المصارف المركزية ودورها في تهدئة المخاوف

أزمة أوروبا نقطة ارتكاز تمحورت حولها الأسواق العالمية على مدى عامين

مقر البنك المركزي الأوروبي في فرانكفورت بألمانيا (رويترز)
TT

تواجه أوروبا مأزقا جديدا، لكن لم يمتد تأثيره إلى الأسواق المالية العالمية هذه المرة، مما يمثل تغييرا كبيرا. وعلى الرغم من مساهمة الأحداث التي شهدتها الولايات المتحدة في حدوث واحدة من أكثر مراحل الأزمة المالية حرجا، ومن أبرزها انهيار مصرف «ليمان براذرز»، كانت الأزمة التي تشهدها أوروبا بمثابة نقطة ارتكاز تمحورت حولها الأسواق العالمية على مدى العامين الماضيين. وقال ستيسي ويليامز، أحد المخططين الاستراتيجيين في مصرف «إتش إس بي سي» في لندن، خلال مكالمة هاتفية الأسبوع الماضي: «لقد شاهدنا تناغما بين الأسواق العالمية بشكل مذهل. وتعد المخاوف من احتمال حدوث انهيار في أوروبا من العوامل الأساسية في ظاهرة التأرجح بين القيام بمخاطرات استثمارية والإحجام عنها».

وأشار إلى وجود رقابة كبيرة على الأسواق العالمية واستمرار تأرجحها، بحسب التقديرات الخاصة بالمخاطر على المدى القصير. مع ذلك، لم تستجب الأسواق العالمية إلى الأحداث في أوروبا حتى هذه اللحظة، حيث يبدو أن المتداولين لم يقرروا بعد زيادة رهاناتهم أم الهروب.

وتتخذ الأسواق حتى هذه اللحظة موقفا متحفظا. بالطبع لن يزدهر الاقتصاد الأوروبي فجأة، بل على العكس من ذلك، تشير الإحصاءات الحكومية التي نشرتها لندن الأسبوع الماضي على سبيل المثال إلى أن برنامج التقشف المالي البريطاني ساعد في تراجع اقتصاد البلاد إلى مرحلة ركود. وفي حين توجد فيه بعض جوانب تنم عن الرخاء، عانى اقتصاد الاتحاد الأوروبي بشكل عام من الانكماش خلال الربع الأخير من عام 2011، بحسب «يوروستيت». ويعتقد الكثير من المتابعين أن المنطقة مقبلة على فترة من الركود الاقتصادي. وأدت المعاناة الاقتصادية والتقشف المالي إلى سقوط الحكومة الهولندية، الأسبوع الماضي، وتمثل تهديدا لفرص فوز ساركوزي بفترة رئاسية أخرى أمام منافسه المرشح الاشتراكي فرانسوا هولاند. وتراجعت عائدات السندات الحكومية في إسبانيا، التي وجدت نفسها في خضم الأزمة الأوروبية، بنسبة 6 في المائة، وهو ما يمثل مؤشرا يدل على مواجهتها لاضطرابات خطيرة. ومن المقرر أن يتم تنفيذ خطط إنقاذ مالي في اليونان وآيرلندا والبرتغال، بينما لم يحسم أمر إيطاليا بعد. ترى ماذا سيكون رد فعل الأسواق العالمية؟ التنهد وهز الكتفين. وارتفعت أسعار الأسهم الأسبوع الماضي في بورصات لندن وباريس وفرانكفورت بفضل الرسائل المطمئنة التي أصدرها مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وكذلك في نيويورك. وقال لاري كانتور، رئيس البحث في مصرف «باركليز»، إن البنك المركزي الأوروبي مسؤول إلى حد كبير عن استجابة السوق الحميدة لآخر مشكلات أوروبا. وقال إنه خلال شهر مارس (آذار)، ضخّ البنك المركزي 1.153 تريليون يورو أي ما يعادل نحو 1.52 تريليون دولار في القطاع المصرفي الأوروبي، وتم استخدام الجزء الأكبر من هذا المال لشراء سندات حكومية، مما أدى إلى خفض العائدات وتخفيف الضغط على الحكومات المتعثرة والاقتصاد الأوروبي بوجه عام. وقال كانتور: «كان هناك خطر في نوفمبر (تشرين الثاني) من حدوث جمود ائتماني حقيقي». وأوضح أن امتناع المصارف عن منح قروض سيدخل دول منطقة اليورو في حالة من الركود الاقتصادي. وأكد أن ضخ البنك المركزي الأوروبي لهذه الأموال كان ضروريا، وساهم إلى حد بعيد في الحيلولة دون وقوع كارثة».

