أساتذة في القانون يحاكمون «روبن هود» في ألمانيا

يعيدون تمثيل الحكايات الخيالية والأساطير في فصول من دروس القانون

روبن هود.. هل هو مذنب أم بريء؟
TT

ما يجري حاليا في كلية الحقوق في جامعة كولون لم يخطر حتى على بال كتاب السيناريوهات في هوليوود. فأذهان الأساتذة والطلبة، وبهدف التدريب العملي والعلمي، تفتقت عن فكرة إقامة المحاكم القانونية على كثير من الشخصيات الأسطورية وأبطال الحكايات الشعبية، ومن منظار عالم اليوم، الذي يأخذ ظروف وتاريخ الحدث بنظر الاعتبار.

ليس بيننا أحد لا يتعاطف مع المغامر الشجاع روبن هود وهو ينتزع المال من الأغنياء ليوزعه على الفقراء، ولا يخفي أحد سروره وهو يقرأ خاتمة قصة «الأميرة والأقزام السبعة» (الأخوان غريم)، وكيف فشلت محاولة الساحرة الخبيثة في تسميم الأميرة النائمة. بل قد يقشعر بدن البعض لقصة «هينزل وغريتل» (الأخوان غريم أيضا)، وكيف فشلت الساحرة العجوز في التهامهما، وكيف طبخاها لاحقا في الفرن.

لكن طلبة وأساتذة كلية الحقوق في كولون يسألون عما لم نجرؤ يوما أن نسأله، ويحاولون إيجاد المبررات القانونية، ويتراشقون بالحجج، لإثبات ما إذا كان أبطال هذه القصص، وقصص أخرى غيرها، هم من المجرمين أم من المظلومين والأبرياء. وكل ذلك في ممارسات هدفها تدريب الطلبة، وتتطلب دراسة الأمور بدقة، وتحضير الحجج القانونية، ومناقشة القضاة حول منطلقاتهم وأدلتهم.

فضلا عن ذلك فقد تبرع عشرات الطلبة للقيام بالأدوار المناسبة، وإعادة تمثيل «وقائع الجريمة» بهدف تقريب وجهات النظر واثبات الأدلة.. إلخ. هذا، بعبارة أخرى، يعني تحويل جلسات المحاكم، إلى مسارح يتنكر فيها بعض الطلبة بأزياء أبطال القصص، ويرتدي طلبة آخرون ملابس القضاة، ويطلق القضاة «سهام» مرافعاتهم ضد البطل بالطاقية الخضراء روبن هود.

سيحاكم الطلبة روبن هود، من منطلقات اليوم، وبمنظار القرون الوسطى، بتهمة تشكيل منظمة إجرامية، والسرقة، وخرق القانون. ويحاكم طلبة آخرون الساحرة في قصة الأميرة النائمة بتهمة «محاولة» القتل العمد عن طريق السم، وينبري آخرون للدفاع عن هينزل وغريتل بتهمة قتل الساحرة العجوز في الفرن، ويتصدى لهم طلاب آخرون بدعوى أن القتل حدث دفاعا عن النفس.

وعمليا، جلس البروفسور الأستاذ كلاوس كريس، بروفسور مادة القانون في جامعة كولون، في قفص الاتهام وهو يرتدي الطاقية الخضراء ويحمل جعبة السهام، تاركا للبروفسور كورنيليوس نيستر مهمة الدفاع عنه. البروفسور توماس فايغند جلس أيضا في قفص الاتهام محل الملكة الشريرة في قصة «الأميرة النائمة»، في حين تولى الطلاب مهمة الدفاع عنه، وتولى أساتذة آخرون مهمة النيابة العامة. وجلس طالبان في المرحلة النهائية في قفص الاتهام يمثلان الطفلين هينزل وغريتل في دفاعهما عن تهمة القتل بدعوى الدفاع عن النفس. هذا فيما تولى البروفسور كريس مهام النيابة العامة.

ونرى هنا ضرورة العودة إلى ملخصات هذه القصص كي نستطيع فهم ما جرى فيها.

