«فاتنة بغداد» في شيخوختها تعاني العزلة وإهمال الحكومة

المطربة عفيفة إسكندر جمعت الملكيين والجمهوريين في حفلاتها وكرهها عبد السلام عارف

صورة أرشيفية من إحدى حفلاتها في أواخر الستينات («الشرق الأوسط») وصورة لعفيفة إسكندر تعود إلى بضع سنوات خلت قبل أن تتدهور حالتها
TT

في ركن منزو، بعيدا عن معجبيها وفنها وتاريخها الحافل، ارتضت المطربة العراقية (فاتنة بغداد) عفيفة إسكندر، مضطرة، أن تقضي ما تبقى لها من العمر وحدها، في طابق ثان لشقة صغيرة وفي وضع صحي يزداد سوءا يوما بعد يوم، تشكو ابتعاد الجميع عنها وجفاء الحكومة لها، بعد أن قطع راتبها الشهري، ولم يتبق من معين لها سوى رفيقتها (أم عيسى) التي ترعاها كابنة لها، برغم ما تعانيه من قصر ذات الحال.

«الشرق الأوسط» زارت عفيفة في شقتها الكائنة في الطابق الثاني لعمارة سكنية قديمة، في منطقة الكرادة الشرقية ببغداد، واطلعت على حال معيشتها الصعب، لم تكن قادرة على الكلام، لكنها أومأت لنا بابتسامة ترحيب جميلة، وهي التي أمتعت الملايين، وشكلت جزءا مهما من تاريخ العراق الفني والاجتماعي والأدبي معا، وكان مجلسها الثقافي أحد أهم المجالس الأدبية في فترة الخمسينات والسيتنات من القرن الماضي، يجمع الشخصيات البارزة ويرتاده ملوك ورؤساء وأدباء ذلك الزمان، وهي الوحيدة التي غنت القصيدة من مطربات بغداد.

عفيفة إسكندر وقد تجاوز عمرها 93 عاما، تقبع الآن في شقة صغيرة، ومتواضعة، اعتزلت العالم بعد أن اعتزلها الآخرون، وبعد أن فقدت كل ما حصلت عليه خلال سنوات عملها لعلاج نفسها وتأمين حياتها، وصارت تعتاش هي ومعيلتها على ما يردها من راتب شهري خصص لها من رئاسة الجمهورية قبل نحو عام، لكنه قطع عنها بدعوى انتهاء المنافع الاجتماعية للرئاسة العراقية! وكذلك الحال مع راتب يسير خصصته لها وزارة الثقافة العراقية أيام استيزار مفيد الجزائري للوزارة، وهي اليوم تواجه خطر الجوع والمرض والموت أيضا بسبب هذا الإهمال.

جارتها ومعيلتها ورفيقتها الوحيدة نهرين بيلس يوحنا، والمعروفة بـ(أم عيسى) قالت لـ«الشرق الأوسط» لقد «قضيت مع عفاوي (هكذا تناديها) أكثر من ست سنوات، لكن وضعها يزداد سوءا، وأتحمل وحدي مسؤولية رعايتها صحيا واجتماعيا، لا أحد يزورها وليس لها أهل أو أقارب، ومنذ أن رقدت في الفراش بدأت أجد مشقة كبيرة في مراعاتها وحدي، فهي لم تعد قادرة على الحركة».

وفي ردها عن سؤالنا في ما إذا كانت تحصل على راتب من الحكومة لرعايتها لعفيفة، قالت: «ليس هناك من يعطيني راتبا، بل ليس هناك من يمنح الفنانة الكبيرة أية مخصصات مالية، فأنا أرعاها منذ فترة، كأنها أمي، وأنا لا أستطيع تركها».

وعن كيفية قضاء يومها، تقول أم عيسى: «عفاوي تقضي معظم ساعات يومها بالنوم، وهي لا تعلم شيئا عما يدور حولها، ولكنها تفهم ما أقوله لها بحكم عشرتنا، عفيفة من مواليد 1921 حسب هوية الأحوال المدنية، في الليل تصحو وتصر على مشاهدة التلفاز، وتصر على إبقائه مفتوحا لأنها تخشى النوم في الظلام».

وعن ذكرياتها القديمة ومقتنياتها وأرشيفها، تقول أم عيسى: «في السنوات الأخيرة، كانت عفيفة تبيع أغراضها ومقتنياتها الثمينة كي تؤمّن عيشتها وإيجار بيتها وتكاليف علاجها، لا تملك بيتا ولا حسابا مصرفيا، ولم يتبق من تراثها القديم سوى لوحتين من صنع يديها، وأرشيف صغير لصورها القديمة وبعض ما كتب عنها في الصحافة، وفي إحدى السنوات، منحها وزير المالية السابق بيتا للسكن، لكن اتضح أنه بيت قديم يحتاج للإعمار، واشترط علينا مالكه أن يستلمه وقتما شاء، لذلك رفضنا تسلمه». وعن ما يقوله الأطباء عن حالتها الصحية، تقول أم عيسى: «عفيفة لا تدرك شيئا مما يدور حولها الآن، وهي لا تقدر على الكلام أيضا، فقط تومئ لي بإيماءات أفهمها أنا فقط، وهي تقريبا مصابة بمرض (الزهايمر)، وأستعين بنفسي لإجراء بعض التحاليل الطبية لها، وأجلب لها طبيب اختصاص كل فترة ليفحص حالتها، وأحيانا ألجأ إلى طلب الإسعاف الفوري كي تكون الإسعافات سريعة».

