نجاحات الاستخبارات الأميركية في طهران تعزز من ثقة واشنطن في التعامل معها

طائرات من دون طيار تخترق الأجواء الإيرانية لتراقب البرنامج النووي

TT

منذ أكثر من ثلاثة أعوام، أرسلت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) طائرة استطلاع سرية من دون طيار لاختراق سماء إيران. وتوغلت الطائرة لمسافة أكثر من 600 ميل داخل الدولة، والتقطت صورا للمنشأة النووية السرية الكائنة في مدينة قم الإيرانية، ثم غادرت عائدة إلى الوطن. وفي أثناء ذلك، كان محللون في وكالة الاستخبارات المركزية وغيرها من وكالات الاستخبارات يراقبون عن كثب بحثا عن أي إشارة دالة على أن الطائرة، التي يحمل طرازها اسم «آر كيو – 170 سينتينل»، قد تم اكتشافها من قبل الدفاعات الجوية في طهران في رحلتها الأولى.

«لم يكن هناك أي أثر لها على الإطلاق»، هذا ما قاله مسؤول استخباراتي أميركي سابق رفيع المستوى شارك في المهمة التي لم يكشف عنها سابقا.

وجابت طائرات سرية من دون طيار اميركية عشرات المواقع في أنحاء إيران، مع مرورها مئات المرات فوق منشآت مشتبه بها، قبل تحطم طائرة «آر كيو – 170» داخل حدود إيران في ديسمبر (كانون الأول) الماضي. وكانت الاستطلاعات جزءا مما يصفه مسؤولون أميركيون حاليون وسابقون بتكثيف الجهود الاستخباراتية التي تستهدف البرنامج النووي الإيراني، والتي أخذت تكتسب زخما منذ الأعوام الأخيرة من إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن.

وقد تضمنت الجهود تكثيف عمليات التنصت من قبل وكالة الأمن القومي، وتشكيل فريق عمل مختص بالشأن الإيراني تضم محللين للصور التي يتم التقاطها عبر الأقمار الصناعية وشبكة موسعة من الجواسيس.

وفي وقت يتجدد فيه الجدل الدائر حول ما إذا كان ردع إيران ربما يتطلب شن هجمات عسكرية، أكدت مجموعة المعلومات الاستخباراتية الموسعة على الرأي داخل البيت الأبيض أن واشنطن ستحصل على إنذار مسبق بشأن أي خطوة من جانب إيران لتصنيع قنبلة نووية، بحسب المسؤولين.

وقال مسؤول أميركي رفيع المستوى: «ثمة ثقة في أننا سنشهد نشاطا يشير إلى أن هناك قرارا قد تم اتخاذه». وأضاف: «على جميع المستويات، تطورت قدرتنا على الوصول إلى المعلومات بدرجة هائلة».

وقد تزامنت الجهود الاستخباراتية الموسعة مع حملة سرية من قبل «سي اي اي» وأجهزة استخباراتية أخرى لتقويض برنامج إيران النووي، وقد مكنت من تصعيد العقوبات الاقتصادية المفروضة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها بهدف إضعاف عزيمة إيران. وأوردت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما تقارير استخباراتية جديدة في جدلها ضد توجيه إسرائيل هجمة عسكرية وقائية ضد منشآت إيران النووية.

وقد حث مسؤولون إسرائيليون على اتخاذ رد فعل أكثر عدوانية تجاه أنشطة إيران النووية، متذرعين بأن إيران تقترب مما قد أطلق عليه بعض المسؤولين اسم «منطقة حصانة»، يمكن من خلالها أن تكمل إيران سريعا الخطوات النهائية لتمتلك سلاحا نوويا عن طريق مواقع محصنة تحت الأرض، بحيث تكون محمية من الهجمات الجوية الإسرائيلية.

ويؤكد مسؤولون بالبيت الأبيض على أن قادة إيران لم يتخذوا بعد قرارهم بتصنيع سلاح نووي، ويقولون إن إيران ستحتاج عاما كاملا على الأقل للقيام بهذا، إذا ما كانت ستطلق برنامجا مكثفا في الوقت الراهن. «حتى في أسوأ الحالات (ستة أشهر) ستكون هناك فترة كافية أمام الرئيس (الأميركي) للنظر في الخيارات المتاحة». هذا ما قاله مسؤول أميركي رفيع المستوى، أحد المستشارين السبعة الحاليين أو السابقين بشأن السياسة الأمنية، والذي وافق على الحديث عن الخيارات الأميركية بصدد التعامل مع الشأن الإيراني شريطة عدم الإفصاح عن هويته.

