كان قطار لندن - ويلز منطلقا بسرعة قصوى وأنا أرقب حبات المطر تنزلق على زجاج النافذة من طرف إلى آخر كأنها جداول صغيرة، يدفعها مسار القطار ثم تلتقي في خط واحد لتتلاشى في اتجاه واحد.. وكان ذهني منشغلا بسؤال سألنيه أحد العلماء الملحدين في مؤتمر «كارثة البيئة» الذي عقدته جامعة كمبردج في معهد فاراداي. قال السائل: إن كل الأديان بما فيها الإسلام لا تتحدث عن حماية البيئة، بل تتحدث عن سيطرة الإنسان عليها، وبذلك فإنها أباحت له استغلالها، مما أدى إلى دمارها اليوم. أذكر أني قلت له وقتها إن حماية البيئة هي ظاهرة معاصرة، وأن الكثير من الأديان لم تكن أصلا تفكر في الكارثة البيئية التي نعانيها اليوم، في حين أن الإسلام منذ بدايته قد أدخل حماية البيئة في داخل تصور الفرد المسلم وفي منظومته الفكرية، وهذا ظاهر في الكثير من الممارسات اليومية التي أبرزتها سنة المصطفى والتي تعكس البساطة المتوقعة من الإنسان كالجلوس على الأرض، وأكله باليمين، وقلة أثاث بيته، وهديه أمته للصيام والحج والاعتدال في الحياة بين التعسف والتقشف في الأخذ بأسباب الحياة. وحديث الرسول الصحيح عن جبل أحد، يعكس العلاقة الإنسانية مع عناصر البيئة إلى أقصاها في قوله: هذا «جبل يحبنا ونحبه»، وقد فسره العسقلاني في شرحه للبخاري الذي أورد الحديث، بأنه يعني جيران الجبل من الأنصار، ثم أعقب «ولا مانع في جانب البلد من إمكان المحبة منه كما جاز التسبيح منها، وقد خاطبه - صلى الله عليه وسلم - مخاطبة من يعقل فقال لما اضطرب: «اسكن أحد» الحديث.
فهل هناك من أكرم بيئته وأحبها أكثر من ذلك؟ أذكر أن سائلي ابتسم وقتها ابتسامة إقرار ثم سكت.
وحتى اليوم، لا يزال علماء الأديان في تساؤل مستمر عن سر سرعة انتشار الإسلام ورسوخه في قلوب المؤمنين به، هل السر - يا ترى - يكمن في موقفه من العلم، الذي كان موضوع أول ما أنزل فيه في قوله تعالى: اقرأ؟ أم أنه أمر آخر؟ وأحسب أن الجواب يكمن في موقفه الشامل من الكون والوجود وموقفه من البيئة يأتي من هنا.
وأفقت من تأملاتي على صوت مفتش التذاكر وهو يجادل أحد المسافرين الذي يبدو عليه أنه أوروبي، وكان يحاول أن يمرر عليه تذكرة قديمة بعد مسح ختم الحبر من فوقها. وهذه المواقف تحزنني كثيرا، فقد شاع الغش والخداع في مجتمع كان في يوم من الأيام يفتخر فيه بأن رخصة السواقة لا تحمل صورة صاحبها، لأن الغش هو أمر نادر ولا يمكن أن ينتحل أحد هوية غيره. أما اليوم، فقد تعلم الناس أصول الغش من الشرق والغرب وأصبحت رخصة السواقة البريطانية تحمل الكثير من الأسرار التي تمنع تزويرها.
وحماية البيئة أمر تدعي كل الأحزاب أنها تدافع عنه، وأكثرها كاذبة في ما تدعي، وقصدها هو كسب أصوات الناخبين فحسب، وهو تزوير لا يختلف عندي من تزوير المسافر لتذكرته.
نسيت أن أقول إني قلت لسائلي في مؤتمر البيئة أيضا إن كلمة بيئة موجودة في اللغة العربية منذ القدم، وقد وردت في الكتاب والسنة وفي قواميس اللغة. يقول لسان العرب:
«بَوَّأَهم مَنْزِلا: نَزَل بهم إِلـى سَنَدِ جَبَل. وأَبَأْتُ بالـمَكان: أَقَمْتُ به. وبَوَّأْتُكَ بـيتا: اتَّخَذْتُ لك بـيتا. وقوله عز وجل: أَن تَبَوَّآ لقَوْمِكُما بِمِصْر بـيوتا، أَي اتَّخِذا. وأَبَأْتُ القومَ مَنْزلا وبَوَّأْتُهم مَنْزِلا تَبْوِيئا. وذلك إذا نزلْتَ بهم إِلـى سَند جبل، أو قِيلِ نَهرٍ.... وفي الـحديث: قال له رجل: أُصلـي في مَباءة الغَنَم؟ قال: نَعَمْ، أَي مَنْزِلها الذي تَأْوِي إِلـيه، وهو الـمُتَبَوّأُ أيضا. وفي الـحديث أَنه قال: في الـمدينة ها هنا الـمُتَبَوَّأُ. وأَباءه مَنْزِلا وبَوَّأَه إِيَّاه وبَوَّأَه فيه، بمعنى هَيَّأَه له وأَنْزَلَه ومَكَّنَ له فيه.
