الضبط الاجتماعي وآلية مقاومة التغيير: من «التسامح» إلى «الرهاب» فـ«السماح»

السماح للعزاب بدخول تجمعات الأسر والنساء يعيد المشهد الاجتماعي في الرياض قبل عقود

أسواق الرياض قبل نصف قرن حيث النساء والرجال ولا مانع من دخول العزاب إليها
TT

تملك السعودية خصائص ومعطيات كثيرة تختلف فيها عن دول عربية وإسلامية عدة، هذه الخصوصية لها أسباب مفهومة لكن لا تصل إلى مبالغات تبدو كأنها استثناء من كل متغيرات العصر وشروط الدولة الحديثة، ومع اليقين بهشاشة التدوين للتحولات والمتغيرات التي شهدتها السعودية خلال العقود الأربعة الماضية في جوانب مختلفة بعد أن حدثت منذ بداية السبعينات نقلة تنموية حولت المجتمع من ذهنية الريف والبادية والمناطق الحضرية البسيطة إلى مدن عصرية في مكوناتها الأساسية متزامنة مع نقلة اقتصادية وصناعية وتعليمية تكشفها الأرقام الكبيرة، ووصفتها بعض المراجع في حينها بـ«ثورة تنموية».

ومع استبعاد الجانب التنموي في هذه النقلة فلا بد من التوقف عند الجزئية المتعلقة لما صار منذ السبعينات بعد أن تعرض المجتمع السعودي لأكبر عملية احتكاك مع الأجانب والعرب، ومن كل الثقافات والأديان، في المنزل والشارع والمدرسة، ثم تزايدت أيضا مع ارتفاع مستوى الدخل والسفر إلى الخارج للسياحة والعمل والدراسة، وكان للتعليم في الخارج حضور مؤثر فجاء بعشرات الآلاف من الدارسين والمدربين في دول مختلفة، وشارك في إدارة عجلة التنمية لكن وفق التصورات والاستراتيجية التي بدأت معها كما عبر عن ذلك عبد العزيز الخضر الكاتب والباحث في كتابه المثير «السعودية سيرة دولة ومجتمع» وقدم خلاله قراءة في تجربة ثلث قرن من التحولات الفكرية والسياسية والتنموية، معتبرا أن المفارقة هنا أن الكثير من الباحثين الغربيين كانوا يتوقعون أنه سيكون لعودة هذه النخب منذ السبعينات تأثير تنويري كبير داخل المجتمع، لكن الذي حدث شيء مختلف، حيث أصبحت هذه النخب ولا تزال جزءا أساسيا في صناعة المجتمع على الطريقة الحكومية الأولى، رغم أن بعضهم كان له ملامح اندفاع في تقديم دور تنويري. ولأن رصد الكثير من هذه التحولات يعتمد على الملاحظات الشخصية لمعاصري فترة التغير وما قبلها، فإنه يمكن القول بأن القرار الأخير بالسماح للعزاب بدخول الأسواق والمجمعات التجارية قد أعاد الصورة التي كانت عليها مدينة الرياض قبل 4 عقود وما قبلها وهي فترة تعد امتدادا لمرحلة الخمسينات والثمانينات الميلادية التي امتازت بالتركيز على توفير مستلزمات الحياة الضرورية والمرافق الأساسية في المدينة كالطرق، وتوفير شبكات المياه فقط، وكان لغياب التخطيط الشامل للمدينة دور في غض الطرف عن احتياجات المدينة من الأماكن المفتوحة والمنشآت الترويحية، وكان لدى سكان المدينة في تلك الفترة من المناطق المفتوحة ما يسد جانبا من احتياجاتهم منها فالروضات الطبيعية المحيطة بالمدينة، والمزارع الخاصة، ومواسم الأمطار، ومسيل الشعاب، كل ذلك كان يوفر قدرا مناسبا من الأماكن الترويحية والترفيهية، ومع دخول مدينة الرياض مرحلة التخطيط الموجه انتشرت الحدائق والأماكن المفتوحة والملاعب والمنشآت الرياضية، والمجمعات الوظيفية والسكنية، في حين كانت الأسواق محدودة أشهرها أسواق السدرة والمقيبرة (الديرة) وسويقة وحلة القصمان والوزير والبطحاء، وكانت هناك حدائق الفوطة والستين والشميسي، وحديقة الحيوان بالرياض التي تعد في وقتها أهم أماكن الزيارة والترفيه لسكان المدينة كما انتشرت متنزهات ومقاه تعود لأفراد داخل وأطراف الرياض مع مشتل الخرج القريبة من الرياض وكانت كل تلك الأماكن تستقبل الأسر والعزاب على حد سواء، ولم يحدث أن تم منع شخص من دخول أو زيارة تلك الأماكن بحجة أنه أعزب، كما لم يتم منع امرأة من ارتياد هذه الأماكن لوحدها وضرورة وجود محرم معها، بل إن من عاش في الرياض أو زارها قبل 4 عقود وأكثر يتذكر مشهد الأمهات وهن يرضعن صغارهن في أسواقها أمام مرتاديها والمارة، وأمام رجال الحسبة الذين ينتشرون في تلك الأسواق ويحملون عصيا من الخيزران لتخويف الخارجين عن المألوف أو ممارسي السلوكيات الخاطئة وكانت هذه العصي مرتبطة بعملهم البسيط دون أن يسببوا الأذى لأحد، وكانوا من كبار السن ويعرفون باسم «النواب»، وكانوا راجلين ينبهون الناس إلى دخول وقت الصلاة، ولم يكونوا غلاظا، بل لم يلحظ على عملهم أخذ الناس بالشبهة أو الحكم على الناس بالنيات أو إطلاق الأحكام المسبقة، لقد اتسم عملهم باللين، وكانت ابتساماتهم تسبق نصائحهم لرواد السوق التي لا تتعدى التحذير من التزاحم، ولم يكن مشهد الأمهات وهن يرضعن صغارهن في الأسواق أمام مرتادي السوق والمارة يثير غضب رجال الهيئة، بل إن كشف المتسوقات لوجوههن أو استخدام غطاء الوجه الخفيف المعروف بـ«المسفع»، أو رفع بعض النساء عباءتها إلى ما فوق الأرداف لا يعد مخالفة تستوجب العقاب أو حتى النصيحة، وعندما يحصل مخالفة كأن تبالغ المرأة في إثارة الشباب أو مبالغة الشاب في ملاحقة النساء بما يعرف بـ«المغازلة»، يتم العقاب بضربة سريعة على مؤخرة المخالف بعود الخيزران من قبل رجال الهيئة ومعها تتعالى الضحكات من المعاقِب والمعاقَب والمارة.