وأضاف أن أوروبا ستظل تحاول حل مشكلاتها المالية لسنوات، لكن هذا النهج البراغماتي الذي تبناه البنك المركزي الأوروبي بقيادة رئيسه الجديد، ماريو دراغي، كان باعثا على الراحة في الأسواق. وأوضح قائلا: «لقد تم تفادي المخاطر الهامشية على الأقل على المدى القصير». وليس من تلك المخاطر تقليل التحديات الرئيسية المقبلة عليها أوروبا التي تتغلب فيها النزاعات على حكمة التقشف المالي الذي يهدف إلى تخفيف عبء الديون الحكومية. من الحلول التي يفضلها هولاند في فرنسا الحلول الكينزية ومن ضمنها تقديم الحكومة لحوافز تهدف إلى تعزيز النمو وعائدات الحكومة.

تغير خطاب دراغي، الذي كان من أشد أنصار التقشف، الأسبوع الماضي، قليلا، حيث دعا إلى «اتفاق نمو» بالتوازي مع الاتفاق المالي للاتحاد الأوروبي الذي يضع حدودا لعجز الميزانية والديون الحكومية. وقال دراغي أمام أعضاء البرلمان الأوروبي في بروكسل: «نحن بحاجة إلى المزيد من التأمل للتوصل إلى حل طويل المدى للأزمة الأوروبية مثلما فعلنا في الماضي واللحظات الحاسمة في تاريخ الاتحاد». وأوضح أنه توقع «إصلاحات هيكلية» هدفها زيادة تنافسية اقتصاد الدول الأوروبية بدلا من زيادة إنفاق الحكومات. ويعد هذا نهجا تفضله المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. وتواجه الولايات المتحدة قضايا مشابهة، لكن الاقتصاد الأميركي ينمو بخطى أسرع من نمو الاقتصاد الأوروبي، وإن لم يكن قويا. وازداد إجمالي الناتج المحلي بمعدل سنوي قدره 2.2 في المائة خلال الربع الأول بحسب البيانات التي أصدرتها وزارة التجارة يوم الجمعة الماضي. ويعد هذا أقل من توقعات «وول ستريت». ودفع ضعف الاقتصاد صناع السياسة يوم الأربعاء إلى التأكيد على التزامهم بإبقاء أسعار الفائدة على القروض قصيرة الأجل إلى مستوى قريب من الصفر وهو «مستوى منخفض بشكل غير معتاد» لفترة أطول. لم يشرعوا في تنفيذ أي برامج غير تقليدية جديدة لتحفيز النمو الاقتصادي، لكن بحسب حسابات «باركليز» قام مجلس الاحتياطي الفيدرالي بزيادة الموازنة بـ2.35 تريليون دولار في إطار إجراءاته الخاصة بالتخفيف الكمي. وكان لعمليات الموازنة، على رأسها أقل سعر فائدة، تأثير محفز يصل إلى حد المعادل النظري لسعر فائدة المجلس الاحتياطي الفيدرالي المعياري الذي يبلغ سالب 4 في المائة تقريبا، بحسب توماس لام، الخبير الاقتصادي في «أو إس كيه - دي إم جي غروب» في سنغافورة.

من الواضح أن صناع السياسة في مجلس الاحتياطي الفيدرالي لا يزالون قلقين ومتأهبين على الرغم من أن تقديرهم للاقتصاد المحلي أكثر تفاؤلا من توقعاتهم السابقة في يناير (كانون الثاني)، حيث توقعوا الأسبوع الماضي ارتفاع متوسط إجمالي الناتج المحلي بنسبة 2.65 في المائة عام 2012 بزيادة 0.2 في المائة عن تقديراتهم في يناير (كانون الثاني). وتوقعوا أن يظل معدل التضخم أقل من المستوى الذي حدده المجلس الاحتياطي الفيدرالي للعام الحالي وهو 2 في المائة. كذلك توقعوا انخفاض معدل البطالة قليلا بحيث يصل إلى 7.9 في المائة عن المعدل الحالي البالغ 8.2 في المائة بحسب إحصاءات مجلس الاحتياطي الفيدرالي التي جمعها مركز أبحاث الاستثمارات التابع لـ«يو بي إس». وقال بن برنانكي، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، في مؤتمر صحافي يوم الأربعاء إن البنك المركزي «لن يتردد» في اتخاذ أي إجراءات لازمة لدعم الاقتصاد. وقال كانتور إن الأسواق قد تنظر إلى هذا الوعد باعتباره «امتدادا لطرح برنانكي»، وهو ضمان بالتدخل في حال تدهور الوضع يبعث الطمأنينة في نفوس المتداولين.

* خدمة «نيويورك تايمز»