الليبيون يواجهون خطر الفوضى والتقسيم.. والقذافي ما زال في عقولهم

السلاح يدير الحياة اليومية بدءا بـ«مقلب» القمامة إلى تنظيم المرور.. والحكومة عاجزة

مهاجرون غير شرعيين ألقي القبض عليهم في تاجوراء، شرق طرابلس، أمس (أ.ف.ب)
TT

في مدخل «مقلب» النفايات الرئيسي في طرابلس وقف مصطفى الصيباني مرتديا زيه العسكري، وقد ارتسم على وجهه تعبير يؤكد أنه لن يسمح بعبور شاحنة قمامة، فعلى مدى أربعة أشهر لم تتجاوزه شاحنة قمامة، تاركة العاصمة تموج بأكوام القمامة.

الصيباني واحد من آلاف المقاتلين الذين لا يزالون يحتفظون بأسلحتهم، بعد الثورة التي أطاحت بالطاغية الليبي معمر القذافي العام الماضي. وتحول الصيباني الآن إلى أحد السكان الذين يقطنون بالقرب من النفايات حيث يمارسون حريتهم الجديدة عبر رفضهم قمامة طرابلس، وقالوا: ضعوها في أي مكان غير هنا. ففي ليبيا ما بعد القذافي، عادة ما تتدخل الأسلحة الآلية لرفض المشاريع الحكومية في المناطق والأحياء.

وقال الصيباني، الذي كان يعمل كاتبا بوزارة العدل قبل الثورة: «سنموت هنا قبل أن نسمح لهم بافتتاحها مرة أخرى».

ليبيا التي تغوص بالزهور البرية الصفراء المبهجة، بعد عام من الربيع العربي تتعلم درسا كئيبا، وهو أن الوحدة لا تزهر بسهولة في منطقة تركزت فيها عملية اتخاذ القرار في يد قلة قليلة وتمكن المستبدون الذين حكموا بقبضة حديدية من تجاوز الخلافات الثقافية والدينية والعرقية.

وبعد خمسة أشهر من موت الرجل الذي تمكن من توحيد ليبيا، بالقوة الوحشية، بدأ الناس هنا في التساؤل عما إذا كان هناك من سبيل آخر لتوحيد الصف مرة أخرى. فقد أدت الصدامات التي وقعت الأسبوع الماضي بين قبائل متناحرة في مدينة سبها جنوب ليبيا إلى مصرع 147 شخصا، بحسب مسؤولين هناك. مثل هذه الحوادث كانت الفوضى التي لم تكن لتجعل أحد الليبيين يندهش إذا ما تحولت مشادة بشأن شاحنة إلى قتال بالأسلحة.

ومع إغلاق مقلب القمامة في ديسمبر (كانون الأول) اعتاد سكان طرابلس على القذف بأكياس قمامتهم على أرض قصر القذافي السابق. لكن هناك ما لا يقل عن مليون طن من القمامة ملقاة في شوارع طرابلس لتشكل أزمة بيئية تلوح في الأفق، بحسب عدنان الغروي، متطوع يقود المجلس التنفيذي لطرابلس، الذي يحاول إدارة المدينة.

تسبب مقلب القمامة القديم - بني قبل 11 عاما إبان حكم القذافي - في شكاوى من السكان بتلويث مجاري المياه ونشر الأمراض. وقد وعدت المدينة ببناء مقلب جديد وصحي بأسرع وقت ممكن وتوصيل المياه النظيفة، ومستوصف صحي وتقديم مساعدات أخرى للعائلات القريبة من مقلب القمامة القديم، لكن الغروي يصر على ضرورة إعادة مقلب القمامة القديم، على الأقل بصورة مؤقتة، ولا يستبعد استخدام القوة في ذلك.

وقال الغروي بنوع من الإحباط تجاه هذا التفكير الأناني والمواجهات العديدة الأخرى: «لقد أعطيتم القذافي 11 عاما، ولا ترغبون في منح الحكومة الجديدة عاما واحدا فقط؟! يجب أن نتعلم العمل كشعب واحد».

وعوضا عن التعاون يتنافس رجال الميليشيات المتنافسة، بعضهم مخمورون وغالبيتهم من العاطلين، على مناطق النفوذ في العاصمة. ففي مدينة التويرجة غرب ليبيا، طرد السكان الليبيون السود بالكامل من قبل المقاتلين من مدينة مجاورة، كما أدت الدعوات الصادرة عن الجزء الشرقي من البلاد الغني بالنفط لمزيد من الاستقلال الذاتي عن الحكومة المركزية إلى صدامات مسلحة في بنغازي، مما أثار شبح التقسيم، لدى البعض.

ويقول السادات البدري، نائب رئيس المجلس المحلي في طرابلس: «كل شيء هنا يعج بالفوضى، نحن نعلم ذلك. فقد انتقلنا من الديكتاتورية إلى الحرية الكاملة في خطوة واحدة، والكل هنا يعمل حسب هواه». على عكس الرئيس المخلوع حسني مبارك في مصر، لم يترك القذافي أي بنية وزارية فاعلة يمكن الاعتماد عليها، أو مسؤولين مدنيين أكفاء يمكن تأهيلهم لعصر من المحاسبة.

