جبل علي.. ميناء أسطورة فيه تتمازج ثقافات العالم

من قرية صغيرة منزوية على البحر إلى أكبر ميناء في الشرق الأوسط

إحدى السفن راسية في ميناء جبل علي («الشرق الأوسط»)
TT

من قرية صغيرة منزوية على تلة رملية مطلة على البحر في دبي، بدولة الإمارات العربية المتحدة إلى أكبر ميناء في الشرق الأوسط. هذه هي الحكاية.

يقف جبل علي، أو مرصد علي، كما يطلق عليه الناس، إلى جانب كبريات المناطق الحرة مثل جبل طارق وبور سعيد وموانئ عالمية شهيرة أخرى. وخلال سنوات قليلة، تحول هذا الميناء العجيب إلى جسر لتجارة اللؤلؤ والتوابل والسلع، واستطاع أن يحقق أعلى الإيرادات بين موانئ العالم.

كانت منطقة جبل علي شاطئا رمليا مهجورا في عام 1976 يرتاده بضعة صيادين يحملون شباكهم أملا بصيد سمكة هامور أو لؤلؤة تائهة. ومن بينهم، اعتاد أن يقصدها صياد اسمه علي فيعتزل فيها بعيدا عن دبي، فأصبحت التلة باسمه. وسرعان ما تحولت إلى «جبل شاهق» في أذهان الناس! وفي غضون سنوات قليلة تحول الجبل إلى مرصد وبرج مراقبة تهتدي إليه السفن والبواخر الباحثة عن ملاذ آمن.

هكذا بدأت حكاية هذا الميناء الشهير عندما استيقظ المهندس البريطاني نيفيل ألن الذي جاء إلى دبي عام 1958 ممثلا لشركة «هالكرو»، في الساعة الخامسة من صبيحة أحد الأيام في منتصف سبعينات القرن الماضي على رنين الهاتف.

جاءه يومذاك صوت على الطرف الآخر يخبره بأن حاكم دبي يريد أن يراه في منطقة جبل علي فورا. انزعج نيفيل ألن من الطلب المفاجئ، لكنه أسرع إلى حيث التلة الصغيرة ليجد المغفور له بإذن الله الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم وبعض حاشيته في انتظاره. وأشار الشيخ راشد بيده ناحية الساحل القريب، قائلا «هناك أريد إنشاء الميناء». وبطريقته الخاصة شرح لألن فكرته ثم طلب معرفة التكلفة التقديرية للمشروع، فأعطاه ألن رقما تقريبيا بتكلفة المشروع تحت إصرار الشيخ راشد. ثم قال له المهندس البريطاني: «ولكن، متى نبدأ العمل يا سمو الشيخ»؟ فأجابه الشيخ راشد «فورا»! وحسب وصف نيفيل ألن «كان الشيخ راشد إنسانا ذكيا بدرجة غير عادية، ويعمل بسرعة البرق، وبالفعل أنجز مشروع الميناء في غضون أربع سنوات فقط!».

يومذاك، ما كان في دبي سوى ميناء راشد الصغير، حيث افتتح الشيخ راشد أول شركة صناعية، وهو يشعل «المدواخ» المحشو بتبغ كان يضعه في علبة أسبرين قديمة، وسط حشد من المحتفلين.

هذه الصورة لا تغيب عن ذهن العامل مهابير سنغال (70 سنة)، أقدم موظفي موانئ دبي العالمية التي كانت آنذاك جزءا من دائرة الموانئ والجمارك، ولقد جاء ليعمل في عام 1977 مع شركة «كليفلاند بريدج» بعدما أمضى فترة عمل في بريطانيا.

عندما تدخل جبل علي من البوابة الرئيسية من جهة شارع الشيخ زايد، يخيل إليك بأنك تدخل إلى معسكر.. ولكن من دون جيش، فالجنود هنا عمال يرتدون البذلات البرتقالية اللون جاءوا من أصقاع الأرض للعمل في الميناء، وغالبيتهم من الفلبينيين والهنود والنيباليين والآسيويين الآخرين. ومع هؤلاء بحارة وميكانيكيون وعمال صيانة سفن.. يترجلون من البواخر العملاقة الراسية قبل أن يهم العمال بتحريك الرافعات (الكرينات) نحو الأرصفة من أجل إنزال الحاويات التي تزن أطنانا.. آتية من أنحاء العالم.

هانجي، أحد الموظفين العاملين في شركة «ليبتون» للشاي، قال «الفكرة الشائعة أن شاي (ليبتون) يأتي من سيلان (سريلانكا)، لكنه في الواقع يأتي من جبل علي.. من بناية ضخمة كتبت عليها كلمة (ليبتون) بالأصفر والأحمر، وافتتحت عام 1998، فيها 32 ماكينة تعمل باستمرار، وباستطاعة كل منها إنتاج 100 عبوة شاي في الدقيقة الواحدة».

أما اللبناني جوزيف، الذي يعمل في شركة «سيركو» للخدمات، فقال لنا «عملنا يعتمد على توصيل البضائع والسلع، وخاصة، للحكومات والزبائن». وأما حسن، وهو مغربي الجنسية ويعمل في شركة «رويال كوول» للتبريد، فشرح قائلا إن «أعمال التبريد تلقى المزيد من الطلب، وخاصة من البلدان الأفريقية، والشركة تقوم بكل التجهيزات».

هنا في جبل علي تنتشر نحو 5 آلاف شركة لأنها منطقة حرة، حيث يمكن نقل البضائع منها إلى بعض أسواق الشرق الأوسط في فترة قياسية لا تستغرق سوى 24 ساعة، وإلى أبعد ميناء في المنطقة أكثر من 48 ساعة. كذلك لا يستغرق الوصول إلى موانئ جنوب شرقي آسيا سوى 9 ساعات. ويمكن الوصول إلى الموانئ اليابانية خلال 20 يوما. ومن هنا تأتي أهمية جبل علي حيث تتعامل أكثر من 120 شركة بحرية، من ضمنها أغنى 500 شركة كبرى في العالم.

غير أن الميناء لا يتوقف عند هذا الحد، فعمليات التطوير جارية على قدم وساق. وهنا أشار المهندس سكوت ويلسون إلى أنه «من المؤمل أن تنتهي توسيعات المنطقة الحرة بحلول 2030، إذ لا يزال الميناء يفتقر إلى شريان حيوي هو الطيران ليستكمل البنية المتشابكة برا وبحرا وجوا». واستطرد «ستكون الطاقة الاستيعابية لمطار جبل علي الدولي أكثر من 120 مليون مسافر سنويا، ناهيك عن الحجم الضخم للشحن. وكان غرايم ويلسون، من جانبه، قد وصف في كتابه «راشد بن سعيد آل مكتوم الوالد والباني» ميناء جبل علي بأنه «أضخم ميناء من صنع الإنسان، وثاني أضخم مشروعين أنجزهما الإنسان على وجه الأرض، بعد سور الصين العظيم، يمكن رؤيتهما من على سطح القمر».