الهجمات والخلافات السياسية تلقي بظلالها على النشاط الاقتصادي في العراق

مستثمرون يشكون من غموض المستقبل.. وينتظرون

TT

عندما غزت الولايات المتحدة العراق، فإنها فعلت ذلك وهي تفكر في أنها يمكنها أن تحول البلاد إلى دينامو اقتصادي يتغذى بالاحتياطيات النفطية التي تعد من بين أكبر الاحتياطيات في العالم، حيث قال بول بريمر، المسؤول الأميركي الأعلى في العراق عام 2003: «العراق مفتوح أمام رجال الأعمال».

لكن القتال لم يتوقف في الواقع، ولم تتحقق الرؤية الأميركية. والسؤال المطروح الآن بعد رحيل القوات الأميركية هو: ما الذي يستطيع العراق أن يبنيه بنفسه؟ ولكن المؤشرات، حتى الآن، ليست جيدة، خاصة مع دخول قادة البلاد في أزمة سياسية، وقيام المتمردين بشن هجمات دراماتيكية.

ويمكن العثور على حفنة قليلة من هذه العقبات، الموجودة على نطاق أصغر حجما، في مبنى البورصة العراقية الضئيل بمدينة بغداد، خلف جدرانه المضادة للانفجارات، والتي يبلغ سمكها 10 أقدام، حيث بدأ المستثمر، سعد جليل، المفعم بالأمل، العام الجديد بشراء أسهم بقيمة 1600 دولار في مصرف الشرق الأوسط العراقي للاستثمار، ولكنه توقف، بحلول اليوم الثالث من التداول، بعد مشاهدته لسوق الأوراق المالية وهي تهبط. وقال جليل، 52 عاما، والذي كان يمتلك سابقا متجرا لبيع الأدوات المكتبية: «الناس لا يفعلون شيئا سوى الانتظار، حيث إنهم يشعرون بقلق بسبب الوضع السياسي والأمني».

ويشكل المناخ الاستثماري المختل في العراق مصدر إعاقة لسوق الأوراق المالية، حيث لا يوجد سوى 45 شركة فقط متداولة في البورصة. ويقول المحللون إن المناخ الاستثماري يفتقر إلى القوانين اللازمة لتنظيم الاستثمارات والضرائب وقضايا الملكية. وقد تم وضع ثلاثة مولدات ضخمة خارج مبنى البورصة من أجل الحفاظ على توفر الكهرباء والإضاءة داخل المبنى، مما جعل مجرد قدوم المستثمرين ووجودهم في المكان عملا من أعمال الشجاعة.

وتوجد قرب من مبنى البورصة ركام وبقايا متفحمة، خلفها انفجار إحدى السيارات المفخخة في 22 ديسمبر (كانون الأول)، وهو الانفجار الذي وقع خارج وكالة محاربة الفساد الحكومية، وأسفر عن مقتل أكثر من اثني عشر شخصا. لكن جليل ما زال متفائلا بشأن مستقبل بلاده، حيث قال إنه سوف يعود للمضاربة من جديد في هذا الأسبوع، مضيفا: «سيحدث تغيير كامل في العراق في غضون ثلاث سنوات».

ويجلس العراق حاليا على 143 مليار برميل من الاحتياطيات النفطية المؤكدة، وفقا للبنك الدولي، والذي توقع مؤخرا أن تزايد صادرات النفط المتنامية سيعمل على ازدهار الناتج المحلي الإجمالي للبلد بنسبة 12 في المائة هذا العام، وهو ما يعد واحدا من أسرع معدلات النمو في العالم. لكن جزءا من هذا النمو الكبير يعكس النشاط التجاري الكبير في المنطقة الكردية من البلاد، والتي تتمتع بما يشبه الحكم الذاتي. وبشكل أعم، فإن التحدي الأكبر بالنسبة للعراق هو أن عائدات النفط تمر عبر الحكومة، والتي عادة لا تنفق هذه الأموال بشكل جيد، أو تقوم بما يكفي لتنويع الاقتصاد، وذلك وفقا لما ذكره مسؤولون أميركيون وعراقيون.

ويحتل العراق المرتبة 159 من بين 227 بلدا، من حيث نصيب الفرد من الدخل الكلى، وذلك وفقا لإحصاءات الحكومة الأميركية، بينما يضع البنك الدولي العراق في المرتبة 164 من بين 183 بلدا، من حيث سهولة ممارسة الأعمال التجارية، وبهذا يكون العراق قد هبط بمقدار خمس مراتب عن العام السابق. وتعد المرتبة التي يحتلها العراق من حيث درجة انتشار الفساد أسوأ من ذلك، وفقا لتصنيف منظمة الشفافية الدولية.

ولكن بدلا من محاولة تحسين سمعة البلاد، أمضى الزعماء السياسيون وقتهم في الأسابيع الأخيرة في القتال مع بعضهم البعض، وتبادل الاتهامات بالإرهاب وعدم الكفاءة، والتحرك في اتجاه توطيد السلطة ومقاطعة البرلمان، وقد تسببت هذه الدراما السياسية في جعل عملية ممارسة الأعمال التجارية أمرا أكثر صعوبة، خاصة مع عدم كون البيروقراطيين الحكوميين غير متأكدين من كيفية سير العمل فحسب، ولكن أيضا من كيفية إدارة المؤسسات الحكومية. وقال أحد رجال الأعمال، الذي رفض عدم الكشف عن هويته، حتى يمكنه أن يتحدث بحرية: «ليس لدى أحد فكرة عن ما يحدث في العراق في الوقت الراهن».

