزنتان ومجموعة أخرى موالية للعقيد خليفة حفتر المرشح الذي رفضه الثوار لمنصب رئيس أركان الجيش الوطني، بعدما هاجمت الجماعة المؤيدة لحفتر نقطة تفتيش على معسكر حمزة في طريق المطار الذي يقع على بعد 14 كيلومترا من وسط طرابلس. وقال أحد سكان المنطقة الذي يبعد منزله نحو 75 مترا فقط عن مكان الاشتباكات إن ثوار الزنتان هددوا بتفجير محطة وقود في المكان بعدما حاول مسلحون تابعون لحفتر السيطرة على المعسكر بقوة السلاح. ولفت شاهد العيان لـ«الشرق الأوسط» في اتصال هاتفي إلى أن المشكلة وقعت أساسا بين كتائب الزنتان وجيش خليفة حفتر حول أحقية كل منهما في حيازة معسكر حمزة الذي يقع في منطقة تسمى المشروع بالقرب من خزانات للنفط.

ويعتبر معسكر حمزة المترامي الأطراف والمتنازع عليه من المعسكرات القليلة التي لم يقصفها حلف شمال الأطلسي (الناتو) خلال غاراته الجوية التي استهدفت الأهداف والمنشآت العسكرية والحيوية لنظام القذافي قبل سقوطه. لكن مصادر ليبية أخرى قالت لـ«الشرق الأوسط» إن الاشتباكات وقعت لدى اعتراض بعض الثوار لموكب عسكري يضم حفتر، مشيرة إلى مصرع وإصابة أربعة أشخاص على الأقل من جراء هذه الاشتباكات التي سمع دويها في بعض أرجاء طرابلس. بينما أجرى رئيس المجلس الانتقالي مصطفى عبد الجليل ورئيس الحكومة الكيب اتصالات مكثفة مع قادة الطرفين لوقف هذه الاشتباكات التي جرت بعد تراجع الحكومة عن منح مهلة أسبوعين لمغادرة الثوار العاصمة طرابلس إلى خارجها.

وكان الثوار قد أعلنوا اعتراضهم على تعيين حفتر لمنصب رئيس هيئة أركان الجيش الوطني خلفا للواء سليمان محمود الذي استقال مؤخرا من منصبه ودخل في ملاسنات علنية وإعلامية مثيرة للجدل مع وزير الدفاع اللواء جلال الدغيلي ومساعده فوزي بوكتف. وشهدت طرابلس توترا أمنيا عكس حالة الفوضى والانفلات التي تعيشها تحت رحمة كتائب الثوار التي أسهمت في تحرير المدينة من قبضة القذافي لكنها لم تخرج منها بعد مرور شهرين على إسقاط نظام القذافي وتحرير ليبيا من قبضته.

ويقول قادة سرايا عسكرية من الثوار إن عملية جمع السلاح يجب أن تتم بصورة منضبطة ولا تكون لصالح فريق ضد الآخرين، في إشارة إلى الهواجس التي تنتاب معظم هؤلاء من احتكار المسلحين المتشددين لسلاح فقط داخل العاصمة. وجاءت هذه التطورات على الرغم من إعلان رئيس المجلس الوطني الانتقالي أنه يعتقد أن معظم المسلحين سينتسبون إلى أجهزة الدولة ومؤسساتها الأمنية والعسكرية، عندما تعرض عليهم المزايا والامتيازات التي تمكنهم من العيش بالحد الأدنى. ولفت عبد الجليل إلى أن المجلس يتحوط لكل الأمور خاصة أن أبناء القذافي لم ينتهوا، مشيرا إلى أن هناك من يحاول أن يثير القلاقل في ليبيا، لكن الحكومة الليبية ستقضي على كل ذلك. ومع ذلك، فقد طفا خلاف سياسي علني ونادر بين الكيب وعبد الجليل على السطح، خلال افتتاح أول مؤتمر للمصالحة والإنصاف يعقد في العاصمة الليبية طرابلس منذ إعلان تحرير البلاد وإسقاط نظام القذافي، حيث أعلن عبد الجليل عن قرب صدور قانونين أحدهما للعدالة الانتقالية والآخر للعفو العام عن كل الجرائم في عهد نظام القذافي، مشيرا إلى أن أهم شروط هذا العفو هو المصالحة مع أهل ولي الدم أو صاحب الشأن أو رد المال العام. ولفت رئيس المجلس الوطني إلى أن كل الليبيين تواقون للمصالحة، موضحا أنهم قادرون على العفو والتسامح بشكل لم يسبق له مثيل طيلة كل العصور السابقة. وقال عبد الجليل «نحن قادرون على الصفح والمغفرة، نحن قادرون على استيعاب إخواننا الذين قاتلوا الثوار، وقادرون كذلك على استيعاب كل أولئك الذين ارتكبوا فعلا أو قولا ضد هذه الثورة»، وأضاف أن «الصفح والمغفرة من التعاليم التي يوصي بها الإسلام».