واستدركت قائلة، «كل المشاهير في العالم ينالون حظهم من العناية في أواخر أيامهم، ومن المفترض أن تخصص الدولة كادرا طبيا للعناية بعفيفة، كما نسمع عن المطربة اللبنانية صباح وهي تعيش شيخوختها، لكن السياسيون اليوم لم يعد يهمهم أحوال أهل الفن والأدب في البلاد». وعن ما تحبه وما تفضله عفيفة حتى الآن، قالت أم عيسى: «عفيفة لم تزل تفرح إن اعتنيت بها وصبغت لها شعرها أو صففته لها، وأقوم حتى الآن بالاهتمام بيديها، وأصبغ لها أظافرها بالطلاء دائما، وتابعت العام الماضي حلقات مسلسل تلفزيوني عراقي، يحكي قصتها، حمل عنوان (فاتنة بغداد)، لكنها لم تكن راضية عن بعض تفاصيله. وعن حكاياتها الشخصية وأسرارها، قالت أم عيسى: «عفيفة لا تبوح بأسرارها لأحد، وهي (سرانية)، وحتى قصة زواجها الذي لم يستمر طويلا، فقد اختزلت الحديث عنه بأنها ضاقت ذرعا به وطلقت زوجها، وهي لم تنجب منه طبعا، كما أنها أخبرتني أن لها أختا تسكن الكويت، لكن لم يحصل أن اتصل أحد بها».

تقول أغلب المصادر إن عفيفة ولدت في الموصل عام 1921 من أب عراقي مسيحي وأم يونانية. وعاشت في بغداد. غنت في عمر خمس سنوات وكانت أول حفلة أحيتها بعمر 8 سنوات في أربيل. لقبت بـ(مونولوجست) من المجمع العربي الموسيقي، كونها تجيد ألوان الغناء والمقامات العراقية.

وهي من عائلة مثقفة فنيا، والدتها كانت تعزف على أربع آلات موسيقية، تزوجت وهي في سن الـ(12) من رجل عراقي أرمني يدعى «إسكندر أصطفيان» وهو عازف وفنان قدير وكان عمره يتجاوز الـ(50) عاما عندما تزوجا، ومنه أخذت لقب «إسكندر».

ظهرت لأول مرة على المسرح في مطعم صغير بمدينة أربيل في أواسط الثلاثينات، وكانوا يسمونها (جابركلي) أي «المسدس سريع الطلقات».. وأتت هذه التسمية من صفة الغناء الذي أدته، حيث الغناء السريع نتيجة لصغر سنها وعدم نضوج صوتها آنذاك.. وأول أغنية غنتها في أربيل كانت بعنوان (زنوبة) وهي بعمر 8 سنوات.

بدأت مشوارها الفني عام 1935 في الغناء في نوادي بغداد، مثل (الجواهري) و(الهلال) و(كباريه عبد الله) و(براديز).. علما أن الملاهي كانت سابقا أفضل من النوادي الاجتماعية الموجودة حاليا. واستطاعت عفيفة بنباهة تحسد عليها أن تتعلم وتتأقلم مع أجواء الفن.. وبسرعة، تحولت إلى نجمة من نجوم الفن، كانت حينها شابة جميلة وذكية جدا. والتفت حولها شخصيات مهمة وذات مكانة اجتماعية.. وغنت لهم المونولوغ لمدة (5 - 6) دقائق باللغة التركية والفرنسية والألمانية والإنجليزية، وعملت مع الفنانة (منيرة الهوزوز) والفنانة (فخرية مشتت)..

سافرت إلى القاهرة عام 1938 وغنت هناك وعملت لمدة طويلة مع فرقة (بديعة مصابني) في مصر وهي أشهر راقصة وممثلة مصرية في الأربعينات.. وكذلك عملت مع فرقة تحية كاريوكا.. وأبرز مشاركاتها العربية هي التمثيل في فيلم (يوم سعيد) مع الفنان الراحل الكبير محمد عبد الوهاب وفاتن حمامة وغنت فيه، لكن لسوء الحظ لم تظهر الأغنية عند عرض الفيلم بسبب المخرج الذي حذفها لطول مدة العرض التي تجاوزت الساعتين.. ومثلت في أفلام أخرى في لبنان وسوريا ومصر.

كانت المغنية الأولى في العصر الملكي وكان كبار المسؤولين في الدولة العراقية من ملوك وقادة ورؤساء ووزراء يطلبون ودها ويطربون لصوتها ويحضرون حفلاتها من دون حياء. فالملك فيصل الأول كان من المعجبين بصوتها. أما نوري السعيد، رئيس الوزراء في العهد الملكي، فقد كان يحب المقام والجالغي البغدادي وكان يحضر كل يوم اثنين إلى حفلات المقام ويحضر حفلاتها. وعبد الكريم قاسم أيضا، كان يحب غناءها ويحترمها. ولكن عبد السلام عارف كان يحاربها ويضيق عليها حسب وصفها، وتقول إنه كان يتهمها بدفن الشيوعيين في حديقة بيتها.

لم تغن عفيفة لقادة الثورة ولم تطلب منها الملكية أن تغني لها رغم أنها كانت على صلة وثيقة بها، وإنما كانت تغني في عيد الجيش وغنت لفيصل الثاني، ولهذا أهملت وغيبت في عهده وما زالت مغيبة، وتقول متعجبة: «أعجب على الناس قالوا للملك لا نصدق أن نراك عريسا وبعد أسبوع واحد من هذا الكلام قتلوه».