ويقول التجار الصغار إن المتسوقين لا ينفقون قدرا كبيرا من الأموال، نظرا للشكوك التي تساورهم بشأن ما يخبئه المستقبل. وقال عماد الخفاجي، وهو خياط في حي الكرادة في بغداد، مؤخرا، أثناء قيامة بأخذ استراحة قصيرة من هدب أحد الأثواب: «أصبحت الناس محافظة بعدما وقعت الأزمة السياسية، وبعدما وقعت الانفجارات».

كما لاحظ تجار آخرون في الجوار ركود النشاطات التجارية منذ اندلاع الأزمة السياسية، وانتشار موجات الانفجارات، في أعقاب مغادرة القوات الأميركية في 18 ديسمبر (كانون الأول)، حيث قال حيدر كواز، 24 عاما، وهو يعمل في متجر عائلي لبيع الملابس الرجالية، إن حجم العمل قد انخفض بمقدار 50 في المائة في الأسابيع الثلاثة الماضية، مضيفا «إن أصحاب المتاجر يجلسون أمام متاجرهم وكأنهم يجلسون أمام منازلهم».

وإذا استمرت الهجمات، فإن الركود الذي يشعر به التجار «يمكن أن يصبح أسوأ بشكل سريع»، كما يقول أنتوني كوردسمان، المحلل في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، ومؤلف تقرير حديث بعنوان «الأزمة الأوسع نطاقا في العراق».

وقال حسين الشهرستاني، نائب رئيس الوزراء لشؤون الطاقة، إن الحكومة ملتزمة بتنويع الثروة النفطية في مناطق جديدة من الاقتصاد، وذلك عن طريق الديمقراطية الحقيقية. وأضاف الشهرستاني، قائلا: «لقد قيل للناس في هذا الجزء من العالم إن عليهم أن يختاروا بين الحرية والرخاء، ولكننا هنا، في العراق، عازمون على إثبات أنهم مخطئون». وبالنسبة للنزاعات السياسية والتفجيرات، فإنه قال إنها لم يكن لها تأثير كبير على شركات النفط الأجنبية. وقال الشهرستاني: «إذا كان لدى هذه الشركات شكاوى، فهي ليست حول الجدل السياسي أو التفجيرات التي تحدث في بغداد أو في أي مكان آخر، ولكنها حول بعض البيروقراطية الموجودة في الموانئ، وفي عمليات استخراج التصاريح الجمركية، وطلبات الحصول على تأشيرات، وهلم جرا. وعلى الرغم من أننا قد قطعنا شوطا طويلا، فإن شركات النفط الأجنبية لا تزال تتوقع منا إنهاء الإجراءات بشكل سريع، وهو الشيء الذي أتفق تماما معهم فيه».

وقد أسس جوناثان بايلز، أحد المديرين التنفيذيين البريطانيين، شركة «البوابة العراقية لوسطاء التأمين» في بغداد في عام 2009، والتي تقدم مجموعة من السياسات التأمينية التي تغطي عدة مجالات، مثل المسؤولية القانونية عن المباني، والاختطاف، والفدية، إلى جانب مجالات أخرى، حيث ينظر بايلز نظرة بعيدة المدى للتنمية الاقتصادية في العراق. وقال بايلز: «إذا كان لديك خطة للاستثمار لمدة سنة واحدة، فإنك لن تأتي لتستثمر هنا أبدا، وإذا كان لديك خطة لمدة ثلاث سنوات، فإنك ستكون دائم الشكوى من الأوضاع، وإذا كان لديك خطة لمدة خمس سنوات، فربما كنت تعتقد أن الأوضاع ستكون على ما يرام، ولكن إذا كان لديك خطة لمدة 20 عاما، فإنك ستكون متأكدا من النجاح».

ولكن بايلز أعرب، مع ذلك، عن قلقه من أن تنظر الشركات الأجنبية، التي تحاول تقييم فرص الاستثمار في العراق، إلى الأحداث الأخيرة وتقرر نقل نشاطها الاستثماري إلى مكان آخر، حيث قال: «يبحث المستثمر عن فرص الاستثمار في كل مكان في العالم، وهو لا يحب الفرص التي تتسم بعدم اليقين، وهناك الكثير من عدم اليقين في العراق في الوقت الحالي، فهل سيعوق عدم اليقين هذا الاستثمار في العراق الجديد؟ أظن أنه سيفعل».

وقد أدى الانفجار، الذي وقع في الشهر الماضي، إلى تحطم النوافذ وانهيار أجزاء من السقف في شركة الربيع للأوراق المالية، والتي تقع على بعد عمارتين سكنيتين من مبنى البورصة وقد فقدت إحدى المضاربات في شركة الربيع، تمارا حسين، أختها في الانفجار، والتي كانت تعمل كمحامية في وكالة مكافحة الفساد الحكومية.

لكن تمارا حسين عادت إلى العمل في العام الجديد، حيث قالت بينما هي تجلس في مكتبها في مقر شركة الربيع بعدما تم إصلاحه: «لا أستطيع البقاء في المنزل ورؤية أمي تبكي طوال الوقت، وأحاول عدم التفكير في الانفجار».

وفي نهاية الرواق كان نصف درزينة من المستثمرين يبعثون بطلبات المضاربة الخاصة بهم لسماسرة لشركة الربيع، الذين كانوا يقومون بتنفيذ هذه المعاملات عبر أجهزة الكومبيوتر المحمول، حيث قال سعيد الظاهري، 58 عاما، وهو مهندس كهربائي يرغب في شراء أسهم مصارف، ولكنه لم يشتر أي أسهم نتيجة لتراجع السوق هذا العام: «إن الأوضاع قد أصبحت سيئة بسبب الصراع السياسي والانفجارات».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»