لقد غاب من هذا المشهد الرهاب من رجال الحسبة والفوبيا من وجود المرأة بهذا الوضع، بل إن الثقة والستر هي ديدن ذلك المشهد، هذا يحدث في السوق العامة والمليئة بالمتسوقين من الجنسين، أما في الأحياء فقد كان الأمر أشد إثارة، لقد كان القماش يجوب الأزقة حاملا لفافته المليئة بأنواع مختلفة من الأقمشة ورافعا صوته مرددا: «فرجنا»، وعندما يصل صوته إلى ربة البيت التي أنهت إعداد غداء الأسرة انتظارا لعودة صغارها من المدرسة والأب من عمله، تخرج بردائها الخفيف للشارع وتنادي القماش وتقف أمامه وجها لوجه تقلب الأقمشة وتختار ما يروق لها، بل إن بعض النساء من المرضعات لا تتردد في إرضاع صغيرها أمام البائع عندما يطول وقت الاختيار، هذا عدا أن بائع الوقود من الكيروسين الذي كان يجوب الأزقة قبل 4 عقود مستخدما حمارا يجر خزان (برميل) الوقود من الكيروسين مناديا: القاز.. القاز، تخرج المرأة حاملة صفيحة القاز الخالية ليملأها ويدخلها المنزل.

هذه مشاهد مألوفة كانت تحدث في الرياض في أسواقها وحاراتها القديمة في حين أن هناك مظاهر أخرى متمثلة في انتشار السينما في أندية العاصمة التي تعرض كل ليلة جمعة أفلاما عربية وأجنبية، وأحيانا يحدث خطأ متعمد بعرض مشاهد مخلة سرعان ما تتوقف لانقطاع الشريط بسبب كثرة الاستخدام لتتعالى أصوات المتابعين: صفي لا تطفي، بل إن مشاهدة السينما متاحة من خلال محلات تأجير الأفلام السينمائية بأجهزة تشغيلها المنتشرة في حي المربع، كما أن هناك مشهدا مألوفا بوجود جميع الآلات الموسيقية في ركن من حراج (ابن قاسم) في الساحة الواقعة غرب الجامع الكبير بالرياض لدرجة أن هذه الآلات من أعواد وإيقاعات وكمنجات وأسطوانات غنائية وأدوات تشغيل مكائن السينما كانت تعلق على أرفف تستند على جدار الجامع الغربي، بل إن هدايا الحجاج التي يتلقاها الصغار من أقاربهم العائدين من تأدية مناسك الحج كانت جلها من الآلات الموسيقية كالعود والبوص والكامنجا والطبلة، ويتذكر سكان المدينة ممن تجاوز العقد الخامس من العمر أول مكتب للسفر والسياحة الواقع في تقاطع شارع الوزير مع الخزان، كانت تعمل به نساء حاسرات الرأس ويطبعن على الآلة الكاتبة لإنهاء إعداد التذاكر وإجراءات الحجز، وهو امتداد لحضور المرأة في الشركات والمكاتب الأهلية حيث إن النساء من جنسيات عربية وسعوديات يعملن في مجال السكرتارية، كما أن كثيرا من التموينات والبقالات سواء في الشوارع أو داخل المنازل تمارس النساء عمليات البيع فيها بعرض أطعمة أعدت داخل المنازل كالقرصان والمخامير والكليجا والآيس كريم المعد من التوت في قوالب ثلجية.

