حرب أهلية مستعرة في شمال ميانمار.. بعيدا عن الأنظار

الثروات الطبيعية في صلب النزاع المرير بين أقلية كاشين والقوات الحكومية

مقاتلون من «جيش استقلال كاشين» الذي يخوض حربا دامية مع القوات الحكومية في شمال ميانمار (أ.ف.ب)
TT

عندما انفجرت مدافع الهاون في قريته، في يوليو (تموز) الماضي، هرع ماغاونغ لا هكام إلى الأدغال من دون أي شيء سوى عكازه الخشبي. وقال هذا المزارع (68 عاما) المنتمي لولاية كاشين، والحبيس في مخيم للنازحين قرب الحدود الصينية، إنه يتوق للعودة إلى أرض الوطن، ولكن لا يمكن أن يفارق ذاكرته ما شاهده ذلك اليوم؛ الجثة المشوهة لفتى قضى نحبه أثناء فراره.

في أعماق التلال الغنية بالثروات الطبيعية في ولاية كاشين الواقعة شمال ميانمار (بورما سابقا)، تندلع حرب أهلية بين القوات الحكومية وثوار كاشين، على نحو يثير الشكوك في الإشارات الاسترضائية المنبعثة من الدولة. وعلى مدار العام الماضي، تم ترحيل نحو 75000 مدني من منازلهم. ودفع تغيير خطوط المواجهة الآلاف من اللاجئين إلى الرحيل للصين، حيث نادرا ما يمكن توصيل المساعدات إليهم.

وتوجه منظمات حقوقية دولية اتهامات لجيش ميانمار بشن هجمات متعمدة ضد المدنيين وارتكاب جرائم تعذيب واغتصاب وتجنيد إجباري وإعدام من دون محاكمة. ويوظف الطرفان مجندين من الأطفال ويزرعان ألغاما أرضية في الأرض، مما أودى بحياة مقاتلين ومدنيين بالمثل.

ويستمر النزاع، الذي اشتعل مجددا عندما تم انتهاك وقف إطلاق النار الذي امتد لمدة 17 سنة في يونيو (حزيران) الماضي، على الرغم من خفوت حدة التوتر السياسي في الأراضي المنخفضة جنوب ميانمار، الأمر الذي أدهش المراقبين. ومنذ توليها مقاليد السلطة العام الماضي، حررت الحكومة المدنية مئات السجناء وخففت الرقابة على وسائل الإعلام وعقدت اتفاقات مع مجموعات ثوار أخرى من الأقليات العرقية في خطوة واسعة النطاق نحو انفتاح الدولة. وعلى الرغم من ذلك، فإنه في ولاية كاشين النائية، كان مصير الأراضي الخاصة بالأسلاف مأزقا بالنسبة لثوار كاشين الذين يعتبر أغلبهم من المسيحيين، والذين يعرفون بتكتيكات الكر والفر المخيفة التي تشتهر بها حرب العصابات، والتي تعود إلى الحرب العالمية الثانية. ويعتبر مواطنو كاشين أقلية واحدة من بين أكثر من 100 أقلية عرقية في ميانمار، التي تمثل معبرا استراتيجيا على حدود مشتركة مع الصين والهند وتايلاند.

وفي واقع الأمر، كثفت القوات الحكومية في ميانمار هجومها ضد «جيش الاستقلال في كاشين»، مبرزة قيود السلطة المدنية والثروة الطائلة المعرضة للخطر في المناطق النائية البعيدة عن المدن. وتضم كاشين، المعروفة باسم «أرض الأزرق والذهبي»، غابات جبلية وأودية أنهار زاخرة بالمواد المعدنية والأحجار الكريمة والأخشاب. وتملك ولاية كاشين أيضا مشاريع طاقة كهرومائية تهدف لنفع الصين التي تعاني من نقص في الطاقة، والتي قد استثمرت مليارات في المنطقة، على حساب مواطني كاشين.

ونشب القتال في يونيو (حزيران) الماضي بالقرب من سد مايستون، المشروع المشترك المثير للجدل بين حكومة ميانمار وشركة «تشاينا باور إنفستمنت» المملوكة للحكومة، الذي من المفترض أن يرسل نسبة 90 في المائة من الطاقة التي يتم توليدها إلى مقاطعة يونان. ولاحقا، أوقف رئيس ميانمار، ثين سين، أعمال البناء استجابة لمظاهرات اندلعت احتجاجا على عمليات الترحيل الإجبارية، وأيضا انطلاقا من مخاوف بيئية، في خضوع نادر للضغط الشعبي، مما أثار استياء المسؤولين الصينيين. وعلى الرغم من أن جيش ميانمار يفوقهم في العدد والأسلحة، يقول قادة ثوار كاشين إنهم مستعدون للتخلي عن أسلحتهم في مقابل مزيد من الاستقلال الذاتي وحصة عادلة من الرخاء الاقتصادي.

ويقول العميد سوملات غان ماو من جيش كاشين إن أهالي ميانمار «يرغبون في حل هذا النزاع عسكريا». وأضاف في حوار أجري بمركز قيادته في فندق في لايزا، العاصمة الإدارية لجيش استقلال كاشين: «نحن نريد حوارا حقيقيا. كاشين غنية بالموارد الطبيعية، ومن ثم، لا يرغبون في منحنا حقوقا سياسية مساوية».

وشهدت المدينة، التي كانت فيما سبق تمثل مركز النشاط التجاري، هجرة جماعية لرجال الأعمال الصينيين الذين كانوا يملأون كازينوهاتها. وقد أصبحت غرف الفنادق خاوية، وتم إغلاق مراكز تسوق بأكملها، ويتمثل معظم مرتادي الأسواق المحلية الآن في مدنيين نازحين من المخيمات الستة التي قد ازدادت أعدادها في المدينة وما حولها، مع تقدم قوات ميانمار.

