«دار المأمون» في المغرب.. تجاوز حدود اللغة والفن والثقافة

في ضوء تزايد الاهتمام العالمي بكل ما هو شرق أوسطي

تأتي الأفكار الابداعية والتعاريف الوصفية المتصلة بفنون الشرق الأوسط الى الجمهور عبر عيون غربية («الشرق الأوسط»)
TT

يشهد العالم حاليا طفرة هائلة في الاهتمام بالفنون والفعاليات الثقافية الآتية من الشرق الأوسط، وتقبل المؤسسات الغربية، وخصوصا في أوروبا والولايات المتحدة، ولو بدرجة أقل، على رصد الأموال من أجل جمع الأعمال الفنية الشرق أوسطية، واستضافة الملتقيات الكبرى لمناقشتها، بل ووضع برامج تعليمية لنشرها والمحافظة عليها.

من المعارض الفنية إلى مؤتمرات القمة، تشهد المدن الناطقة بالإنجليزية عددا لافتا من النشاطات والفعاليات المتمحورة حول ثقافات الشرق الأوسط. فعندما ينظر المرء إلى الكم الكبير من الأعمال التي نشرت مؤخرا عن الفنون الشرق أوسطية، يمكن القول إن عدد المنشور منها باللغة الإنجليزية أكثر من الأعمال المنشورة باللغة العربية.

من ناحية أخرى، مع أن التفاعل العالمي صار أمرا حيويا في عالمنا المعاصر الذي نراه يصغر يوما بعد يوم، فإن هذا التفاعل خلق فجوات موازية، ذلك أن التقدم السريع الحادث باللغة الإنجليزية أدى إلى إقصاء الناطقين بالعربية الذين لم يتلقوا تعليما غربيا من هذه العملية، سواء من الناحية العملية أو الصناعية أو النظرية أو التعليمية. وهذا الواقع يشمل كل من له علاقة بالموضوع، من فنانين ودارسي فنون ونقاد فنيين وجمهور ومجتمع مدني.. إلخ.

ومن ثم، إذا كان هناك إنتاج ثقافي خاص بالمنطقة يطور وينفذ من خارجها، فربما وجب علينا أن نتساءل: ما هي الثقافة التي يجري تطويرها حقا؟ ومن ذا الذي يتاح له الاطلاع عليها؟

في الوقت الراهن، من أنفع الطرق وأنجعها تنمية اللغة، ففي النهاية، يظل التعبير هو الأساس. في حين أن المفاهيم التخيلية، والأفكار الإبداعية والتعاريف الوصفية المتصلة بفنون الشرق الأوسط تأتي كلها إلى الجمهور عبر عيون غربية، مع أن هذه العيون في أحيان كثيرة تفتقر إلى السياق التاريخي المحلي وخلفياته المرجعية الثقافية.

«دار المأمون» مؤسسة فنية وأدبية مغربية تعمل على جسر هذه الفجوة. ويعكف عمر برادة، مدير المكتبة وبرامج الترجمة في المؤسسة، حاليا من خلال نظرته إلى الفنون باعتبارها جزءا لا يتجزأ من أي مجتمع ناهض، على استكشاف الأفكار من أجل المباشرة في برنامج ترجمة النصوص الفنية يهدف إلى معالجة هذه القضايا على نطاق أوسع وأشمل.

يقول برادة: «المسألة ليست مجرد مسألة عثور على الكلمات، بل ما نفعله يفتح الباب أمام مختلف الأسئلة»، وهو يرى أن هذه التجربة لا تهتم بتطوير لغة الدراسات الفنية بالعربية فحسب، بل تحاول أيضا تطبيقها على السياقات الثقافية التاريخية في المنطقة. ويضيف: «من العوامل المهمة التي ينبغي الاهتمام بها التفكير الجمالي. وهذا قد يتطلب دراسة الكتابات العربية التي تعود إلى العصور الوسطى التي دون فيها الناس أخبار أسفارهم وما شاهدوه فيها. لقد بنوا مساجد ومدنا وأشياء أخرى ذات أشكال وألوان، وتولى أشخاص معينون وصفها، وبالتالي فهناك كلمات سقطت منا وتوقفنا عن استعمالها، وهناك مفاهيم ما عدنا ننظر إليها. لقد بتنا ننظر إلى الجماليات من خلال نموذج التاريخ الفني الغربي، وهو أمر جميل، غير أن النظر إلى النصوص التي سبقت حتى ظهور ذلك النموذج قد يعطينا ما لا نتوقعه من الوسائل للنظر إلى الأشياء من زاوية مختلفة. وبهذا، سنحيي في حياتنا أشياء تستحق أن نحييها وننسى أشياء تستحق أن ننساها».

