سائقو «الثقيل»: ما في القلب لا ينطقه اللسان.. يفضحه «الصدام»

شفافون يعيشون كـ«غرباء أو عابري سبيل»

قيادة الشاحنات لم تعد مهنة صعبة على السائقين كما كانت منذ نحو عقدين («الشرق الأوسط»)
TT

حاول النظر إلى ما وراء القالب الخارجي المعروف لسائقي شاحنات النقل أو ما يسمى في اللهجة السعودية الدارجة «الثقيل» شارب مفتول وأعين حمراء وهيكل عملاق، وتجاوز النظرة النمطية التي تصورهم أصلابا أو أشرارا، لترى حقيقة رائعة وواقعا مختلفا كليا.

فخلف تلك الهيئة التي توحي بالقسوة، قلوب بيضاء ناصعة غسلها العناء وكثرة الترحال، وشفافية صارخة تنطق في كل ما يحيط بهم. حتى الأشياء تحكي ما يضمرونه، فتفضح العبارات التي تحملها «صدامات» شاحناتهم الضخمة ما تخبئه تلك الصورة خلفها من مشاعر فياضة وبساطة متناهية تصل أحيانا حد الدروشة.

والعبارات التي لا يكاد يخلو منها هيكل شاحنة أو سيارة نقل أيا كانت جنسية سائقها؛ تعتبر السمة الأكثر اشتراكا بين جميع العاملين في هذه المهنة القاسية، تنطلق من الإيمان العميق إلى السخرية اللاذعة مرورا بتعبيرات الحب والوفاء والحزن والخيبة والانكسار والصبر والقوة.

وربما كانت هذه الأحاسيس العميقة نابعة من تطبيقهم الفعلي البعيد عن الوعظ والتنظير لعبارة: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»، إذ إنها تصف بإيجاز بليغ طريقة عيشهم كغرباء عابري سبيل دائمي التنقل، وكل المدن بالنسبة لهم لا تعدو كونها محطات عبور إلى مدن أخرى. لا استقرار إلا لراحة خاطفة أو لالتقاط الأنفاس ثم تتواصل الرحلة من جديد.

وهذه المعاني هي أكثر ما يتشوق إليه العم سوادي، الذي قرر البحث عن عمل حكومي، بعد أن اعتزل المهنة بسبب الكبر وضعف النظر، مؤكدا أن العمل في مهنة قيادة شاحنات النقل أو «الثقيل» كما تسمى في السعودية لطالما كان مرهقا ومتعبا ومليئا بالمشاق التي تستنزف صحة الشخص وحواسه بسرعة كبيرة.

ويستدرك العم سوادي: «إلا أنه رغم كل هذه المشاق كان يعني متعة كبيرة، إذ يجسد بساطة الحياة في أعمق صورها، فلا شيء يشغل الإنسان خارج شاحنته التي يقودها، كما تمنحه نظرة جديدة مختلفة للحياة ومعاني الصداقة والنخوة والفزعة»، كأنها تترجم النظرة البعيدة التي يعتادها سائق الشاحنة عند قطعه السكك الطوال إلى نظرة فكرية بعيدة للحياة.

أما العم أحمد الأحمر وهو أيضا متقاعد يعيش في مدينة جدة غرب السعودية، فيتذكر جمال المهنة وبساطتها بأسى، من دون أن يخفي سخطه على ما يصفه بـ«أخلاق هذه الأيام»، مختارا لإثبات سوئها مثلا من صميم مهنته التي ما تزال تسكنه إذ يقول: «يقف الشاب والشيخ والمرأة والطفل، بل وحتى الجريح أو المعوق تحت أشعة الشمس الحارقة فلا تتوقف له سيارة واحدة سوى سائقي الأجرة اللاهثين خلف المال».

ويضيف: «لقد كنا نتوقف لكل عابر سبيل صغيرا كان أو كبيرا، وسأقول لك وإن كنت لن تصدقني إن زملاء لنا نثق في رجولتهم وصدق كلمتهم التي لا يغيرها الموت أخبروا أنهم توقفوا أحيانا في مناطق نائية وأقلوا أشخاصا ثم اتضح لهم بعد أن أوصلوهم أنهم ليسوا بشرا بل من إخواننا الجن، غير أن ذلك لم يجعلهم يخشون التوقف ثانية لعابر طريق أو يترددون في مساعدة أي شخص في أي مكان وجدوه».

ويؤكد العم أحمد قائلا: «لم تعد مهنة قيادة شاحنات النقل مهمة صعبة مقتصرة على فئة محدودة من السائقين السعوديين النادرين كما منذ نحو عقدين، بل أصبحت مهنة مشاعة ومبتذلة والكل يدعيها، وبات مالكو الشاحنات لا يقودون سياراتهم كما في السابق بل يسلمونها لسائقين وافدين من بلدان شتى من العالم وخصوصا من شرقه، وبعضهم لا يفقه للطرق أصولا ولا للمركبة مزاجا.

كانت للسائق هيبة يقول العم سوادي متنهدا: «لا أصدق كيف تحولت هذه المهنة بهذه الطريقة، أذكر أننا نحن سواقي الثقيل كنا ملوك الطرق فعلا وكل مالك سيارة لديه صبي معاون يحضر له الشاي ويعد له وسائل الراحة، وعندما كنا ننزل في محطة أو مقهى أو مطعم يوسع لنا، وتحضر لنا أطيب المفارش والسجاد وألذ الأطعمة، فضلا عما نجده من توقير واحترام، أما اليوم فكل ذلك انتهى».