استوديو «سان فرانسيسكو».. عين على مصر عبر 70 عاما

أنشئ عام 1942 وأرشيفه يؤرخ لذكريات القضاء المصري

الملك فاروق في صورة تذكارية مع الهيئات القضائية أمام مبنى مجلس الدولة
TT

في حي بولاق أبو العلا الشعبي بوسط القاهرة، حيث يتمركز باعة وكالة البلح للملابس المستعملة، قد لا يلفت انتباهك وجود هذا الاستوديو العريق للتصوير الفوتوغرافي، لكنك وربما من باب الفضول قد تسأل عنه أحد أهالي الحي فتندهش أن الاستوديو يقبع في هذا المكان الذي يسمى «الفرنساوي» من 70 عاما منذ إنشائه في عام 1942.

ورغم اختلاف الزمان وتبدل مُلاك المكان، لم يبرح الاستوديو اسمه القديم «سان فرانسيسكو»، الذي اختاره له مؤسسوه «الخواجات» من الأرمن والطليان، الذين كانوا يعيشون في هذه المنطقة، بينما كانت الحرب العالمية الثانية مشتعلة لم تضع أوزارها بعد.

مع أولى خطواتك في البناية القديمة التي تحتضن الاستوديو في الطابق الثاني منها، تشم رائحة الماضي، ومع صعود درجات السلالم المتهالكة، تشعر بأنك عدت عقودا طويلة إلى الوراء، حيث صور ملوك مصر وباشاواتها وقضاتها الذين كانوا من زبائنه.

يستقبلك صاحب الاستوديو الحالي الخمسيني بابتسامة هادئة، وسوف تندهش أيضا وتكتمل صورة الماضي في مخيلتك حين يفصح عن اسمه بزهو، فهو المصور «سعد زغلول أحمد»، الذي يحمل اسم أحد أشهر زعماء مصر.

يمتاز استوديو «سان فرانسيسكو» بمحافظته على طرازه القديم، وديكوراته البسيطة، وفي خلفية ذلك إضاءة خافتة تتماشى مع روحه، أما حوائطه فتزدان بصور لملوك الأسرة العلوية كفاروق وفؤاد، وفي إحدى زواياه ستجد كاميرا خشبية عمرها أكثر من 100 عام، وهي من أول الكاميرات التي استخدمت فيه بعد أن جلبت خصيصا من بريطانيا.

يقول صاحب الاستوديو: «اختار مؤسسو الاستوديو حي بولاق لأنه مكان حيوي تكثر به الزبائن، ففيه مجموعة من المدارس، ومتحف الركايب الملكية، وكان التصوير يتم هنا أو في الخارج عبر مصورين محترفين، الذين كانوا يذهبون لتصوير الباشاوات والعائلات. ففي الماضي كانت العائلات تحرص على الصورة التي تجمع أفراد الأسرة، ولدينا أرشيف من الصور التي تعود لعقود طويلة».

ويستكمل تاريخ الاستوديو قائلا: «استمر الاستوديو لعدة سنوات بعد الحرب العالمية الثانية، ثم انتقلت ملكيته في أواخر الأربعينات من الخواجات لمصور مصري يدعى محمد مصطفى، وقد كان هذا الرجل نشيطا ومخلصا لمهنة التصوير، فعمل على تطوير الاستوديو، حيث كان يبذل جهودا في التعاقد على تصوير أعضاء الحكومة والشرطة والجيش وأعضاء الهيئات القضائية، فكل دائرة قضائية كانت تصور مع رئيس المحكمة، كما كان يتعاقد مع المدارس لتصوير تلاميذها ومعلميها. ففي هذه الفترة كان تقليدا متبعا أن يتم تصوير تلاميذ كل صف دراسي مع ناظر المدرسة في صورة للذكرى، وكان الرجل من يتولى تلك المهمة».

