ضبابية المشهد السياسي المصري تربك القطاع المصرفي عام 2011

شهد تراجع الاحتياطي النقدي.. وإغلاق البنوك لأول مرة.. وتخفيض تصنيف مصر ائتمانيا

TT

لأول مرة في تاريخ القطاع المصرفي الذي يزيد على المائة عام، اضطرت البنوك العاملة في السوق المصرية إلى إغلاق أبوابها أمام الجمهور، في مشهد هو الأول من نوعه، إثر انتفاضة شعبية يوم الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني) الماضي، أدت إلى الإطاحة بنظام الرئيس السابق حسني مبارك بعد ثلاثين عاما من حكم البلاد، ليكون عام 2011 هو عام التوتر السياسي الذي أربك الاقتصاد وضرب شريانه المالي الممثل في الجهاز المصرفي.

مر القطاع المصرفي بعدة مشاهد كبري خلال العام المنصرم، كانت بدايتها خلال النصف الأول من شهر يناير الماضي، حيث أعلن البنك المركزي عن وصول الاحتياطي النقدي إلى 36 مليار دولار، وهو الرقم الأكبر على مدار سنوات طويلة، وهو ما كان مبعثا للفخر لقيادات الجهاز المصرفي المصري والقيادة السياسية، خاصة أن تأثير الأزمة المالية عام 2008 وانعكاسها على الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا ما زالت مستمرة؛ بل وأدت إلى إفلاس دول مثل اليونان وتهديدها لاقتصاديات دول كبرى مثل إيطاليا وإسبانيا؛ إلا أن عام 2011 أبى إلا أن يتحول ما كان فخرا للمصريين، إلى سبب لتخفيض تصنيف مصر وجدارتها الائتمانية، وفي آخر أيام عام 2011 خفضت مؤسسة «فيتش» للتصنيف الائتماني تصنيفها لمصر، وعززت ذلك إلى تراجع الاحتياطيات الدولية للبلاد واستمرار التوتر السياسي.

وخفضت «فيتش» تصنيف المصدر الاقتراضي لمصر بالعملة الأجنبية للأجل الطويل إلى BB- من BB وتصنيف المصدر الاقتراضي بالعملة المحلية للأجل الطويل إلى BB من + BB ومنحت المؤسسة نظرة مستقبلية سلبية لكلا التصنيفين.

وذكر في التقرير الذي نشرته المؤسسة على لسان ريتشارد فوكس مدير قسم الديون السيادية لمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، أن خفض التصنيف والنظرة السلبية يعكسان التآكل الشديد والمستمر للاحتياطيات الدولية في 2011 والذي تسارع في أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر (تشرين الثاني)، نتيجة التوتر السياسي المستمر والذي يؤخر التعافي الاقتصادي ويساهم في تدهور أوضاع الدين. وقد فقد الاحتياطي النقدي نحو 16 مليار دولار في أحد عشر شهرا خلال العام الماضي ليصل إلى 20 مليار دولار بعدما كان 36 مليارا مطلع العام نفسه.

لم يكن فقد مصر جزءا من الاحتياطي النقدي هو الحدث الأسوأ للاقتصاد؛ بل إن مشهد طابور المصريين أمام ماكينات الصراف الآلي احتل المركز التالي في أسوأ مشاهد التدهور التي آلت بالاقتصاد، وأغلقت البنوك أبوابها لأول مرة في تاريخها لمدة اقتربت من شهر «إغلاقا كاملا»، ثم فتح جزئيا لبعض الفروع لتحميل أموال على طائرات تابعة للجيش الذي يدير الفترة الانتقالية لنقلها إلى المحافظات لصرف رواتب شهر يناير الماضي، للموظفين وتغذية ماكينات الصراف الآلي، لتلبية نفقات المعيشة اليومية التي سارت الهاجس الأكبر لدى المصريين في الشهور الماضية.

وظهرت عدة تحديات كبيرة تهدد القطاع المصرفي، نتيجة استمرار حالة عدم الاستقرار والغموض السياسي الذي أفرزه عدم تسليم السلطة للمدنيين من المجلس العسكري (الذي تولى إدارة شؤون البلاد في 11 فبراير/ شباط الماضي) خلال العام الماضي، أما التحديات فتمثلت في عدد من الأمور على رأسها ارتفاع مخاطر السوق، وتدني الجدارة الائتمانية للمقترضين، وحالة الخوف التي انتابت المودعين في الشهور الأولى من العام، وتراجع فرص الإقراض، وانهيار البورصة، بالإضافة إلى عدد من التحركات الارتدادية للسوق التي أثرت تأثيرا مباشرا على العمل المصرفي.

