المكسيك تعقد آمالا كبيرة على أعلى جسر معلق في العالم

جسر بالوراتي غورج تجربة رائدة في مجالي الهندسة الاجتماعية والإنشائية

بلغت تكلفة الجسر 1.5 مليار دولار وصممته ونفذته شركات مكسيكية («واشنطن بوست»)
TT

دشن مسؤولو النقل في المكسيك قبل خمس سنوات أكثر مشاريع مد الطرق طموحا في تاريخ البلاد، ليكون بمثابة تجربة رائدة في مجال الهندسة الاجتماعية والإنشائية على حد سواء. ويتمثل هذا المشروع في إقامة أعلى جسر معلق في العالم في سلسلة جبال سييرا مادري في غرب المكسيك عبر الوديان الغائرة والتلال الوعرة للدرجة التي جعلت السكان المحليين يطلقون على هذه المنطقة اسم «العمود الفقري للشيطان». وقد خصصت الحكومة المكسيكية 1.5 مليار دولار لهذا المشروع العملاق لكي تمحو قرونا من العزلة وتحقق انتعاشا اقتصاديا في واحدة من أكثر مناطق البلاد فقرا وتعرضا للأزمات.

وسوف يتم افتتاح ذلك الجسر الذي يبلغ طوله 140 ميلا في أواخر عام 2012، وسيؤدي إلى اختصار المسافة الزمنية بين مدينة مازاتلان التي تقع على ساحل المحيط الهادي ومدينة دورانغو من سبع ساعات لساعتين ونصف الساعة فقط، بعد أن نجح في التغلب على التضاريس المروعة في منطقة سييرا عبر 62 نفقا و135 جسرا.

والأهم من ذلك، حسب تصريحات المسؤولين المكسيكيين، أن الربط بين خليج المكسيك والمحيط الهادي سوف يؤدي إلى تنمية اقتصادية كبيرة، بالإضافة إلى أنه سيساعد على سيادة القانون في هذه المنطقة التي تحكمها عصابات المخدرات.

وسيعمل جسر «بالوارتي» على تيسير حركة المرور بين ولايتي دورانغو وسينالوا من خلال شريط خرساني بطول 1.321 قدما فوق نهر بالوارتي. وبمجرد اكتمال هذا الجسر، سيصبح أعلى جسر في نصف الكرة الغربي وثاني أعلى جسر في العالم وأعلى بناء من نوعه (جسر معلق) في العالم، لدرجة أنه يمكن إقامة بناء ضخم بارتفاع برج إيفل أو مبنى بضعف ارتفاع نصب واشنطن التذكاري تحت هذا الجسر. وما إن ترى الأسلاك المعدنية بيضاء اللون التي تربط الجسر والبرجين الرائعين اللذين يمتدان لارتفاع يصل إلى 587 قدما في طرفي الجسر، حتى تشعر بأن هذا الجسر هو ثاني أفضل الأماكن إثارة للإعجاب في البلاد بعد الأهرام العملاقة التي بنيت في التيوتهاكان في عام 100 ميلادية تقريبا.

وقال الرئيس المكسيكي فيليب كالديرون في كلمة ألقاها بهذه المناسبة: «يعد هذا المشروع رمزا للرخاء الاقتصادي الذي نريد تحقيقه في المكسيك، ورمزا للمكسيك في المستقبل».

وأضاف كالديرون أن هذه المشروع يدعو للفخر والكبرياء، ولا سيما أنه قد تم إنشاؤه من خلال مهندسين مكسيكيين - وهو دليل على أن الدولة تقف على قدم المساواة مع الشركات الصناعية العملاقة في العالم.

ومع ذلك، ثمة قلق كبير من أن يتم استخدام هذا الجسر العملاق في تسهيل عمليات تهريب المخدرات. وقد أوشكت الفترة الرئاسية للرئيس كالديرون على الانتهاء - الفترة الرئاسية مدتها ست سنوات - ولذا فإنه يريد أن يكون المشروع عبارة عن رمز للإنجازات التي حققها خلال فترة توليه مقاليد الأمور، ورمزا للاستقرار الاقتصادي والبنية التحتية الرائعة في البلاد، بدلا من العنف الوحشي المصاحب لعمليات تهريب المخدرات التي أودت بحياة نحو 50.000 شخصا منذ قدوم كالديرون للرئاسة.