فضلا عن ذلك، فإن الاستخبارات المطورة تعزز موقف الإدارة للتفاوض قبل إجراء المحادثات النووية مع إيران المقبلة. ومن المتوقع أن تضغط الولايات المتحدة وخمس دول أخرى (روسيا والصين وبريطانيا وفرنسا وألمانيا) على إيران لقبول القيود المفروضة على برنامجها النووي التي من شأنها أن تصعب عليها تصنيع سلاح نووي. ويقول دبلوماسيون غربيون إن أحد المطالب الرئيسية يتمثل في وقف إيران الإنتاج بمحطة تخصيب اليورانيوم في مدينة قم، تلك المحطة التي أقيمت في أنفاق جبلية لا يمكن أن تصل إليها سوى القنابل والقذائف المتطورة. وفي مقابل ذلك التنازل، يمكن السماح لإيران بإبقاء بعض مظاهر برنامجها النووي التجاري تحت مراقبة دولية مشددة.

ورفضت وكالة الاستخبارات المركزية التعليق على طبيعة عملياتها الجارية ضد إيران، إلا أن مسؤولين مطلعين على تفاصيل تلك العمليات أقروا بأنه كانت هناك بعض العراقيل، وخلصوا إلى أن جوانب من عملية اتخاذ القرار في إيران ما زالت مبهمة، بما في ذلك الحسابات التي قامت بها القيادة السياسية والدينية رفيعة المستوى في الجمهورية الإسلامية.

* الفشل الأخير في العراق

* هناك أيضا التجربة التأديبية مما حدث في العراق، فقبل عشر سنوات، كان المحللون في وكالة الاستخبارات المركزية وغيرها من الأجهزة الاستخباراتية الأخرى، على ثقة في أن العراق لديه مخزون أسلحة محظورة، من بينها عناصر لبرنامج أسلحة نووية. غير أن الغزو الأميركي الذي كبدها نفقات طائلة وعملية البحث عديمة الجدوى عن ذلك المخزون من الأسلحة أثبتت خطأ تلك المزاعم.

وكانت مرارة فشل الاستخبارات ما زالت حاضرة في الأذهان عندما وقعت وكالات التجسس الأميركية تحت ضغط من أجل زيادة جهودها في جمع معلومات ضد إيران. وبحلول عام 2006، قض مضاجع المسؤولين الاستخباراتيين الأميركيين وكبار مستشاري إدارة بوش الثغرات العميقة في معلومات الولايات المتحدة عن الجهود والمطامح النووية لإيران.

ويتذكر مايكل هايدن، مدير وكالة الاستخبارات المركزية حينها، اجتماعا توجيهيا للبيت الأبيض ظهرت فيه على بوش علامات الاهتياج والغضب.

وفي الوقت نفسه، كانت إيران تسرع من زيادة حجم مخزونها من اليورانيوم المخصب في منشأة «ناتانز» لتخصيب اليورانيوم، بينما تقوم بتحسينات في موقع كان يعتبر سريا في ذلك الوقت في قم. وأعرب مسؤولون أميركيون عن مخاوفهم من احتمال أن تفاجئ إيران العالم باختبار أسلحة نووية من شأنه أن يترك للقادة الأميركيين خيارين بغيضين: مهاجمة إيران أو قبول ظهور محطة طاقة نووية جديدة في الشرق الأوسط.

وفي لحظة، نظر بوش إلى هايدن وقال: «لا أرغب في أن يواجه أي رئيس أميركي خيارين فقط عندما يتعلق الأمر بإيران»، بحسب هايدن. وأصبح الاجتماع بمثابة الحافز للمراجعة الدقيقة لأسلوب وكالة الاستخبارات المركزية في التعامل مع دولة تعتبر من أهدافها الصعبة. وتم نقل خبراء ورجال مباحث مختصين بالشأن الإيراني تابعين للوكالة من قسم الشرق الأدنى التابع لها إلى مجموعة تركز حصريا على إيران، مثلما شكلت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية مركز مكافحة الإرهاب التابع لها قبل 20 عاما. وقال هايدن: «كلفنا أكفأ الأفراد في المهمة وجعلنا العاملين الأكثر مهارة في القيادة».

وأنشئ قسم عمليات إيران، المعروف داخليا باسم «المنزل الفارسي»، في مبنى المقر القديم للوكالة. وبمرور الوقت، زاد عدد المحللين والموظفين به من عشرات إلى مئات. ويرأس القسم الآن ضابط محنك عمل سابقا رئيسا لمحطة تابعة لوكالة الاستخبارات المركزية في إسلام آباد بباكستان.

وقال مسؤول رفيع المستوى سابق بوكالة الاستخبارات المركزية عمل في قسم الشرق الأدنى في تلك الفترة: «حصل القسم على ميزانية قوية». وبدأ القسم في جمع شبكة مخبرين امتدت من الشرق الأوسط إلى أميركا الجنوبية، حيث توجد خدمات الأمن الإيرانية منذ فترة طويلة. وقد استغلت وكالة الاستخبارات المركزية الوجود العسكري الضخم للولايات المتحدة في أفغانستان والعراق من أجل شن عمليات ضد ايران.