اليوم تهدف «دار المأمون»، التي تقع في قرية تاسولتانت بوادي أوريكا على بعد 14 كيلومترا من مدينة مراكش، إلى تحقيق التبادل بين الثقافات من خلال ما تضطلع به من أبحاث وبرامج الاستضافة، حيث تتيح للفنانين والباحثين من المناطق الأخرى تمضية بعض الوقت فيها والاستعانة بما لديها من موارد وإمكانيات.

أما عن الاسم الذي اختير للدار، أي اسم «المأمون»، فهو يذكرنا كثيرا بل وبصورة مباشرة بـ«بيت الحكمة» - الذي أسسه الخليفة المأمون - في بغداد خلال القرن التاسع الميلادي، والذي كان يعد بوابة عبور الفلسفة اليونانية والعلوم إلى العالم العربي في مستهل عصر التنوير العربي.

جزء من رؤية «دار المأمون» يتعلق باستخدام الأبحاث والترجمة في تشجيع الإثراء المتبادل بين الثقافات ومحاولة التغلب على الحواجز التي تفرضها اللغة على الثقافة، وهذا أمر ترى المؤسسة أنه في غاية الأهمية في عصر العولمة الذي نعيشه اليوم. وإلى جانب برنامج تطوير لغة التربية الفنية بالعربية، يشدد برادة أيضا على أهمية التوسع في الترجمة من العربية إلى الإنجليزية لكي يتاح للثقافات الأخرى أن تطل على ثقافتنا، موضحا: «أؤمن بأن جزءا كبيرا من التحامل ضد العرب يعود إلى الجهل - سواء كان متعمدا أم لا - بالإبداع والإنتاج الثقافي الموجود فعلا على الأرض».

وضمن مهمة الدار، بوصفها مركزا للأبحاث المتعلقة بالدراسات الأدبية والترجمة، مشروع تطوير اللغة اللازمة للدراسات الفنية والثقافية الذي يصلح تماما لإدخاله في المناهج الدراسية، من خلال الربط بين المعارف الفنية وتعلم اللغة، وأخيرا النظام التعليمي بشكل عام. وسيضم برنامج الترجمة ورش عمل وحلقات نقاشية ومناظرات، وكذلك أبحاثا، تدور حول النصوص المناسبة للترجمة. واليوم يواجه برادة عددا من الأسئلة المتعلقة بأفضل طريقة لاختيار النصوص الكفيلة بفتح الباب لمزيد من الأسئلة المحورية والبناءة، مثل مسألة وضع مقرر خاص بفصل دراسي نظامي.

وبعيدا عن اللغة، ثمة اتجاهات عامة حول التنمية الفكرية يجب التعامل معها أيضا، فعلى الرغم من أن الكتب والمناقشات والملتقيات والمراجعات النقدية تكتب باللغة الإنجليزية، فإن المنحى النقدي ما زال قاصرا في الثقافة العربية. وعن هذا الجانب يقول برادة: «المسألة بالنسبة لي هي أنه لا توجد دراية نقدية كافية. من الأفكار المطروحة إصدار مجلة. وبدلا من ترجمة الكتب سننتقي نصوصا مهمة أصغر حجما ونجمعها وننشرها على الإنترنت. وقد تتضمن هذه النصوص الأسئلة الأساسية وتصلح كنقطة انطلاق للمناقشات».

إن من المسارات المطلوبة لنشر هذه المعرفة المطورة حديثا تكوين علاقات جديدة وتوسيع شبكات التعاون بين المؤسسات والمعاهد الفنية عبر العالم العربي. وبالفعل، يقوم البرنامج نفسه على أساس استضافة فنانين وكتاب من جميع أنحاء المنطقة يتشاركون جميعا في دراسة كل نص من النصوص على حدة في مناقشة بناءة مستمرة.

في عصر كهذا الذي نعيشه صار فيه النقاش ضرورة قصوى، يعتبر نمو اللغة الفكرية في مختلف المجالات أمرا حيويا، إذ ينبغي أن لا نستخف إطلاقا بالدور البارز الذي تلعبه الثقافة في التنمية الشخصية والاجتماعية والسياسية على الصعيدين الفردي والجماعي. وهذا التركيز على تطوير اللغة التي تحيط بالدراسات والنظرية الفنية باللغة العربية ليس منفصلا أو معزولا، بل العكس هو الصحيح، ذلك أن المفاهيم التي تقوم على مرجعية محددة تسمح بمزيد من التبادل البناء، وهذا لا يقتصر على قطاع الثقافة وحده. ويختتم برادة كلامه بالقول: «يرتبط التغيير السياسي ارتباطا وثيقا بالخيال، بإمكانية تخيل شيء آخر. إنه يرتبط تماما بعلم الجمال. هذه العلاقة بين السياسة وعلم الجمال ينبغي دراستها عن كثب أكثر».