أنيت هنيمان: امرأة من أجل المرأة

اتخذت من معاناة المرأة العربية مادة لها تمثلها وتغنيها في إطار الحكواتية

أنيت هنيمان تحمل صورا التقطتها لنساء واطفال زارتهم في معسكر للإيواء (تصوير: حيدر دويشي)
TT

أنيت هنيمان ممثلة ومغنية هولندية ابتليت بهذا المرض الخبيث/ النبيل؛ حب الإنسانية، العلة التي تجعل أصحابها يضحون بكل شيء، مستقبلهم ورفاههم وحياتهم العائلية وحتى حياتهم الشخصية، من أجل الإنسان وقضايا الإنسان. ظهرت أعراض هذه العلة عليها مبكرا عندما تحدت رغبة والديها وقررت دراسة المسرح، الفن الذي يعطي أفضل وسيلة لمعالجة القضايا الإنسانية. ما إن تخرجت ونالت شهادة الدبلوم من أكاديمية التمثيل حتى أدارت ظهرها للمسارح الترفيهية والتجارية المعتادة وتوجهت للمسرح الوثائقي. انتمت لفرقة المسرح الخفي المكرس لفضح عيوب المجتمع ومشاكله، ثم انتقلت إلى فرقة «مسرح الريبورتاج» (التقارير). قامت بتدريس الفنون المسرحية للمبتلين بعلل جسمية أو نفسية وأخذت تخفف عنهم بلاياهم وتعالج عقدهم بفنها. تناولت بصورة خاصة مشاكل السجناء والمشاكسين والخارجين عن القانون. وكان - كما تقول - عملا مضنيا واكتئابيا. دفعها في الأخير للانتقال إلى بولندا حيث انتمت لفرقة «شجرة الشعب»، ثم ألمانيا حتى بدأت تسأم من حياة الجو المعتم والقارس لأوروبا الشمالية، فهاجرت إلى ديار الشمس واختارت منها منطقة توسكانيا في إيطاليا. حالما التقيتها بعد أداء دورها المسرحي المنفرد في لندن «بعيدا عن كردستان» فسألتها: «إنك لست إنجليزية فأين تعيشين؟»، قالت: «أعيش في الجنة»! اضطررت لإعادة السؤال ففهمت أن الجنة بالنسبة لها تعني منطقة توسكانيا في إيطاليا.

وهناك سمعت شيئا عن حكاية السفن المتداعية التي غامر قباطنتها بحمل اللاجئين العرب والكرد، الهاربين من أوطانهم. أنقذتهم زوارق الشرطة الإيطالية من الغرق وجاءت بهم إلى الساحل. ويا له من موضوع يثير ممثلة مثلها كرست حياتها لقضايا الإنسان، وبصورة خاصة حقوق المرأة ومعاناتها. فتساءلت: ما الذي حمل الصبايا والعجائز إلى المغامرة بحياتهن بركوب أمواج البحر وهجرة أوطانهن للوصول إلى الشواطئ الإيطالية؟ ركبت القطار وقصدت ملاجئ أولئك النسوة في جنوب إيطاليا. استمعت لحكاياتهن ومآسي حياتهن وكل ما عانين من قسوة مجتمعاتهن وحكوماتهن. وكانت كافية بالنسبة لها لتبدأ بهذا المشوار الطويل والمكتنف بالمصاعب. ذهبت أولا إلى إسطنبول، ثم ديار بكر في كردستان التركية قريبا من حدود العراق، ثم غامرت بحياتها واجتازت هذه الحدود ودخلت كردستان العراق. ما لبثت حتى لفت أنظارها ما كان يجري للفلسطينيين في غزة والضفة الغربية فرحلت إليهم وأصغت لحكاياتهم. شرعت في تعلم اللغة العربية ثم حفظت أغاني المنطقة وقصص شعوبها. واتخذت من ذلك الحصاد مادة لها تمثلها وتلقيها وتغنيها في إطار الحكواتية. تقف بقامتها الفارعة وتشمخ برأسها المحجب والمعمم، وتستعمل ما تعلمته من فن التمثيل والمسرح والموسيقى في سرد حكايات المرأة الشرقية المعذبة. استمعت إليها تنتقل فتغني قصيدة مظفر النواب:

«مرينا بيكم حمد واحنا بقطار الليل وسمعنا دق قهوة وشمينا ريحة هيل».

المرأة العربية تبكي همومها وعذابات حبها وعشقها وكبتها. تعرض للمشاهدين أثناء ذلك صور الأطفال والنساء والرجال ممن التقتهم في سفراتها السندبادية وراحت تروي وتمثل حكايات حياتهم. وشرعت تقدم كل ذلك في مدن الله شرقا وغربا، بمفردها آنا، وآنا مع ممثلين وممثلات وهواة مسرح، كرد وعرب وتركمان، مسلمين ومسيحيين. وتعلم في الوقت نفسه هؤلاء الهواة الشباب فنون التمثيل والإلقاء والإخراج. رأيتها في آخر ليلة لها في لندن من عرضها «بعيدا عن كردستان»، فسألتها: «أين وجهتك بعد اليوم؟»، قالت: «بغداد.. تلقيت منهم الوحي وسألقيه عليهم هناك. وستكون المرأة وحقوقها في أرضكم رسالتي في الحياة». ويا لها من رسالة ينطبق عليها المثل الإنجليزي: «من الطاوة إلى النار»، من مشاكل المرأة في الغرب إلى مشاكل المرأة في الشرق!