«جرح العراق» يلقي بظلاله على عمل أجهزة الاستخبارات الأميركية بشأن إيران

«سي آي إيه» تخشى أن يعيد التاريخ نفسه.. ومصداقيتها أصبحت على المحك

TT

لا يختفي شبح العراق أبدا داخل أكبر وكالة تجسس في البلاد. فبعد أشهر من بداية الحرب على العراق، أصيب أحد المحللين الذين يعملون لحساب وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي آي إيه» بانهيار عصبي، بعد أن ساهم في وضع بعض التقارير الاستخباراتية المتعلقة بملف امتلاك صدام حسين المفترض أسلحة دمار شامل، وشارك في عمليات التفتيش بعد الغزو، التي أثبتت أنه لا وجود لهذه الأسلحة على الإطلاق. وحينما أسندت إليه مهمة جديدة تتعلق بتقييم برنامج إيران النووي، أسرَّ إلى زملائه بمخاوفه من أن يكون جهاز الاستخبارات يسير في الاتجاه الخطأ مجددا. وقال مسؤول سابق عمل مع هذا المحلل: «لقد أحس بالذنب كثيرا لأنه قادنا إلى هذه الحرب. وهو يخشى من أن يعيد التاريخ نفسه من جديد».

لكن المحللين وغيرهم من العاملين في جهاز «سي آي إيه»، الذين يحاولون جاهدين سبر أغوار الطموحات النووية لإيران، يدركون تماما اليوم أن مصداقية الوكالة أصبحت على المحك مرة أخرى، وسط تهديدات بالشروع في تدخلات عسكرية جديدة. وقد أثرت الهزيمة التي تلقاها جهاز الاستخبارات في العراق تأثيرا عميقا على الطريقة التي يؤدون بها عملهم، حيث تم اتخاذ إجراءات وقائية جديدة تهدف إلى إجبار المحللين على التشكك أكثر في تقييم الأدلة وزيادة الحذر في ما يتوصلون إليه من استنتاجات.

ويقول مسؤولون استخباراتيون سابقون إن هذا يبين وجود الحذر الملائم في التعامل مع المعلومات التي تتسم بالغموض، بينما يزعم بعض المنتقدين أن الوكالة لم تعد حذرة فحسب؛ بل شديدة الفزع أيضا تجاه إيران، حرصا منها على عدم التعرض لأي لوم بسبب أي نتائج قد تقود الولايات المتحدة إلى بحر من الدماء.

يقول غريغ ثيلمان، محلل استخباراتي سابق بوزارة الخارجية استقال من منصبه اعتراضا على ما اعتبره تسييسا من إدارة الرئيس بوش للمعلومات الاستخباراتية المتعلقة بالعراق قبل الحرب: «بالنسبة لكثير من العاملين في مجال الاستخبارات، هناك إحساس بأنهم لا يريدون تكرار الخطأ نفسه». وأضاف ثيلمان، الذي يعمل حاليا زميلا أول «بجمعية الحد من انتشار الأسلحة» في واشنطن: «لقد أصبحت الأوساط الاستخباراتية ككل تنتهج ممارسات أفضل حاليا، ويعود بعض الفضل في ذلك إلى الندبة التي خلفها جرح العراق».

ويقول باول بيلار، أحد كبار المحللين السابقين بوكالة الاستخبارات المركزية لشؤون الشرق الأوسط، إنه يعتقد أن المحللين يسترشدون بالحقائق المتوافرة في وضع تقييماتهم بشأن إيران، لكنهم في أغلب الظن ما زالوا متأثرين بالتجربة العراقية. وأضاف بيلار، الذي أصبح حاليا مدير الدراسات العليا في برنامج الدراسات الأمنية بجامعة جورج تاون: «بما أن مسؤولي الاستخبارات بشر، فإن المرء لا يمكن أن يستبعد احتمال وجود ميل إلى المبالغة في تعويض أخطاء الماضي».

وقال كبار المسؤولين الاستخباراتيين إن المحللين يرون أن إيران تسعى جديا للتوسع في بنيتها التحتية وقدرتها التكنولوجية حتى تصبح قوة نووية، لكن القيادة الإيرانية لم تتخذ قرارا بتصنيع قنبلة ذرية.

إلا أن مسؤولين أميركيين كبارا، سواء سابقين أو حاليين، يعترفون بوجود فجوات كبيرة في ما هو متاح لديهم من معلومات، وأنهم ربما لا يتمكنون سريعا من اكتشاف أي قرار إيراني باستئناف برنامج التسلح، الذي تشير استنتاجاتهم إلى توقفه منذ 2003.