ويعتقد الرئيس وغيره من المسؤولين أن هذا المشروع العملاق سيؤدي، بلا شك، إلى تقليل معدل الجريمة والخروج على القانون من خلال إيجاد فرص عمل بديلة للشباب. يذكر أن معظم الميرغوانا والهيروين والميثامفيتامين التي تباع في الشوارع الأميركية، قادمة من المزارع والمعامل الموجودة في غرب سييرا مادري، وهي المنطقة التي طالما وقفت عائقا في طريق الخطط الحضارية التي تنوي الحكومة إقامتها. وقال الرئيس كالديرون في كلمته: «البنية التحتية تعني الوظائف والتنمية والتقدم نحو مزيد من العدالة والرفاهية في المكسيك. إن استغلال هذه الفرص يعني التخلص من الأنشطة الأخرى التي لا نريدها في البلاد».

وسوف يجذب هذا الجسر العملاق الشركات الأجنبية لولاية دورانغو وغيرها من الولايات الأخرى في شمال البلاد بهدف إقامة مشاريع صناعية. ومن ناحية أخرى، سوف يزيد هذا الجسر من الأهمية الاستراتيجية لهذه المنطقة بالنسبة لتجار المخدرات الذين غالبا ما يقومون بتهريب البضائع إلى الولايات المتحدة في الحمولات التجارية المشروعة. وعلاوة على ذلك، سوف يربط هذا الجسر بين منطقتين تشهدان أعمال عنف كبيرة، حيث شهدت مدينة مازاتلان وحدها 307 جرائم قتل، لتصبح سابع أعنف مدينة في المكسيك، في حين كانت مدينة دورانغو خامس أكثر المدن المكسيكية دموية، حيث شهدت 474 عملية قتل، حسب آخر الإحصاءات في البلاد.

ومنذ شهر أبريل (نيسان) الماضي، قام المحققون باستخراج 282 جثة من أكثر من 12 مقبرة جماعية في المدينة والمناطق المتاخمة لها التي تشهد صراعا عنيفا بين عصابة سينالوا المهينة على المدينة وغيرها من العصابات، بما في ذلك عصابة «لوس زيتاس» الشهيرة.

والآن، يأمل المسؤولون المحليون أن ينجح مهندسو النقل في تحقيق ما فشلت فيه الشرطة والسياسيون، وهو إعادة الأمن والنمو إلى المنطقة، وليس جلب مزيد من الأسلحة.

وقال فرانسيسكو غوتيريز، وهو مسؤول بارز في التنمية الاقتصادية في ولاية دورانغو: «أفضل طريقة لمحاربة الجريمة وتقليل معدلات الفقر هي خلق فرص عمل جديدة. ويعد هذا أهم مشروع في المكسيك في الوقت الحالي».

يذكر أن غوتيريز قد سافر إلى الكثير من الدول خلال الأشهر الماضية للترويج لهذا المشروع، وقد بدأت جهوده تؤتي ثمارها بالفعل، حيث وقعت شركات صينية في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) اتفاقيات لإقامة سبعة مشاريع استثمارية جديدة في ولاية دورانغو بقيمة إجمالية تصل لأكثر من 220 مليون دولار في مجالات التعدين والكيماويات وقطع غيار السيارات.

وقال غوتيريز إن شركة «دلفي» الأميركية لمكونات السيارات قد أضافت 3700 وظيفة جديدة في دورانغو خلال العام الحالي، في حين تضخ إحدى الشركات الشيلية في مجال التعدين 150 مليون دولار في استثمارات جديدة. وعلاوة على ذلك، تخطط شركة إسبانية لإنشاء واحدة من كبرى مزارع الطاقة الشمسية في العالم في الولاية.

ويبدو أن التكلفة الرخيصة في دورانغو قد شجعت المستثمرين الأجانب على العمل هناك على الرغم من المخاوف الأمنية، حيث يصل معدل الدخل في الولاية لنحو 13 دولارا في اليوم، وهو واحد من أقل معدلات الدخل في المكسيك، علاوة على أن الجسر الجديد سوف يجعل ميناء الأطلسي في مازاتلان مكانا مثاليا للتبادل التجاري مع آسيا.