ويعد المؤتمر الذي حضرته وفود من القبائل الليبية الرئيسية، فضلا عن ممثلين عن قطر وتونس، هو الأول من نوعه منذ أعلن المجلس في الثالث والعشرين من شهر أكتوبر (تشرين الأول) المنصرم تحرير ليبيا بالكامل.

في المقابل، اعتبر رئيس الوزراء الليبي عبد الرحيم الكيب أن المصالحة الوطنية هي شرط أساسي لبناء المؤسسات الدستورية للدولة، مؤكدا أنه لا يمكن بناء المستقبل على أساس الثأر. ومع ذلك فقد شدد على أن المصالحة لا تعني العفو عن الماضي وتجاهل آثاره المؤلمة في الحاضر والمستقبل، مشيرا إلى الحاجة لتفعيل العدالة الانتقالية كأداة ضرورية لتحقيق هذه المصالحة الوطنية. كما أشار إلى أن العدالة الانتقالية تعني المحاسبة وإقامة العدل للذين عانوا من الظلم والقمع والتعذيب والتهميش خلال فترة الحكم الشمولي المنهار. وأضاف «الذين قاموا بالتعذيب والتمثيل والاغتصاب والتنكيل والقتل الجماعي وسرقوا الأموال الشعب وأهدروا ثروته وشردوا شبابه لا بد أن يتعرضوا للمحاسبة وأن يدفعوا ثمن جرائمهم». ووضع الكيب ستة مبادئ رئيسية للمصالحة لضمان عدم استثناء أي ليبي وتفادي التسييس أو تهميش أو إقصاء قبيلة أو منطقة أو عائلة بعينها، من بينها ضرورة التفريق بين من سماهم بالمجرمين والقادة الكبار من جهة، والتابعين من جهة أخرى الذين اعتبرهم فاعلين وضحايا في الوقت نفسه. ودعا إلى أن تركز المصالحة على إعداد التصورات والبرامج والآليات للاستماع إلى شهادات الضحايا وعائلتهم، وعلى تسوية ملفات التعويض عن الضرر وجبر الضرر الاجتماعي وإعادة الاندماج وتأهيل المناطق والجهات التي عانت من التهميش والإقصاء.

من جهتها، أعربت منظمة التضامن الليبية لحقوق الإنسان عن ترحيبها بانعقاد المؤتمر الذي اعتبرته بداية لخطوات جادة وعملية من أجل تحقيق المصالحة الوطنية بعد عشرة أشهر من اندلاع المظاهرات والاحتجاجات، التي بدأت سلمية في السابع عشر من شهر فبراير (شباط) الماضي ثم تحولت إلى حرب دامية بسبب سياسات النظام السابق.

وعبرت المنظمة، التي تتخذ من مدينة جنيف السويسرية مقرا لها، في بيان لـ«الشرق الأوسط»، عما وصفته بقلقها العميق من استمرار التوتر في بعض المناطق الليبية، على الرغم من مضي قرابة شهرين بعد الإعلان عن انتهاء المواجهات العسكرية وتحرير ليبيا. واعتبرت أن بعض هذه التوترات «ترتب عليها وقوع انتهاكات ترتقي إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية»، مشيرة إلى أن «استمرار نزوح سكان مدينة تاورغاء الساحلية، حيث أصبحوا لاجئين داخل الأراضي الليبية، يعتبر عملية عقاب جماعي، وهو أمر مُجرّم في القانون الدولي ويرتقي إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية». وقالت المنظمة التي اعترفت بجسامة التحديات التي تواجه عملية إعادة الاستقرار وحل التوترات القائمة في المناطق الغربية من البلاد، إن «المصالحة الوطنية الشاملة أمر ضروري جدا لوقف الانتهاكات لحقوق الإنسان وخطوة مفصلية لمعالجة إرث حقبة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والتي استمرت لقرابة أربعة عقود».

ويهدف المؤتمر، الذي عقد بحضور رئيس حزب النهضة التونسي راشد الغنوشي، ووزير الدولة للشؤون الخارجية القطري الدكتور خالد العطية، ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الشيخ يوسف القرضاوي، إلى وضع أسس ومعايير الحوار الوطني على أسس ديمقراطية لبناء دولة المؤسسات والقانون، والدعوة إلى المصالحة وتنظيم الجهود المبذولة حاليا بالخصوص.