ولا ينسى سكان الرياض قبل 40 عاما بيت الأفراح الشهير المعروف بـ«بيت أم خلوي» في حي النسيج (منفوحة الجديدة حاليا)، حيث كان البيت بمثابة قصر تقام فيه الأفراح ليلة الجمعة، ويشهد رقصات الزار الشهيرة إحياء للزيجات، بحضور المدعوين من أقارب العروسين والمئات من الفضوليين من النساء والرجال الذين يتراصون ويتدافعون بالمناكب لمشاهدة رقصات الزار، وقرع الطبول، والطيران، بل إن من يحالفه الحظ هو من يجد له موطئ قدم في ساحة القصر.

ومع كل هذه المشاهد والمظاهر التي عدت أمورا عادية فإن مساجد الرياض تمتلئ بالمصلين وجلهم من السعوديين وبعض الجاليات المقيمة، بل إنك لن تشاهد أحدا يسير في الشارع وقت الصلاة سواء بعض الراجلين من منسوبي الرئاسة العامة لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بنجد والمنطقة الشمالية والشرقية وخط الأنابيب (هكذا اسمها قديما) ينبهون الناس وأصحاب المحلات التجارية عدا المخابز بحلول مواعيد الصلاة، وكانت ساحة الصفاة في ذات الوقت تشهد كل جمعة تنفيذ الأحكام الشرعية من قتل الجناة والمجرمين، وجلد شاربي الخمر، والمعاكسين للفتيات، كما أن حي العود يشهد في بعض أيام الجمع تنفيذ حكم الرجم على من يثبت ممارسته للزنا أو تسبب الإقدام على هذا السلوك في جريمة قتل، كأن تقتل العشيقة زوجها بالتواطؤ مع العشيق، وكانت هذه الجرائم محدودة جدا.

وأعاد القرار الصادر مؤخرا من أمير منطقة الرياض بالسماح للعزاب بدخول الأسواق والمجمعات التجارية، وتأكيد رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعدم وجود قرار يمنع هؤلاء العزاب من ارتياد الأسواق وإعلان عن صدور توجيهات تقضي بإحالة كل من يتم ضبطه متلبسا بمضايقة الأسر وتحديدا النساء داخل المجمعات والأسواق التجارية، إلى القضاء، وتفعيل هذه التوجيهات بتطبيق العقوبات على المخالفين، أعاد ذات المشهد الذي كانت عليه الأسواق والتجمعات في الرياض قبل أكثر من 4 عقود حيث ستساهم هذه القرارات في حل إشكاليات كبيرة سببها المنع، ويقضي على الكثير من المخاوف النفسية التي سببها بعض المحتسبين على مرتادي الأسواق في العقود القليلة الماضية، وبين هذه القرارات قصة مجتمع شهد تحولات فجائية يصعب رصد بعضها بسبب أنها تحولات جاءت متباينة بين مد وجزر وصعود ونزول وقبول ورفض، بل إن الأمر وصل بالفعل بين العزاب والأسر إلى حدوث (فوبيا) من المرأة عند الشباب و(رهاب) من الأجهزة التي تلاحق هؤلاء الشباب ذكورا وإناثا حيث يشكل المصابون بالرهاب من الأجهزة التي كانت تمنع الشباب من دخول الأسواق وملاحقتهم والقبض عليهم أو إخراجهم من المجمعات التجارية نسبة من مراجعي العيادات النفسية تصل إلى نحو 7%، مع الأخذ في الاعتبار أن الكثيرين لا يراجعون العيادات النفسية لجهلهم بإصابتهم بالرهاب من رجال الحسبة، إضافة إلى ذلك فإن منع العزاب من دخول الأسواق شهد في السنوات الماضية مواجهة بين الشباب من جهة ورجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو مسؤولي الأمن في الأسواق والمجمعات التجارية من جهة أخرى، مما حدا بالشباب إلى التسكع في الشوارع وعلى الأرصفة أو ممارسة سلوكيات خاطئة كنوع من الاحتجاج على ما يتخذ بحقهم من قرارات انعكست سلبا على نفسياتهم وسلوكياتهم، وما ظاهرة التفحيط والتطعيس بالمركبات إلا وسيلة للتعبير عن الرفض لكل ما يمارس ضد الشباب من منع وملاحقة ووضعهم في موضع الشبهة دائما.