والاسمُ البـيئةُ. واستباءه أي اتَّخَذَه مَباءَةً. وتَبَوَّأْتُ منزلا أَي نَزَلْتُه. وقوله تعالـى: (والذين تَبَوَّأُوا الدار والإيمان) [الحشر: 9]، جَعلَ الإِيمان مَحَلا لهم علـى الـمَثَل؛ وقد يكون أراد: وتَبَوَّأُوا مكان الإيمان وبَلَدَ الإيمان، فَحَذَف. وتَبَوَّأَ الـمكان: حَلَّه. وإنه لـحَسَنُ البـيئة، أَي هيئة التَّبَوُّء. والبـيئةُ والباءَةُ والـمباءَةُ: الـمنزل، وقيل مَنْزِل القوم حيث يَتَبَوَّأُون من قِبَلِ وادٍ، أو سَنَدِ جَبَلٍ. وفي الصحاح: الـمَبَاءَةُ: مَنْزِلُ القوم في كل موضع، ويقال: كلُّ مَنْزِل يَنْزِله القومُ. قال طَرَفة:
طَيِّبو الباءة سَهْلٌ، ولَهم سُبُلٌ - إِن شئتَ في وَحْش وعر» وهذه المعاني تلتقي مع المعنى المتعارف عليه اليوم عن البيئة. إذ يعرف ويبستر البيئة على أنها: الظروف والأشياء التي تحيط بالفرد، وهي مكونة من عناصر فيزيائية وكيميائية وحيوية (مثل المناخ والتربة والأشياء الحية) التي تؤثر على العناصر الحية أو على أمة (من المخلوقات)، وتقرر شكلها وأسباب بقائها.
وكم نجد في الكتاب الذي يؤنس غربة القلب بحلاوته وطلاوته وعلو ثمرته وغيداق معانيه، من المعاني البيئية التي تنتظر من يبحث فيها. إن آيات القران يمكن فيها رؤية ما خلق الله، لا من خلال النصوص فحسب، بل حتى من بين عناوين سوره الكريمة التي تحمل أسماء مخلوقات لا يعلمها علما مطلقا إلا من خلقها.. كالبقرة والأنعام والنحل والنمل والعنكبوت والتين، بالإضافة إلى بعض مفردات الكون الفسيح كالرعد والنجم والشمس والليل والضحى. كذلك نجد أسماء لظواهر بيئية كونية وطبيعية كالدخان والطور والتكوير والانفطار. وكل هذه مفاتيح لكنوز تفسيرية تنتظر من يأخذ بها.
ولا شك أننا لا نريد تأويل أسماء السور بغير ما وضعت له، من كونها أسماء للسور، ولكن الإنسان البيئي المثقف لا يستطيع إلا أن ينظر إلى هذه الأسماء فيدرك أن استعمالها إن دل على شيء فيدل على خالق لم يخلق خلقه عبثا، بل أبدعهم كجزء من نظام متوازن شامل للكون، مصداقا لقوله تعالى «إنا كل شيء خلقناه بقدر» [القمر:49].
إن قضية الخلق تطوي في مفاصلها أغوارا تتجاوز أبعاد فهم الإنسان، برغم فلسفاته المعقدة ورغم نظرياتها المتطورة، وما فيها من جماليات تعبيرية تحاول أن تسبر الظواهر والمعاني وتفهمها، لأن القول بالخلق يبرر الوجود، انطلاقا من علم إلهي يقع خارج الفرضيات والحدود والبراهين، وإن كان لا يعارض ثوابتها. وعبارات القرآن الكريم تحمل جزءا كبيرا من فلسفة الإسلام البيئية. ولعل آية مفاتح الغيب هي من أول ما يتبادر إلى الذهن ونحن ننظر من خلال المنشور الإسلامي للبيئة، فهي آية عجيبة لأنها تنص على أن كل ما خلقه الله هو في علم الله وفي كتاب: «وَعِنْدَه مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ويعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» [الأنعام: 59]. إن هذا النص يقدم دليلا مقنعا عن أهمية الأرض وما فيها وما تحتها، لأنها في علم الصانع حتى وإن كانت حبة أو ورقة في أعماق الثرى، فكل ما في الكون له أهميته وقيمته التي يجب ألا يهونها الإنسان، لأنه يحسب أن أهميته تأتي من مجرد نفعها المباشر له، وهذا هو سنام ما يدعو له علم حماية البيئة. فكل ما خلق الله يعدو مع قطار الحياة، وتسيره قواعد الوجود الربانية وتعطي له دورا معلوما إلى قدر معلوم، وكلها تسير مع انطلاقة الحياة كما تنزلق حبات المطر الصغيرة على نافذة القطار.
*كاتب عراقي