وقد ساهم الانهيار الذي حدث للبورصة المصرية على البنوك، نظرا لوجود استثمارات بنكية في أوراق مالية يتم تداولها، وقد تقلصت هذه الاستثمارات بشكل كبير، وحسب تقرير حديث للبنك المركزي خسرت البنوك المحلية ملياري جنيه (331 مليون دولار) نتيجة انهيار أسهم شركات القطاع الخاص في البورصة خلال النصف الأول من العام الماضي، وتراجعت قيمة التوظيفات في شركات القطاع الخاص إلى 38.8 مليار جنيه (6.4 مليار دولار)، في حين وصلت في يناير الماضي إلى 40.7 مليار جنيه (6.7 مليار دولار).. بالإضافة إلى خسارة البنوك في استثماراتها بالأسهم، فقد شهدت عمليات الإقراض للمشروعات الاقتصادية تراجعا ملحوظا وتقلصت نسبة الإقراض إلى الودائع لتصل إلى أقل من 50 في المائة، وهذا يؤثر بشكل مباشر على أرباح البنوك، كما يؤثر على نشاط الاقتصاد ويحد من خلق فرص عمل جديدة، أما المشكلة الأكبر فتتمثل في عودة التعثر ليطل برأسه من جديد.

فشهد عام 2011 تعثرا في عملية الإقراض التي تحرك عجلة التنمية فلم يتجاوز عدد عمليات التمويل الكبرى التي أجريت خلال العام المنصرم عشر عمليات مقارنة بثلاثين حالة في الأعوام السابقة، واستأثر تمويل المشروعات الحكومية خاصة في قطاعي البترول والكهرباء بالنصيب الأكبر من ذلك التمويل وكان أكبر تمويل قدم في العام المنتهي، ما رتبه البنك الأهلي المصري مع بنوك «مصر والتجاري الدولي والعربي الأفريقي» لشركة شرق الدلتا والبالغ 4.6 مليار جنيه (762 مليون دولار) وتصل مدته إلى عشر سنوات، ويستخدم في زيادة إنتاج الطاقة الكهربائية، وتأتي قيمة القرض الأفضل في 2011 بأقل من نصف القرض الأكبر في 2010 والذي رتبه البنك الأهلي المصري مع مورغان الأميركي لصالح الهيئة العامة للبترول والبالغ 11 مليار جنيه (1.8 مليار دولار).

وكان القرض الأكبر للقطاع الخاص خلال 2011 ما رتبه كل من بنوك الأهلي ومصر والتجاري الدولي والأهلي سوسيتيه جنرال، وذلك لصالح شركة الهاتف الجوال «موبينيل» وبلغت قيمته ملياري جنيه (331 مليون دولار) في الربع الأول من العام الماضي.

وعلى مستوى ملف الديون المتعثرة التي كانت الحدث الأبرز في تسعينات القرن الماضي، وارتبطت بهروب عدد كبير من رجال الأعمال، فقد تحسن الوضع بالنسبة للمديونيات الكبرى، خاصة أن البنوك تحركت دون أوامر سياسية لبعض رجال الأعمال الكبار مثل القيادي في الحزب الوطني «المنحل» إبراهيم كامل ورجل الأعمال أحمد بهجت ورامي لكح، فاستطاعت البنوك أن تحصل على جزء من المديونيات المستحقة عليهم واتخذت خطوات قانونية كان يصعب أن تقوم بها في عهد النظام السابق. فقد استطاع بنك مصر ثاني أكبر البنوك المصرية، صاحب أكبر مديونية متعثرة في الجهاز المصرفي، أن يخفض الديون المتعثرة إلى 12 مليار جنيه (ملياري دولار) بعد تسوية مع لكح وكامل، لينتهي من تسوية ديون بقيمة 54 مليار جنيه (9 مليارات دولار) منذ 2003 لصالح الجهاز المصرفي مع خفض كلي لمحفظة الديون المتعثرة بالجهاز المصرفي لنحو 10 في المائة.

وكان المجلس العسكري (الحاكم) الذي يدير شؤون البلاد منذ تنحي مبارك، حاضرا بقوة في المشهد المصرفي عام 2011 وتجلى ذلك في ثلاث صور: «الأولى وهي الأهم وتتمثل في إعلان المجلس العسكري عن إقراض البنك المركزي مليار دولار وهو ما اعتبرته صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، «جزءا من حملة علاقات عامة واسعة النطاق، وأن العسكري الذي يواجه انتقادات بأنه متردد في تسليم السلطة وبسبب التعامل العنيف مع المحتجين يحاول أن يبدو وكأنه يساعد في تخفيف الضائقة المالية التي يواجهها الشعب المصري».