وجاء القرار بالسماح للعزاب بدخول الأماكن التي ترتادها الأسر والنساء ليصحح مفهوما خاطئا لعلاج قضايا وإشكالات تواجه هذه الفئة، هذا مع الإيمان بأن هناك شبابا يمارسون أعمالا مخلة لكنهم قلة، ولا يمكن جعلهم مقياسا ومؤشرا لفئة الشباب ككل كما عبر عن ذلك رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولأن القرار الخاص بالسماح بدخول العزاب إلى مجمعات الأسواق صدر من الرياض التي تحتضن أكثر من 5 ملايين فرد فيجدر بنا رصد مراحل مهمة في تاريخ عاصمة الدولة حيث يعد عام 1319هـ محطة مهمة في تاريخ المدينة ومنعطفا تاريخيا دخلت بعده الرياض مرحلة جديدة، حيث شهد هذا العام دخول الملك عبد العزيز لمدينة الرياض وانطلق منها بعد ذلك لتوحيد معظم أرجاء الجزيرة العربية، وتأسيس الدولة السعودية الحديثة وكان لهذا الحدث دور كبير في تغيير أوضاع الجزيرة العربية ككل، وعامل مهم في النمو الحضاري والاجتماعي لمدينة الرياض وسكانها، وساهم الاستقرار السياسي ووحدة الحكم الذي شهدته المدينة بعد سنوات من غياب هذين العنصرين في دخول الرياض مرحلة جديدة من النمو والازدهار الحضاري في هذه المرحلة لم يكن مجتمع وسط الجزيرة العربية والرياض تحديدا يعرف من المستحدثات سوى المنظار حيث اعتاد السكان طيلة سنوات عمرهم على استعمال المنظار أو ما يطلق عليه السكان «الدربيل» لرؤية الأشياء البعيدة، وعندما بدأ الملك المؤسس مرحلة تأسيس الدولة الناشئة تنفيذ مشاريع إصلاحية في ظل ظروف وإمكانات بالغة الصعوبة وفي وسط مجتمع تقليدي شبه منعزل عن العالم ولا صلة له بالحضارة القائمة آنذاك ولا بالمنتجات الإنسانية باستثناء استهلاكه بضائع قادمة من الشرق أبرزها السكر والأرز والقهوة والهيل وقماش الخام والفناجين الصينية، وتداول عملات أوروبية وهندية وتركية وفارسية، لكن للتاريخ فإن بعض حواضر وسط الجزيرة كانت تعرف أشكالا من التطور الحضاري حيث أشار الرحالة دواتي الذي زار مدينتي بريدة وعنيزة قبل أكثر من قرن في منطقة القصيم وسط الجزيرة العربية بأن بريدة مدينة أكثر حضارة وحرية من الشام حيث الرجال والنساء يمارسون عمليات البيع والشراء جنبا إلى جنب في سوقها العامة، وأن هناك العشرات من المطاعم تقدم السجق «النقانق»، في حين وصف عنيزة القريبة من بريدة وصفا لا يبعد عما قاله أمين الريحاني لاحقا بأنها باريس نجد، حيث أشار دواتي إلى أن النخب في عنيزة يلبسون البنطال ويعتمرون الطرابيش وربطة العنق (الكرافتة) كما أن بعض السكان يتابعون «المقطم المصرية» التي تعد أقدم مجلة في المنطقة العربية وصدرت قبل 125 عاما أيام الخديو إسماعيل مع مجيء الاحتلال البريطاني وهي بداية مرحلة جديدة في الصحافة المصرية حيث أصدر يعقوب صروف وفارس نمر وإسكندر مكاريوس صحيفة «المقطم» عام 1888 وتحولت إلى مجلة وتوقفت عام 1952، حيث إن الكثير من سكان عنيزة تصلهم الصحيفة أو المجلة بالاشتراك، كما أن معروضات المحلات التجارية في عنيزة قبل أكثر من قرن تحتوي أدوية وبعض الأدوات المدرسية كالحقائب والكراريس، كما عرف التجار العقود ودفاتر اليومية، كما عنونت دفاتر ومستندات التجار بأرقام التلغراف والصناديق البرقية، في حين كان السجق «النقانق» تباع في عشرات الأكشاك في بريدة وهي ثقافة جلبها العقيلات الذين انطلقوا من القصيم في رحلات تجارية حول العالم وبالذات بلدان شمال وشرق وغرب الجزيرة العربية واستقر بعضهم في تلك الدول.