فقصة الأميرة والأقزام السبعة، أو «الأميرة النائمة»، هي الترجمة العربية لقصة «ناصعة البياض»، أو «بياض الثلج» التي كتبها الأخوان غريم في القرن التاسع عشر. وتتحدث القصة عن ملك وملكة لا أولاد لهما، وتتمنى الملكة في يوم تتساقط فيه الثلوج، أن تكون لها ابنة ناصعة البياض كندف الثلج. وتستجيب السماء إلى دعواتها وتمنحها ابنة جميلة وناصعة البياض كالثلج.

إلا أن ساحرة شريرة تتربص بالأبوين وتقتلهما كي تنصّب نفسها ملكة على البلد. لا تقتل الساحرة الفتاة ناصعة البياض، لكنها تبدأ بالغيرة من جمالها وبياضها، وهي قد أصبحت ابنة 17 ربيعا، فتبيت لها الشر. تسأل الملكة الشريرة مرآتها السحرية يوميا «أيتها المرآة على الجدار، من هي الأجمل في الديار» (النسخة الأصلية)، فتجيب المرآة بصدق أنها ناصعة البياض.

تحاول الملكة الشريرة قتل ناصعة البياض، لكنها تفشل، وتهرب الفتاة من القصر وتلجأ إلى الغابات، خلاصا من انتقام الساحرة الغيور. وتعثر الفتاة، وهي هائمة وجائعة، على كوخ يعيش فيه 7 أقزام يتولون رعايتها.

ترى الساحرة الشريرة في كرتها البلورية ناصعة البياض وهي تعيش سعيدة في الغابة مع الأقزام. وفي يوم من الأيام تحولت الساحرة نفسها إلى امرأة عجوز وتصب السم في تفاحة حمراء كبيرة، وتقصد بيت الأقزام. تقدم التفاحة إلى الفتاة وتعود إلى قصرها واثقة من موت غريمتها. تقضم ناصعة البياض التفاحة ويتسلل السم إلى جسدها، لكنها لا تموت، وإنما تعيش، كما يبدو، في غيبوبة. يعود الأقزام السبعة من العمل بالمنجم ويجدون الأميرة الصغيرة نائمة، يحاولون إيقاظها عبثا، فيظنون أنها ماتت، لكنهم يحافظون على «جسدها» الذي لا يتعفن، وينقلونه إلى القصر الذي هجرته الساحرة.

تأتي بعدها الخاتمة السعيدة وقصة قبلة الحب التي أيقظت الأميرة ومهدت إلى زواجها من الأمير الجميل. تسأل بعدها الساحرة، وهي في مغارتها، المرآة مجددا: «أيتها المرآة على الجدار، من هي الأجمل في الديار؟» فترد المرآة في الحال: إنها ناصعة البياض، هي الأجمل من بين نساء الأرض الآن.

يستشيط غضب الساحرة وتكسر المرآة السحرية بحنق. فهل الساحرة الجميلة مذنبة في محاولة القتل بسبب «المنافسة» الجمالية؟

يجري الحديث عن روبن هود دائما كشخصية أسطورية من تاريخ إنجلترا في القرون الوسطى، لكن أقدم إشارة إلى وجوده تعود إلى عام 1228، في أرشيفات المحاكم القديمة، ويجري الحديث فيها عن لص مغامر يسلب أموال الأغنياء. وسواء كان هود حقيقيا أم لا فإن القصة تدور حول لص مغامر يقود مجموعة من 140 رجلا يعيشون في غابات شيروود، ويشنون الغارات على قوافل الأغنياء.

وتقع غابات شيروود في مقاطعة نوتنغاهامشاير. وهي قصة عن صراع الفقراء والمسحوقين ضد النبلاء، وضد أصحاب القصور، التي صارت تبالغ بفرض الضرائب وتجويع الناس.

وهناك الكثير من التحويرات للقصة، ومعظمها هوليوودية، لكن الأحداث منسوبة إلى شخص من عائلة لوكسلي التي سلبها شريف نوتنغهام أملاكها وأموالها. ويقال إن العائلة تمت بصلة القرابة إلى الملك ريتشارد قلب الأسد، كما صورت بعض القصص روبن هود كمقاتل عائد من الحملات الصليبية إلى جانب ابن عمه قلب الأسد.