وصلت هكاهتوم لو (42 عاما) سيرا على الأقدام قبل أربعة أشهر مع أسرتها بعد أن أصبحت قريتها واقعة تحت الهجوم. وقبل عدة أسابيع، ذهب زوجها للبحث عن أمتعتهم، ولكنه لم يعد. قالت بينما تطعم أحد أطفالها الستة: «من الصعب تحديد أكثر شيء نفتقده، لأننا فقدنا كل شيء». وعلى غرار كثيرين آخرين، تعيش الأسرة على كميات قليلة من الأرز والملح يمدها بها الجناح السياسي لجيش استقلال كاشين، وأي شيء آخر يمكنها التقاطه من الغابات.

وعبر أنحاء المدينة، تمضي مجموعة من أطفال ميانمار المجندين اليوم في تدخين السجائر بشكل متواصل بين الوجبات في مجمع لنفايات المعادن لا يخضع لحراسة مشددة. وقال ناي مايو (16 سنة) إنه أُجبر على الانضمام لصفوف جيش ميانمار، بعد إيهامه باعتقاله وتلقى تدريبا على زرع ألغام أرضية، إلى أن لاذ بالفرار. والآن يختلجه مزيج من المشاعر؛ فهو سعيد بأن أيامه في الحرب قد ولت، لكنه قلق من أنه لن يرى أسرته مجددا. وسلم ضباط كاشين باحتمال وجود 100 ضابط دون السن القانونية بين صفوفهم، مستشهدين بنقص المال والقوة العاملة، غير أنهم أكدوا وجودهم هناك لتعلم قواعد الانضباط لا لإرسالهم للقتال (وفي ظل القيود الصارمة المفروضة على دخول تلك المنطقة، لا يمكن التحقق من صحة هذه المعلومات).

يأتي الجزء الأكبر من تمويل جيش استقلال كاشين من الضرائب والتجارة غير المشروعة عبر الحدود في منتجات تتنوع بين السلع الجافة إلى خشب الساج، على نحو يبرز علاقتها المضطربة بالصين، التي تعتبر شريان الحياة بالنسبة لها.

وفي لايزا، يعتبر اليوان الصيني هو العملة، وتبقي شبكات الهواتف الجوالة الصينية السكان المحليين على اتصال ببعضهم. وتستضيف الصين طلاب كاشين الجامعيين، وعند تعرض الضباط لإصابات خطيرة، يسمح تخفيف الضوابط على الحدود بنقلهم لمستشفيات أفضل لتلقي العلاج. حتى إن الاحتياجات الأساسية، مثل الدواء والأرز، يتم تهريبها إلى أراضي كاشين.

وهذا الاعتماد تحكمه حقيقة أن مشاريع البنية التحتية التي تمولها الصين تأتي في صميم النزاع في ولاية كاشين. «نحن جيران بأشكال عدة، ولا يمكننا تجنب بعضنا البعض»، قال سوملات غان ماو، وهو يراجع كلماته بحذر. وأضاف: «نحن نرحب بالاستثمارات المقبلة من الصين ما دامت لا تؤذي المدنيين».

لم تتخذ الصين موقفا رسميا بشأن الحرب، لكن ضباطا بجيش استقلال كاشين ومحللين يقولون إنها ترغب في الاستقرار على طول الحدود لحماية مصالحها التجارية. وقد رفضت الصين تصنيف الآلاف من مواطني كاشين النازحين الذين يعيشون على جانبها من الحدود بوصفهم «لاجئين»، وتعتبر متهمة بإعادة بعض منهم إلى ميانمار. وبوصفها طرفا موقعا على اتفاقات دولية لحماية اللاجئين، تعتبر الصين ملزمة بالوفاء بالالتزامات القانونية بتقديم المساعدات.

وفي الوقت نفسه، يعتمد اللاجئون على المنظمات الشعبية في الحصول على المساعدات. وتخشي ماي لي أونغ، مؤسسة جماعة محلية لتقديم المساعدات مقرها في مايجا يانغ، ثاني أكبر مدينة خاضعة لسيطرة جيش استقلال كيشان، من تحول الظروف من سيئ إلى أسوأ، مع استمرار موسم الرياح الموسمية. وتقول: «لست واثقة من أن أي شيء سيتغير؛ فالصينيون مصابون بجنون الارتياب من الأجانب».

ومن خلال الانتشار المخيف لمجموعة من صالات القمار وبيوت الدعارة، جذبت مايجا يانغ مجموعات من المدنيين المقبلين من ولاية شان، التي تشهد الاشتباكات الأشرس من نوعها في ميانمار. وكثير منهم أطفال منفصلون عن آبائهم. وينام كل ثلاثة منهم على سرير واحد في المخيمات.

في الأسبوع الماضي، التقى فريق من حكومة ميانمار بممثلين من جيش استقلال كيشان في مايجا يانغ لعقد ثالث جولة محادثات غير رسمية خلال شهر. وقد كان التقدم ضئيلا. وقال أحد أنصار الثوار ممن لديه معلومات عن المحادثات: «نحن ندرك طريقة البورميين. إنهم مخادعون». وخلال آخر اجتماع وجها لوجه، استضافته الصين، كان جيش ميانمار يقوم بمناورات عسكرية باستخدام أسلحة ثقيلة في أراضي كاشين، بحسب المصدر.

ويؤكد مسؤولون بجيش استقلال كاشين أن جيش ميانمار يجب أن ينسحب إلى خطوط وقف إطلاق النار الأصلية التي وضعت في عام 1994 كي يمكن أن تتقدم المحادثات.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»