يتابع: «مع هذه التعاقدات المتعددة، اتسع عمل الاستوديو وزادت شهرته، فكان صاحبه شخصا مبدعا، كما كان يدير العمل بشكل احترافي يقوم على التخصص، فكان له نفس نظام السينما، من وجود أفراد متخصصين في الإضاءة والرتوش والتحميض والطباعة».

ويلفت زغلول إلى أن المصور محمد مصطفى كان شخصا ودودا وصاحب كاريزما جعلته يتمتع بصداقات كثيرة مع زبائنه، مما جعل الاستوديو لا يقتصر على مجرد التصوير، بل كان أشبه بمنتدى، وغالبية المشاهير لم يكونوا يحضرون من أجل التصوير فقط، بل كان في الاستوديو غرفة مخصصة لاستقبالهم ولسهراتهم، ويضيف: «كثير من المشاهير كانوا يترددون على الاستوديو أبرزهم الفنان الراحل محمد رضا، ومن أبرز زبائن الاستوديو بشكل عام كان الفنان رشدي أباظة، والراقصة نبوية مصطفى، وهي راقصة كانت ذات شهرة كبيرة وظهرت في عدة أفلام قديمة، إلى جانب الباليرينات الأرمنيات اللاتي كن يحضرن لتصوير استعراضاتهن».

ويبين المصور سعد زغلول أنه التحق بالاستوديو في صباه، حيث كان الاستوديو قديما بمثابة المدرسة التي تخرج فيها الكثير من المصورين، ويقول: «المصور محمد مصطفى كان والد أعز صديق لي، ووقتها كانت المهن تورث، ولكن لأن نجله لم يكن يهوى التصوير، فقد ذهبت أنا للاستوديو للتعلم، جئت هنا وعمري 14 سنة، وكان ذلك في منتصف فترة السبعينات».

ومع انتقال ملكية الاستوديو إليه، يبين المصور سعد زغلول أنه حاول الحفاظ عليه شكلا ومضمونا، فيقول: «أميل لكل شيء فيه تاريخ فني أو قيمة، لذا تمسكت بشكل الاستوديو التقليدي، وكذلك الاسم الذي يعبر عن هوية المكان وتاريخا تجاريا، كما جددت أرشيف الصور القديمة، خصوصا ما يخص الهيئات القضائية، التي تؤرخ أبرز الأحداث التاريخية للقضاء المصري، منها على سبيل المثال افتتاح الملك فاروق لمبنى مجلس الدولة القديم في عام 1947».

ويكمل: «منذ 25 عاما وأنا أسير على نفس الدرب في تصوير الهيئات القضائية، وقد قمت منذ عدة سنوات بتجديد التاريخ القضائي لمجلس الدولة منذ افتتاحه وحتى بداية القرن الحالي، وهو ما يمكن للزائر إلى مبنى المجلس الاطلاع عليه».

أما عن زبائن الاستوديو حاليا، فيوضح أنه رغم وجوده في حي شعبي، فإن غالبية زبائنه من المثقفين، الذين يقدرون قيمة المكان، فمنهم الإعلاميون والفنانون والسفراء والقضاة، يساعد على ذلك وجوده بالقرب من مبنى التلفزيون ووزارة الخارجية المصرية ودار القضاء العالي.

يعتبر الرجل أن «سان فرانسيسكو» متحف يحكي جزءا من تاريخ التصوير في مصر، فهو يضم مقتنيات نادرة من الصور، ومعدات التصوير القديمة من كاميرات وفلاشات وكشافات الإضاءة، مما يجعل من الاستوديو مكانا تراثيا.

ويختتم حديثه بالإشارة إلى أنه رغم الإغراءات الاستهلاكية، وعدم تمسك أحد بالمهنة، ومسؤولياته الأسرية؛ فإنه مستمر في المحافظة على الاستوديو. وبينما نودعه وهو غارق في مطالعة أرشيفه.. يقول: «ما أقدرش أغير جلدي وأعمل في مهنة تانية».