وبعد إساءة تقدير الوضع في العراق، قامت وكالة الاستخبارات المركزية وغيرها من وكالات الاستخبارات الأخرى بفرض ضوابط وتوازنات جديدة، مثل اشتراط خضوع أعمال التحليل لأسلوب «الفريق الأحمر»، وهو عبارة عن مجموعة من المحللين الذين يدرسون ويناقشون الاستنتاجات التي يتوصل إليها زملاؤهم بحثا عن أي أخطاء أو نقاط ضعف.

كما أصبحت الدوائر الاستخباراتية تشترط إحاطة المحللين بصورة أكبر بمصادر المعلومات التي يحصلون عليها من عناصر التجسس الأميركية، سواء البشرية أو التكنولوجية، حيث كان المحللون في الماضي لا يعلمون شيئا عن مثل هذه الأمور الأساسية، مما يساعد على تفسير سبب إدراج معلومات مزيفة من أشخاص ملفقين في بعض التقارير الاستخباراتية بشأن العراق قبل الحرب. وإضافة إلى ذلك، يجب على المحللين عند كتابة تقاريرهم أن يبينوا بصورة أكبر المرجعية والمصادر التي اعتمدوا عليها في كل استنتاج من الاستنتاجات الكبرى التي يقدمونها. ويقول أحد كبار المسؤولين الاستخباراتيين السابقين، رفض، كغيره ممن تم التحاور معهم في هذه المقالة، الحديث عن الأمور الداخلية للوكالة إلا بعد الحصول على وعد بعدم نشر اسمه: «أعتقد أن تجربة العراق جعلتهم أشد صلابة. تم اتخاذ خطوات كثيرة لتشديد الضوابط المتبعة في العمل».

وعلى عكس بداية الحرب على العراق، حين كان كثير من معارضي الحرب يتهمون مسؤولي البيت الأبيض تحت إدارة الرئيس بوش بالتركيز فقط على المعلومات الاستخباراتية التي تتماشى مع سياستهم، يقول بعض المحللين الخارجيين إنهم لا يرون أي دليل على أن إدارة الرئيس أوباما تدفع المسؤولين الاستخباراتيين إلى تقديم إجابات محددة سلفا.

وقال جوزيف كيرينسيون، رئيس «بلو شيرز فاند»، وهي مؤسسة أوراق مالية عالمية: «كانت المعلومات الاستخباراتية مسيسة للغاية بشأن العراق. كلما ارتفعت التقارير الاستخباراتية لأعلى في التدرج الحكومي، كان يتم تنقيحها واستبعاد الشكوك والتحذيرات منها». واستطرد قائلا: «أما الآن، فلم أسمع أي شكاوى من أن الإدارة تمارس ضغوطا على أجهزة الاستخبارات لتحريف المعلومات الاستخباراتية». وأضاف أنه رغم شكوى القادة السياسيين المحافظين في الولايات المتحدة وإسرائيل من التقييمات الاستخباراتية المتعلقة بإيران، فإن هذا الانتقاد الخارجي لم يكن سيحدث التأثير نفسه لو جاء من البيت الأبيض نفسه.

ويقول، مشيرا إلى الزيارات المتكررة التي قام بها نائب الرئيس السابق ديك تشيني إلى مقر وكالة الاستخبارات المركزية قبل الحرب على العراق: «أن تجعل رئيس وزراء بلد آخر يتجرأ ويقول إن الوقت محدود شيء، وأن تجعل نائب الرئيس يذهب إلى (لانغلي) ويضغط على الناس هناك شيء آخر تماما».

إلا أن بعض المحافظين الذين يؤيدون اتخاذ إجراء أكثر عنفا للحيلولة دون حصول إيران على سلاح نووي، يزعمون أن القيود المفروضة على وكالة الاستخبارات المركزية تأثرت في الحقيقة بالضغط السياسي الواقع على إدارة الرئيس أوباما، حيث قال الرئيس أوباما إنه لن يستعمل القوة العسكرية إلا بوصفها ملاذا أخيرا ضد إيران، ويقول المحافظون إن إدارة الرئيس أوباما لا تريد من أجهزة الاستخبارات تقديم أي تقارير تبين أن الإيرانيين يتحركون سريعا نحو تصنيع قنبلة.