وعلى أي حال، أصبح اسم روبن هود رمزا عالميا للثورة على الطغيان، ومثالا يضرب عن اللصوص الشعبيين الذين يسرقون المال من الأغنياء ويمنحون للفقراء. فهو مقاتل بارع، مخطط عمليات محنك، والأهم أنه كان من أبرع رماة السهام في إنجلترا في ذلك الزمان.

قاد روبن هود مجموعة من اللصوص (يسمونهم الرجال الفرحين «ميري مين») في عمليات السطو المسلح، وبهذا يكون قد شكل منظمة إجرامية، فهل هو مذنب أم بريء؟

ونحن نعرف قصة هينزل زغريتل وإن بعناوين عربية أخرى. فهي حكاية الأخوين غريم عن الطفلين الذكيين الذين تغلبا على الساحرة آكلة لحوم البشر في الغابة. وهما طفلا حطاب فقير يعيش في الغابة مع زوجة الأب، ويعانيان من العوز والفاقة. وعندما يتفاقم وضع العائلة الاقتصادي تقنع زوجة الأب الحطاب باقتياد الطفلين إلى الغابة وتركهما هناك. ويفعل الحطاب المسكين ما تطلبه زوجته الشريرة، لكن هينزل يأخذ حجرا أبيض معه ويضع إشارات على الطريق تعين الطفلين لاحقا في العودة إلى البيت. وهكذا ينجح الطفلان في العودة إلى البيت، لكن هينزل يفشل في اليوم الثاني في الحصول على حجر أبيض، ولا يبقى معه غير فتات الخبز على الطريق، كي يسترشد بها عند العودة. تلتهم الطيور فتات الخبز ويضيع الطفلان الصغيران في الغابة.

وهما في قمة الإعياء والجوع يعثران على بيت صغير في الغابة مصنوع بأكمله من الخبز والكاتو والحلويات. يسدان رمقهما بقرض بعض القطع من البيت، لكن مالكة البيت، الساحرة الشريرة، نصف العمياء، تكتشف وجودهما، فتنادي: من يأكل بيتي؟

فيجيب الطفلان بصوت مماثل: «الريح.. الريح». لا تنطلي الخدعة على الساحرة، آكلة لحوم البشر، فتأسر الطفلين، تحول غريتل إلى خادمة لها وتضع هينزل في قفص، وتطعمه يوميا كي يسمن وتطبخه. لكن هينزل الذكي، يستغل عماها، ويضع عظما في يدها كلما جاءت صباحا كي تتحس لحمه. تقرر الساحرة، على الرغم من قناعتها بأن الولد هزيل، طبخه في الفرن، فتشعل الفرن وتطلب من غريتل النظر في الفرن كي تعرف ما إذا كان جاهزا أم لا. تدّعي غريتل أنها صغيرة جدا ولا تستطيع الرؤية في الفرن، فتضطر العجوز إلى النظر بنفسها في الفرن، وهنا تدفعها غريتل إلى الداخل وتسد عليها الباب.

يأخذ الطفلان ما يودان من الكنوز من بيت الساحرة ويهتديان إلى بيت أبيهما الحطاب. تكون زوجة الأب قد ماتت حينها، فيعيشان مع أبيهما بسعادة ورفاهية بفضل ذكائهما. والآن، هل كان شي الساحرة في الفرن دفاعا عن النفس؟

في قضية روبن هود قرر القاضي تبرئة المغامر من تهمة تشكيل منظمة إرهابية. واستند في قراره إلى قانون قديم يقول إن «التسلكات» في زمن المجاعات والحروب يمكن تبريرها. وعلى هذا الأساس نالت غريتل وأخوها هينزل حكما بالبراءة لأنهما دافعا عن نفسيهما ضد ساحرة خططت لالتهامهما، وكانا في حالة «اضطرار». إلا أن الملكة الساحرة، التي سممت الأميرة النائمة نالت حكما بالبراءة أيضا. والسبب هو أن النيابة العامة حاولت «تحريف» القصة الأصلية، كما أنها فشلت في تقديم أدلة كافية على جرم الساحرة.

معروف أن الأخوين غريم غيّرا شيئا ضئيلا من النص في طبعة 1857 عن النص الأصلي الذي كتباه عام 1812. لكنهما لم يغيرا في المفاصل الرئيسية للقصة الذائعة الصيت.