ويقول المبروك سلطان، أستاذ علوم الحاسب في مدينة بنغازي، والمدون والمعلق الشهير: «لم تكن هناك قوانين، كان الأمر كله بيد شخص واحد. وبمعايير حكومية، كانت ليبيا مزرعة، والمزارع متوفى»، لكنه لم يغب عن بال الليبيين، فهناك أزمة شائعة بين الليبيين تقول «القذافي لا يزال في عقولنا».

ينزل المتظاهرون إلى الشوارع بصورة يومية مطالبين بالخدمات متهمين أعضاء المجلس بالفساد كما هو الحال مع أسلافهم في عهد القذافي. وبالمثل يسارع المسؤولون باتهام المتظاهرين بأنهم دمى في يد الموالين للقذافي.

في الوقت ذاته يسعى المجلس الوطني الانتقالي، الذي شكل على عجل خلال الأيام الأولى للثورة من زعماء القبائل والقادة المحليين، لاستبدال حكومة تمثيلية به. ويتحدث مخططه للإصلاح عن عملية تستغرق 20 شهرا بدءا من وضع مسودة دستور جديد إلى انتخاب مجلس تشريعي وطني. لكن الليبيين ليسوا في حالة متسقة، ففي مصراتة التي شهدت بعض أعنف العمليات القتالية، تجاوزت الميليشيا المحلية المجلس الوطني الانتقالي وعقدت انتخاباتها الخاصة قبل أشهر من الموعد المقرر لها.

وفي طرابلس، تعمل إشارات المرور لكن أحدا لا يكترث لها. يقول صبري عيسى، مالك شركة خدمات نفطية، عندما سئل خلال مشاهدة أربعة من المقاتلين يوجهون بخشونة جحافل السيارات حول ساحة الشهداء، وبندقياتهم مشرعة صوب الزجاج الأمامي للسيارات: «لماذا تحتاج إلى بندقية آلية لتنظيم المرور؟!». على بعد عدة ياردات كان ضابطا مرور يجلسان في سيارتهما، وقال عيسى: «إنهم لا يفعلون شيئا للسيطرة على هؤلاء الشباب. حكومتنا حكومة اسمية فقط».

سيطر أفراد الميليشيات على فندق «غراند هوتيل» (الفندق الكبير) الشاهق، بينما يقوم آخرون بحراسة المطار. وعلى الرغم من اكتشاف عدد محدود من الجثث نتيجة عمليات القتل الانتقامية كل صباح، فإن دوي إطلاق النار لا يزال يتردد خلال الليل.

ويعترف مسؤولو وزارة الداخلية أنهم لا يستطيعون القيام بشيء حيال عمليات السلب والنهب. فالمحاكم الجنائية معطلة. وعندما يلقى القبض على المقاتلين، يقوم زملاؤهم بإخراجهم عنوة من السجن. ومع اقتراب البطالة من 30 في المائة - وأعلى بين الشباب - خصص المجلس 1600 دولار لكل مقاتل، تدفع لهم مرة واحدة، أملا في إبعاد بعضهم عن الشارع.

كانت الرواتب تسلم في قاعدة محمود نشنوش العسكرية القريبة من الشاطئ، حيث يتجمع المقاتلون في مزيج من الزي العسكري وقمصان كرة القدم حول البوابة للحصول على الراتب. لا تزال بعض شاحناتهم الصغيرة تثبت المدافع الرشاشة الثقيلة في مؤخرتها. وجميعها تضع أعلام الثورة من الورق المقوى بدلا من لوحات الترخيص المطلوبة. وقال محمد كالف، أحد أفراد ميليشيا طرابلس، وهو يقبض على لفة كبيرة من الدينارات: «هذا هو ما نحصل عليه من مال بعد القتال، البعض منا سيعود إلى منزله الآن». ربما تعجل الفوضى في طرابلس وما حولها دعوات الحكم الذاتي التي بدأت تتردد في النصف الشرقي من البلاد.

يضيف سلطان: «لقد اختطفت العصابات العاصمة. إنهم لا يستطيعون أن ينظفوا شوارعهم، من هم كي يملوا علينا الأوامر؟!».

لا تبدو بنغازي، التي تنتشر بها أشجار النخيل، كمدينة انفصالية، حيث تملأ ملصقات المقاتلين الذين قضوا خلال الحرب جزءا من المدينة إلى جانب الرسوم الغرافيتية التي تحيي السابع عشر من فبراير (شباط) الذي شهد بداية الانتفاضة العام الماضي في هذه الشوارع.

ويرفرف العلم الوطني الجديد في كل مكان، بما في ذلك سوق السمك المجاورة للبحر الأبيض المتوسط، حيث لصق العلم، بألوانه الأخضر والأحمر والأسود، على جانب الباب بينما علقت سمكة قرش تم اصطيادها حديثا على الجانب الآخر.

يقول عادل المنصوري، وهو جالس مع زوجته وأطفاله الثلاثة حول طاولة مليئة بالحبار المقلي من الأسماك: «أخيرا، أشعر أنني ليبي». كان المراقب الجوي الذي ولد في بنغازي، مستهدفا بالاغتيال بسبب مشاركته الأولى في الثورة. وهو الآن يدعم حكما ذاتيا أوسع للشرق في الوقت الذي يستشعر فيه إحساسا جديدا بالهوية الوطنية.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»