ومع ذلك، يقول خبراء التنمية إنه لا توجد هناك أبحاث تثبت بشكل قاطع أن تحسن البنية التحتية سوف يقلل من معدلات الجريمة. ويقول غوردان شوارتز، وهو خبير اقتصادي بارز في البنك الدولي في مجال التنمية المستديمة في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي: «يتم نقل كل الأشياء على الطرق – سواء كانت مرغوبة أو غير مرغوبة». وأضاف شوارتز: «من السذاجة أن نقول إن تحسن البنية التحتية سوف يؤدي مباشرة إلى سيادة القانون».

وعلى جانب آخر، يرى آخرون أن الجسر الجديد سوف يؤدي إلى حدوث نوع من التقدم الاجتماعي، حيث يقول بياتريس موران، معلم من مقاطعة كونكورديا التي تقع على الجانب الآخر من سينالوا، إنه يعتقد أن الطريق الجديد سوف يساعد على إقناع المعلمين الشباب بالانتقال من المناطق الحضرية والعمل في المجتمعات الريفية الجبلية، مع العلم أنهم لن يصبحوا عالقين هناك ويمكنهم العودة إلى منازلهم بسهولة في عطلة نهاية الأسبوع. وأضاف موران: «في الوقت الراهن، يلتحق الأطفال في تلك المدن بالمدارس حتى الصف السادس فقط بسبب النقص الكبير في أعداد المدرسين».

ومن جهته، يحلم جوزيه إيليخيو، وهو عمدة مدينة سينالوا، بأن يأتي السياح إلى المدينة ويتنزهوا ويستمتعوا بمغامرة استكشاف جبال سينالوا – وهو المكان الذي تحث الحكومة الأميركية رعاياها إلى عدم السفر إليه». وأضاف إيليخيو: «هذا الطريق سوف يغير كل شيء بالنسبة لنا».

وعندما وصل المهندسون والمساحون لموقع الجسر قبل خمس سنوات، استغرقت الرحلة أربع ساعات على ظهور الخيل. وعن ذلك يقول المهندس كارلوس زامونديو: «وقفنا على حافة الوادي ونظرنا إلى الموقع، وكان الأمر يبدو غير ممكنا. لقد كان تحديا كبيرا للغاية وكأنك تسعى لحل لغز صعب في وقت محدود للغاية». وقامت شركة «تراديكو» المكسيكية التي أنشأت الجسر، بمد 15 ميلا من الطرق الترابية في الوديان القريبة حتى تتمكن من إحضار معداتها إلى موقع البناء، الذي كان يعمل به 1300 عامل. ومن مكتبه في أسفل الوادي، قال سلفادور سانشيز، وهو مهندس مشرف يعمل في المشروع: «كان يتعين علينا بناء قرية كاملة هنا في الأسفل». وأضاف سانشيز أن المشروع قد تم دون وفاة أي عامل. ولكن خلال رحلة أحد الصحافيين إلى موقع الجسر، كانت هناك حادثتا تصادم بين شاحنات على الطريق القديم، وكانت إحداهما مروعة، كما كان الوضع في قمة الخطورة في عدة مواقع على طول الطريق، حيث كان يتعين على المركبات التوقف بشكل تام في منحنيات ضيقة لتسمح لسائقين آخرين بالعبور بصعوبة شديدة. وقال سانشيز إن الطريق الجديد سوف يمر من خلال - وليس من فوق - «العمود الفقري للشيطان». وأضاف أن الجسر مصنوع من خرسانة جاهزة وبه أربع حارات، وهو معلق بكابلات فولاذية يمكن لكل خمسة أثمان بوصة فيها دعم أكثر من 80 طنا، وعندما يتم تجميعها في حزم تصل إلى 46 كابلا، فإنها تستطيع امتصاص الزلازل الضخمة وكذلك الأحمال الهائلة.

وأضاف سانشيز: «يمكنكم إيقاف الشاحنات الثقيلة على طول الطريق من بدايته لنهايته دون أن يحدث أي شيء لأن الجسر مستعد لأي شيء».

* خدمة «واشنطن بوست» ـــ خاص بـ«الشرق الأوسط»