الجالية الهندية غدت من الذكريات بعدما أخرجها الوافدون الصينيون من قلب الدار البيضاء

كان لها حضورها التجاري الطويل في وسط المدينة

شارع الأمير مولاي عبد الله، الذي كان «شارع الهنود» في وقت مضى ..لم يعد فيه منهم أحد حالياً (نصوير منير امحميدات)
TT

عقب استقلال المغرب، جاء إلى بعض المدن المغربية، خاصة الدار البيضاء وطنجة والرباط، عدد كبير من المهاجرين الهنود الذين امتهنوا التجارة في هذه المدن.

وتشير الوثائق التاريخية إلى أن معظم هؤلاء جاء إلى المغرب عن طريق مستعمرة «جبل طارق، التي لا تزال تحت السيطرة البريطانية.

الهنود الذين استقروا في الدار البيضاء عملوا في متاجر بيع الملابس والعطور والأثواب، بيد أن معظمهم تخصّص حقا في تجارة الأثواب، وهي تجارة أتقنها الهنود على مر العصور، كما أتقنوا معها فن النسج. ولقد اشتهر منذ القدم الحرير الهندي، بجودته وفنون نقشه. وتنطبع في أذهان كل من تخطر بباله صورة «الساري»، الذي ترتديه أغلبية نساء الهند، كما تقوم صناعة وتجارة نسيج وصباغ مزدهرة في الهند تضاهي الأفضل في العالم.

وبناء عليه، كما برع الهنود في تجارة الأقمشة والأثواب، عالميا، لم تكن قصتهم في الدار البيضاء استثناء. غير أن أولى الجاليات الهندية في المغرب تكوّنت في مدينة طنجة، القريبة من جبل طارق، التي كانت تعتبر قبل استقلال المغرب «منطقة دولية» تدار من طرف عدة دول. وفي الحقيقة، كانت طنجة «ملتقى جنسيات» بلا حصر، كلها استقر في المدينة من جميع دول العالم، وكان منها الوافدون الهنود الذين جعلوا من طنجة نقطة انطلاقتهم نحو باقي المدن المغربية، بعدما ركزوا فيها نشاطهم التجاري المبكر.

ولكن عندما أخذت مدينة الدار البيضاء تشهد ازدهارا اقتصاديا وتجاريا خلال عقد الستينات من القرن الماضي، اتجه إليها التجار الهنود واستقر معظمهم في شارع محمد الخامس، وكذلك في شارع الأمير مولاي عبد الله، وكلاهما في وسط المدينة. وبديهيا اختار الهنود هذين الشارعين، لأنها يشكلان القلب النابض للعاصمة التجارية للبلاد، وكان يزورهما جميع من يريد التسوق.

ومن ثم، نظرا للرّواج الذي عرفته الدار البيضاء انتقل إليها قرابة 90 في المائة من التجار الهنود، واستقروا فيها وازدهرت تجارتهم في وسطها التجاري، ولا سيما في مجالي تجارة الثياب والعطور.

هذا الوضع لم يستمر طويلا، ذلك أن حجم الحضور الهندي راح منذ حقبة التسعينات يتقلص باطّراد، حتى غدا العثور على تاجر هندي في الدار البيضاء من الأمور النادرة. ولعل من المفارقات أن معظم أصحاب المحلات في شارعي محمد الخامس والأمير مولاي عبد الله - الذي أشهر أيضا باسم شارع البرنس - لا يعرفون شيئا عنهم.

هل تبخر التجار الهنود في الدار البيضاء أم ابتلعتهم الأرض؟

عبد الكريم أحمد مسرور، أحد سكان المنطقة، قال لـ«الشرق الأوسط» في حوار معه: «معظم الهنود باعوا متاجرهم وعادوا أدراجهم إلى بلدهم، وبعضهم رحل واضطر الأبناء إلى بيع محلاتهم والهجرة إلى دول ناطقة بالإنجليزية».