ويقول جون بولتون، زميل أول بمعهد «أميركان إنتربرايز» والسفير السابق لدى الأمم المتحدة في إدارة الرئيس بوش: «المحللون الاستخباراتيون الذين تعاملت معهم كانوا دوما على استعداد للدخول في مناقشات حول استنتاجاتهم، ولكن هناك ضغط آت من أعلى إلى أسفل لجعل التقييمات تخرج بصورة معينة».

وألقت ذكرى العراق بظلالها على الجدل الدائر بشأن إيران منذ أن خلصت الاستخبارات الأميركية للمرة الأولى عام 2007 إلى أن إيران علقت برنامج التسلح النووي قبل ذلك التاريخ بأربعة أعوام. وفي نهاية عام 2007 عرض مايكل ماكونيل، مدير جهاز الاستخبارات القومي آنذاك، تقييما جديدا من جهاز الاستخبارات القومي، وهو خلاصة جهد محللين في أجهزة الاستخبارات الأميركية البالغ عددها 16، على البيت الأبيض من أجل إطلاع الرئيس جورج بوش الابن على نتائج التقرير المذهلة. وسرعان ما أدرك مسؤولون في البيت الأبيض، لم ينسوا الانتقادات التي وجهت إليهم بشأن العراق، أنهم سيواجهون عاصفة من الانتقادات في حال عدم نشرهم النتائج، بحسب مسؤول سابق في الإدارة ومسؤولين في الاستخبارات. وسيتم عرض نسخة سرية من التقييم الجديد على لجان الاستخبارات في مجلس النواب ومجلس الشيوخ ليرى المشرعون الاستنتاج المغاير الذي توصل إليه المحللون بشأن إيران والذي يختلف كثيرا عن الاستنتاج الذي تم التوصل إليه منذ عامين والذي أكد عدم وصول البرنامج الإيراني إلى مرحلة تصنيع السلاح النووي. ومن المرجح أن تتسرب الأنباء عن هذا التحول إلى وسائل الإعلام، ويخشى مسؤولو البيت الأبيض من اتهام الإدارة حينها بإخفاء المعلومات الاستخباراتية الخاصة بإيران؛ وهو السبب نفسه الذي أثار الانتقادات لإخفاء معلومات استخباراتية خاصة بالعراق، بحسب المسؤولين السابقين. كذلك يشعر مسؤولو البيت الأبيض بالقلق من اتهامهم بتلويث سمعة جهود الاستخبارات، مما دفعهم إلى حث ماكونيل على إصدار أوامر لأجهزة الاستخبارات بكتابة موجزها والإعلان عنه بنفسها. واعترض بعض كبار مسؤولي الاستخبارات الذين سارعوا بكتابة هذا التقرير خلال نهاية أحد الأسابيع على الكشف عن استنتاجاتهم، لكن لم يُجد هذا نفعا. وأوضح أحد المسؤولين قائلا: «لقد قيل لي إنني لا أفهم. إن هذا ليس بطلب».

وأثار ذلك التقرير بلبلة كبيرة بمجرد الحديث عنه، حيث وجه المحافظون انتقادات لاذعة لمسؤولي الاستخبارات المركزية الأميركية لقولهم إن الاستخبارات كانت تعمل لأطراف عدة وحاولت التأثير على النقاش السياسي وتعويض قصورها في العراق بمحاولة الحيلولة دون شن حرب ضد إيران. من بين هؤلاء بولتون، الذي اعترض على تقييم عام 2007 واصفا إياه بـ«المشوه» بشكل واضح، ودعا الكونغرس إلى التحقق مما إذا كان وراءه دوافع سياسية أم لا.

وتأثرا بالصدمة من تلك الانتقادات وما نتج عن الجدل السياسي الضار الدائر بشأن دور الاستخبارات في العراق وإيران، أحجم مسؤولو الاستخبارات المركزية وأجهزة الاستخبارات الأخرى عن نشر ذلك التقرير الخاص بالبرنامج النووي الإيراني والذي أعد عام 2010 وخلص إلى أن إيران لم تُعد إحياء برنامج التسلح النووي الذي علقته عام 2003 رغم إجرائها بعض الأبحاث الخاصة بالأسلحة. وقال توماس فينغار، الذي شغل منصب رئيس مجلس الأمن القومي وقت إعداد تقييم عام 2007، إن على المحللين اتخاذ قرارات صعبة استنادا إلى أدلة مبعثرة وعدم التشتت بما وصفه ببعض الحالات النادرة من الضغوط السياسية أو بهفواتهم السابقة. وقال: «التعلم من أخطاء الماضي أمر ضروري، لكن القلق بشأنها لا طائل من ورائه».

*خدمة «نيويورك تايمز»