وجاء القرض من أجل دعم الوضع المتعثر للجنيه المصري ويمثل دليلا على الحالة غير المستقرة للاقتصاد في البلاد، فبسبب التدهور الذي لحق بالاقتصاد منذ الإطاحة بمبارك، وتراجع السياحة والاستثمارات الأجنبية، فإن خبراء الاقتصاد والمتعاملين بالبورصة يتوقعون ارتفاعا جديدا للأسعار بما يشكل مزيدا من الضغوط على أغلبية المصريين الذين يعيشون قرب أو تحت خط الفقر، وهو ثاني دعم مباشر من قبل الجيش الذي رفض الاقتراض الخارجي قبل عدة أشهر ودعم موازنة الدولة من موارده الذاتية.

وتمثلت الصورة الثانية في مرسوم قانون تعديل البنوك والذي أقره العسكري وأدخل على قانون البنوك الصادر في 2003، وكان أبرز ما جاء في مرسوم القانون هو صدور مادة تتعلق بمنع تعارض المصالح وعدم قانونية وجود أعضاء داخل البنك المركزي، مما له مصالح مباشرة وهو ما قلص عدد أعضاء المركزي ليصبحوا تسعة أعضاء بدلا من اثني عشر عضوا.

وأخيرا، كانت التغييرات داخل الجهاز المصرفي، سواء في البنك المركزي أو البنوك العامة، غير كبيرة ولم ترق إلى المستوى المرجو بالشارع الذي طلب من ميدان التحرير (مفجر الثورة) بوسط العاصمة المصرية القاهرة، الإطاحة بعدد من رؤساء البنوك خاصة المحسوبين على لجنة السياسات بالحزب المنحل التي كان يرأسها نجل الرئيس السابق جمال مبارك، والذي كان عضوا بمجلس إدارة البنك العربي الأفريقي الدولي المملوك مناصفة بين الحكومة المصرية والكويتية.

ولم يوجد في تلك التغييرات مفاجآت كبرى سوى خروج هشام رامز نائب محافظ المركزي من منصبه بناء على طلبه، خاصة أن الرجل ينسب إليه الفضل في ضبط السياسة النقدية في السنوات الخمس الماضية. إلا أن رفع لجنة السياسة النقدية في آخر اجتماع لها سعر الفائدة بعد 17 مرة من الثبات، كانت من أهم المفاجآت في القطاع المصرفي بسبب ارتفاع معدل التضخم وتآكل أموال المودعين بالمقارنة بحجم التضخم، وهو ما جعل البنوك تقوم بخطوة استباقية، حيث رفعت الفائدة على معظم الأوعية الادخارية المطروحة بعد ثبات وصل إلى نحو ثلاث سنوات.

وكانت ثاني المفاجآت هي وضع حد أقصى للسحب من البنوك لتأمين الأموال وعدم تهريبها للخارج، وسط مطلب شعبي بالتحفظ على أموال أركان النظام السابق، ووصلت قيمة الحد الأقصى إلى 50 ألف جنيه (8.2 ألف دولار) و10 آلاف دولار في اليوم، مع وجود قيود وقد تم العمل بذلك الأمر عدة شهور.

كما توقفت عملية الدمج بين بنكي الإسكان والتعمير والعقاري بعد محاولات استمرت أكثر من عامين؛ لكن مشاكل الثاني وزيادة ديونه المتعثرة حالت دون تنفيذ ذلك الدمج الذي كان يعول عليه في إحداث نقلة تتعلق بالقطاع العقاري في مصر.

وأدت المطالب الفئوية التي ضربت معظم البنوك إلى استقالات بالجملة داخل الجهاز المصرفي، وأجبرت البنك المركزي على تشكيل لجان تتولى تلبية تلك المطالب، والتي كان من أبرز مشاهدها إقالة رئيس بنك الإسكندرية محمود عبد اللطيف من منصبه، مع عمل تغييرات كبرى في الهيكل الوظيفي في البنوك خاصة الحكومية منها.

لسنوات طويلة كان المصريون يجتنبون الكلام عن أموال القيادات السياسية في مصر، خاصة أن معظمهم كان يتمتع بنفوذ مالي كبير، ساهم في تحكمه في القرار السياسي، وكان أحمد عز أمين التنظيم بالحزب المنحل، هو النموذج الأبرز في ذلك، وفي العام الماضي سمع المصريون عن مليارات تابعة لهؤلاء لم تنقذهم من الحبس في سجن مزرعة طرة (أشهر السجون في جنوب القاهرة) مع التحفظ على أموالهم داخل الجهاز المصرفي، فقد صدر أمر من النائب العام المصري المستشار عبد المجيد محمود بالتحفظ داخل الجهاز المصرفي على أموال نحو 270 شخصا من كبار أركان النظام السابق، وسط تأكيدات رسمية بأن عمليات التهريب التي يتحدث عنها الناس في الشارع، لم تتم عبر القنوات الرسمية الممثلة في البنوك وهو ما سوف تكشف الأيام المقبلة عنه.