ويعتقد مسرور، الذي عرف كثيرين منهم، أن «مشكلة اللغة كانت دائما عائقا أمام الهنود يعترض سبيل اندماجهم في المجتمع المغربي»، مضيفا أن «ظهور التجار الصينيين في المغرب خلال السنوات الأخيرة، أسهم بدوره مساهمة كبيرة في تدهور أحوال التجارة الهندية، خاصة أن الصينيين يبيعون سلعهم بأسعار رخيصة، كما أنهم تعلموا بسرعة اللهجات العامية المغربية».

من ناحية ثانية، يتذكر مسرور أن البضائع الهندية «كانت هي الأكثر حضورا في محلات شارع الأمير مولاي عبد الله وشارع محمد الخامس.. وكنا نفتخر بالأشياء التي نشتريها من الهنود لأنها حصرية ولا تتوافر في الأسواق الأخرى».

في المقابل، التقينا رامشند موهانين، وهو تاجر هندي، كان يملك محلا تجاريا في شارع الأمير مولاي عبد الله لكنه هاجر إلى بريطانيا برفقة أولاده لإتمام دراستهم هناك، إلا أنه بين الفينة والأخرى يأتي إلى المغرب في زيارات ذات طابع سياحي. وأوضح موهانين أنه «كانت هناك دائما مشكلة لغة التواصل بين الهنود والمغاربة، خاصة عندما راح الأبناء يكبرون، لكنني أتذكر العلاقة القوية التي كانت تجمع بين المغاربة والهنود»، معبّرا عن «ارتياحه التام حول تلك العلاقات والأواصر»، التي كانت تجمعه مع المغاربة، مضيفا: «لم أشعر إطلاقا هنا بأي تمييز عنصري وديني، وكان الهنود دائما يشاركون المغاربة أعيادهم واحتفالاتهم».

وتطرّق موهانين في حديثه عن تاريخ الهجرة الهندية إلى المغرب ودوافعها، فقال: «كانت هناك دوافع متعددة، منها ما هو اجتماعي - اقتصادي وما هو سياسي، يتمثل الشق الأول في سعي البعض للبحث عن ظروف عمل أفضل خارج الهند لإعاشة أسرهم، والعمل في ميدان الاستثمار التجاري، ويتمثل الشق الثاني (السياسي) في ظروف الحكم الإنجليزي للهند والظروف الصعبة التي عاشتها الهند خلال فترة الاستعمار، حين تعرّض كثيرون للمضايقة، فاضطروا للهجرة إلى بعض الدول التي لم تكن تابعة للإمبراطورية البريطانية، وهكذا كان الهنود يعتبرون من أقدم الجاليات في المغرب.. وكانت الهجرة تجري بشكل فردي أو في إطار عائلي ومن مناطق مختلفة من الهند»، مع الإشارة إلى أن معظم أفراد الجالية الهندية التي استقرت في المغرب، من معتنقي الهندوسية، مع أن نسبة لا بأس بها منهم كانت من المسلمين.

وحقا، يمكن اعتبار عام 1935، أي قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية تاريخ بدايات هجرة الهنود إلى المغرب قبل الحرب العالمية الثانية. ويومذاك، كان هؤلاء يطمحون إلى عمل يحسّن ظروف عيشهم، وهذا في فترة الازدهار الكبير لتجارة الحرير الهندية، خاصة أثواب الحرير الهندية. وبالتالي، جعل هذا الأمر امتهان هذه التجارة في المغرب خيارا سهلا.

حاليا أصبح شارع البرنس خاليا تماما من الهنود، وبسبب التوسّع والتمدد العمراني الذي عرفته الدار البيضاء، لم يعد الشارع هو قلب المدينة، بل أمسى مجرد مكان للذكريات. وحاليا، يزوره كثيرون، بمن في ذلك بعض الهنود، ولكن فقط ليتذكروا «أيام شارع البرنس».. كما يقول أهل الدار البيضاء.