تم الكشف عن إحدى هذه العمليات العام الماضي عندما سقطت «آر كيو - 170»، التي أقلعت من مدرج طائرات في أفغانستان، داخل إيران. وأعلن مسؤولون في طهران بزهو أن إيران هي من أسقطت تلك الطائرة المتسللة، ونُشرت صور يظهر فيها تجميع حطام الطائرة بعد سقوطها. ولكن يقول مسؤولون أميركيون إن خللا فنيا أدى إلى سقوط الطائرة. وأشار مسؤول سابق في الاستخبارات مطلع على بداية مهام الطائرة المتسللة إلى جدل قبل إرسال أول طائرة استطلاع حول ما إذا كان من الضروري تجهيزها بآلية الدمار الذاتي التي يمكن أن تؤدي إلى تحطمها إلى قطع صغيرة إذا ما انحرفت عن المسار. وكان مايكل ماكونيل، مدير جهاز الاستخبارات القومي آنذاك، من المسؤولين رفيعي المستوى الذين أيدوا تزويد الطائرة بهذه الآلية، لكن فريق الهندسة في وكالة الاستخبارات المركزية رأى أن هذا سوف يشكل وزنا زائدا على الهيكل المتوازن بدقة. وعلى الرغم من فشل المهمة، فإن مسؤولين أميركيين أكدوا استمرار إرسال طائرات استطلاع، وأن الضرر الذي لحق بقدرة أجهزة الاستخبارات الأميركية كان محدودا.

ومن أسباب ذلك أن إرسال الطائرات التي تعمل من دون طيار لم يكن سوى جزء صغير من حملة استخباراتية أكبر تشمل وكالة الأمن القومي التي تخترق رسائل البريد الإلكتروني والاتصالات الإلكترونية، وكذلك وكالة الاستخبارات الوطنية للتصوير والمسح الجغرافي التي تفحص الصور التي يتم التقاطها عبر القمر الاصطناعي، والتي كانت أول من يرصد المفاعل النووي الإيراني في قم. واستمرت وكالة الاستخبارات الأميركية في عملها الموسع تحت قيادة ليون بانيتا، الذي تعاون مع أجهزة استخبارات دول حليفة في المنطقة قادرة على تجنيد عناصر لتنفيذ مهام داخل إيران، على حد قول مسؤول استخبارات سابق. وواجهت الوكالة مشكلات، فقد دفعت الوكالة لشهرام أميري، المنشق والعالم الإيراني الذي يعمل في البرنامج النووي الإيراني، 5 ملايين دولار، قبل أن ينتقل للإقامة في مدينة توسن. مع ذلك تخلى عام 2010 عن حياته في أميركا وعاد إلى طهران، حيث ترك ابنه الشاب، وهو ما لم يمنح المسؤولين الإيرانيين نصرا دعائيا فحسب، بل أيضا معلومات عن الأمور التي كانت تتوق وكالة الاستخبارات الأميركية إلى معرفتها. وقال مسؤولون أميركيون إن قسم مكافحة الانتشار النووي في وكالة الاستخبارات المركزية كان هو المسؤول عن أميري بعد اتصاله بمسؤولين أميركيين في فيينا، وعرضه التعاون معهم كجاسوس. واستمر هذا القسم مسؤولا عن الخبراء الفنيين المطلعين على البرنامج الإيراني النووي، في الوقت الذي ركز فيه قسم «بيرجا هاوس» (المنزل الفارسي) على الشخصيات القيادية والهيئات العسكرية والأمنية، ومن بينها الحرس الثوري الإيراني. وقال مسؤول سابق رفيع المستوى عن عودة أميري إلى إيران: «كان الضرر الحقيقي يتعلق بسمعتنا، فقد بدونا مثل رجل الشرطة الأحمق. لم يلحق بنا أي ضرر فعلي.. بل جمعنا معلومات رائعة».

أكدت العمليات الاستخباراتية الموسعة مدى التوافق بين الأجهزة الاستخباراتية الأميركية، بحسب تقديرات مثيرة للجدل نشرت عام 2007. وتوضح تلك التقديرات أنه في الوقت الذي تتمسك فيه إيران بعزمها على تجميع العناصر اللازمة لتنفيذ البرنامج النووي، خاصة تخصيب اليورانيوم، يميل القادة الإيرانيون الآن إلى عدم اتخاذ الخطوة الأخيرة الحاسمة، وهي تصميم رأس نووي. وقال مسؤول استخباراتي سابق مطلع على النتائج: «ليس الأمر هو غياب الدليل، بل الدليل على الغياب». وأضاف: «هناك أمور معينة لا تحدث حاليا».

*شاركت جولي تيت في إعداد التقرير

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»