وبحسب تصريحات سامح شكري سفير مصر لدى الولايات المتحدة، فقد طلبت مصر من واشنطن تجميد أرصدة نحو 100 مسؤول من رموز النظام السابق بتهم تتعلق بقضايا فساد وتربح واستغلال نفوذ، وهو آخر ما ذكر في ذلك الملف الذي يعاقب عدد كبير من أركان النظام بسببه.

وكان وضع السيولة المحلية من أهم النقاط الإيجابية في السوق المصرية فالبيانات المتاحة تؤكد ارتفاعها لتصل إلى 1.031 تريليون جنيه (171 مليار دولار) بنهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بزيادة تقترب من المليار جنيه خلال الشهر، بالإضافة إلى ارتفاع حصيلة الصادرات السلعية بمعدل 10.9 في المائة محققة نحو 6.8 مليار دولار، كما ارتفع صافي التحويلات دون مقابل خلال فترة الثلاثة أشهر بمعدل 25.6 في المائة ليبلغ نحو 4 مليارات دولار، وقد جاء ذلك انعكاسا لزيادة صافي التحويلات الخاصة، والتي أهمها تحويلات المصريين العاملين بالخارج بمعدل 31.2 في المائة لتبلغ نحو 4 مليارات دولار مقابل 3.1 مليار دولار.

كذلك ارتفعت حصيلة رسوم المرور في قناة السويس بمعدل 8.5 في المائة لتحقق 1.4 مليار دولار مقابل 1.3 مليار دولار خلال فترة المقارنة، وتعد قناة السويس المصدر الوطني الأهم والمنتظم في توفير النقد الأجنبي.

وبينما شهدت القطاعات المدرة للنقد الأجنبي والتي يحكمها رأس المال والإدارة الوطنية ارتفاعا وذلك متوقع استمراره، تراجعت تلك التي تعتمد على المستثمر الأجنبي، فشهدت التحويلات التي يتحكم بها الأجانب تراجعا بمعدل 89.3 في المائة لتقتصر على 15.9 مليون دولار نتيجة انخفاض المنح والهبات المقدمة من الخارج إلى الحكومة المصرية. بالإضافة إلى تحول الاستثمارات بمحفظة الأوراق المالية في مصر إلى صافي تدفق للخارج بلغ نحو 1.7 مليار دولار مقابل صافي تدفق للداخل بلغ 5.9 مليار دولار خلال فترة المقارنة، وذلك نتيجة بيع الأجانب لما في حوزتهم من أوراق مالية، خاصة أذون الخزانة التي أسفرت عن صافي مبيعات بلغ نحو 1.4 مليار دولار مقابل صافي مشتريات بلغ نحو 4.7 مليار دولار في الفترة المناظرة من العام الماضي، كما تراجع صافي الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر بمعدل 72.4 في المائة ليقتصر على نحو 440.1 مليون دولار مقابل نحو 1.6 مليار دولار خلال العام السابق عليه. ويعد تطبيق قواعد بازل 3 والمقرر تطبيقها في مارس (آذار) المقبل، من أكبر الخطوات التي تتطلع إليها البنوك المصرية خلال العام الحالي، خاصة فيما يتعلق برأس المال مع حجم ونوعية المخاطر والإفصاح والشفافية ومبادئ الحوكمة، خاصة أن البنوك المصرية متأخرة مقارنة بدول الخليج التي بدأت بالفعل في تطبيق بعض هذه القواعد. وكان البنك المركزي قد وقع اتفاقية مع المركزي الأوروبي وسبعة بنوك مركزية لتقديم الدعم الفني لتنفيذ بازل 2 بنهاية عام 2011 بعد سنتين من توقيعه، وتم تخصيص 4 مليارات يورو لتجهيز البنوك من خلال تلك الاتفاقية، ورغم النجاح في أغلبية النقاط؛ فإن المشهد السياسي قد يعيق الاستمرار في تلك الخطوات التي أصبحت لازمة لعمل البنوك لتفادي مخاطر القروض الرديئة. ولعل ملف التعثر الذي يطل برأسه مجددا وسط تراجع لمعظم الأنشطة الاقتصادية في مصر، يكون الحدث الأبرز الذي تحاربه البنوك في 2012.