لكن مصطفى عبد الجليل، رئيس المجلس الانتقالي، سعى أمس لاستباق نتائج المؤتمر بإعلانه أن مقرراته ليست ملزمة، لكنها استرشادية فقط بحيث تستطيع الحكومة من خلالها اتخاذ بعض القرارات في بعض القوانين. كما نفى عبد الجليل في تصريحات تلفزيونية عقب كلمته الافتتاحية، انسحاب عدد من أعضاء المجلس الوطني من المؤتمر. وسيركز المشاركون في المؤتمر من شيوخ وأعيان القبائل الليبية ورؤساء المجالس المحلية على التأكيد على اللحمة الوطنية من خلال تأسيس ركائز المصالحة الوطنية، واستعادة هيبة الدولة وتأكيد سيادة القانون وأهمية دور الثوار في دعم الاستقرار الوطني. كما ستتم خلال جلسات المؤتمر مناقشة ثلاث أوراق تتعلق بمفهوم العدالة الانتقالية، وكيفية تحقيق المصالحة الوطنية، بالإضافة إلى السعي لإدماج الثوار في المجتمع الليبي ومختلف الأجهزة الأمنية والعسكرية التابعة للدولة الليبية. لكن الخلافات في وجهات نظر كبار مسؤولي المجلس الوطني الانتقالي الذي يتولى السلطة حاليا في ليبيا حول نوع المصالحة المطلوبة بعد سقوط نظام القذافي ومقتله، تشير إلى عدم اتفاق الرؤى حول الخطوات المطلوب اتخاذها مستقبلا لحسم هذا الملف الشائك.

واعتقل الثوار المسلحون المئات من كبار المسؤولين السابقين في حكومة القذافي بعد نحو ثمانية أشهر من المواجهات المسلحة التي خاضوها لإزاحة القذافي عن السلطة، حيث يخضع هؤلاء حاليا للتحقيق تمهيدا لإحالتهم إلى محاكمة متخصصة يصدر بتأسيسها قانون جديد. ومن بين المعتقلين سيف الإسلام النجل الثاني للعقيد القذافي، بالإضافة إلى أبو زيد عمر دوردة رئيس جهاز المخابرات الليبية السابق، وعبد العاطي العبيدي آخر وزير خارجية لنظام القذافي.

وبينما تعهد المجلس الانتقالي بتوفير محاكمة عادلة لهؤلاء، فإن حادثة إقدام الثوار على ضرب القذافي وقتله مع ابنه المعتصم بعد وقت قصير من أسرهما في مدينة سرت الساحلية، أثارت مخاوف لدى البعض من داخل وخارج ليبيا حول مدى التزام الثوار بحقوق الإنسان واحترام حقوق الأسرى والمعتقلين. ولا يزال عدد من كبار مساعدي القذافي هاربا، مثل الدكتور البغدادي المحمودي رئيس الوزراء السابق الموجود حاليا في تونس، بينما لا يزال مصير عبد الله السنوسي صهر القذافي ورئيس جاهز المخابرات الأسبق غامضا. كما هربت عائلة القذافي المكونة من زوجته السيدة صفية فركاش وأبنائه عائشة ومحمد وهانيبال إلى الجزائر، فيما حصل ابنه الهارب الساعدي على حق اللجوء السياسي لدى النيجر. وكان لويس مورينو أوكامبو، رئيس ادعاء المحكمة الجنائية الدولية التي تتخذ من لاهاي مقرا لها، قد صرح في شهر يونيو (حزيران) الماضي بأن محققي المحكمة الدولية لديهم أدلة على أن القذافي أصدر أوامر بارتكاب عمليات اغتصاب جماعية، واشترى حاويات تضم عقاقير جنسية لقواته ليعتدوا على النساء خلال الانتفاضة على حكمه. واندلعت الثورة ضد نظام القذافي في منتصف فبراير (شباط) الماضي، لكنها سرعان ما تحولت حربا أهلية بين قوات القذافي والثوار المدعومين بحلف الناتو. وتحت ضغط الشارع، سينصرف المسؤولون الليبيون الجدد إلى المهمة الشائكة لحل الميليشيات المسلحة للثوار السابقين الذين يفرضون سيطرتهم على البلاد منذ سقوط نظام القذافي.

من جهة أخرى، أصدر رئيس الوزراء الليبي عبد الرحيم الكيب قرارا بحل هيئة الإذاعات ووكالة الجماهيرية للأنباء السابقتين وضمهما إلى ثلاث وسائل إعلامية تابعة لوزارة الثقافة والمجتمع المدني. ويشمل القرار ضم جميع الأصول الخاصة بالوسيلتين اللتين حلتهما الحكومة ونقل العاملين فيهما إلى الوسائل الإعلامية الجديدة.

وكان المكتب التنفيذي السابق برئاسة الدكتور محمود جبريل المنتهية ولايته، قد دشن مؤخرا هيئة خاصة لتشجيع ودعم الصحافة لكي تحل محل الهيئة العامة للصحافة السابقة في عهد القذافي التي كانت مسؤولة رسميا عن إدارة كل شؤون الصحف والمجلات الحكومية.