إيلي صعب يلبس عباءة الاستشراق.. وجون بول غوتييه يغرف من حياة الليل

أسبوع باريس للأزياء الراقية لشتاء 2012.. بين الداندية والشاعرية

TT

يوم الأربعاء الماضي، وفي مبنى بشارع غامبون، شقت مسؤولة إعلامية من مكتب إيلي صعب طريقها بصعوبة بين الزحام والتدافع لتسأل إحدى الضيفات سؤالا كانت متأكدة أنها تعرف جوابه: «ما رأيك؟ هل أعجبتك التشكيلة؟ ردت الأخرى قائلة: «لا لم تعجبني» لتضيف بعد ثوان مبتسمة وهي ترى المسؤولة تفتح فاها وترفع حواجبها لا إراديا من هول المفاجأة، وهي تقول: «ولو.. لا لم تعجبني فقط بل أغرمت بكل قطعة فيها». ربما يكون هذا التصريح أفضل تعبير عما كان يخالج نفوس كل الحاضرات وبدون استثناء، بالنظر إلى وجوههن خلال العرض وبعده. فمن خلال 46 فستانا حملت المصمم في رحلة شاعرية إلى الشرق بكل بذخه وسحره، وفاحت في القاعة الواقعة في واحد من أهم شوارع الموضة الباريسية، من كل جوانبها، فخامة الإمبراطورية العثمانية طعمها إيلي صعب بجرعة عصرية كلاسيكية لا تعترف بزمن، كما زينها بموتيفات قال إنه استلهمها من «قصر يطل على البوسفور» ومن العهد العثماني القديم.

شملت التشكيلة فساتين كوكتيل وأخرى للمساء والسهرة، كان القاسم المشترك بينها دائما هو لغة الفخامة الرومانسية التي يتقنها المصمم جيدا. طبعا كان التطريز حاضرا فيها وبنفس الطريقة التقليدية لكن في مجموعة معدودة على أصابع اليد، بينما اكتسب في أغلب الفساتين وظائف عملية وتقنيات أكثر حرفية ودرامية. مثلا، في مجموعة فساتين، بألوان قوية وشهية في الوقت ذاته، استعمل الكثير من التطريز لمنح التول سمكا يخفي معالم معينة من الجسد وليخلق تناقضا مثيرا مع الدانتيل الشفاف. بيد أنه وعلى الرغم من أنه استحلى فكرة اللعب على المكشوف والمحتشم في القطعة الواحدة من خلال الأقمشة، إلا أنه من ناحية التصميم، فضل الأكمام الطويلة والياقات الناعمة والعالية التي تصل إلى الذقن أحيانا، وتجنب الـ«ديكولتيه» والفتحات الجانبية العالية. فالشرق لم يعن له تطريزات ونقوشات مستوحاة من موتيفات عثمانية وبيزنطية فقط، بل أيضا غموضا ساحرا ومحيرا. إيلي صعب، كالعادة قسم عرضه إلى مجموعات حسب الألوان؛ حيث استهله بمجموعة من اللون الأسود من التول المطرز باللؤلؤ والخرز والدانتيل، تلته مجموعة من لون وردي خفيف مائل إلى المشمشي ثم بالأزرق السماوي والأخضر والرمادي.

هذا الأخير تحديدا اكتسب جمالية لم تكن تخطر على البال من قبل، خصوصا عندما طرزه أو طبعه بموتيفات من ذهب جريئة. ولا شك أن المجموعة التي طبعها هذا اللون كانت الأجمل والأقوى، سواء جاءت مطرزة بحبات لؤلؤ من نفس اللون أو بموتيفات من الذهب الأصفر على تنورات مستديرة طويلة أو على فساتين ضيقة أحيانا بأكمام من الدانتيل وأحيانا بأكمام تتسع لتتدلى وتتشابك بذيل طويل من الخلف.

ومع ذلك لا يمكن القول إن إيلي صعب مصمم ثوري يبتكر في كل موسم جديدا بكل المقاييس. فهو لا يميل إلى التغيير الجذري أو الابتكار الصادم، ولا يحتاج لذلك؛ لأنه توصل، ومنذ سنوات، إلى خلطة تناسبه وتلمس وترا حساسا لدى زبوناته المخلصات له في كل الأوقات، بدليل أنه في وقت الأزمات وعندما اضطر البعض لتغيير جلدهم في مغازلة واضحة لبعض الأسواق الجديدة، ظل هو في منأى عن العواصف. وإن صح القول، كان ولا يزال بمثابة منارة تلجأ لها المرأة كلما أرادت ضمان إطلالة مميزة في مناسباتها المهمة. لكنه أيضا لم يكتف بوصفته التي يقدمها لنا في كل موسم، بل على العكس فهو يضيف إليها دائما بهارات جديدة ترقى بها إلى مرحلة جديدة من الجمال والشاعرية من جهة وتخض مشاعرنا وتجعلنا نتلهف للمزيد من جهة ثانية.

النهاية مثل البداية كانت درامية، فكما في كل عروض الـ«هوت كوتير» لا بد من فستان عروس ينهي به المصمم حلم ليلة العمر ويستعرض فيه خياله. عروسه دائما ليست ككل العرائس، لهذا تستحق منه تحفة كلاسيكية حالمة، تجسدت هذه المرة في فستان من الأورغنزا زينه بقطع بروكار على شكل أوراق شجر، وبلون السكر الذهبي. إيلي قال إن تطريزه استغرق ستة أشهر على الأقل. والحقيقة أن أي عروس مقبلة على الزواج ستجد وكامل أفراد عائلتها، كل ما تشتهيه النفس وتحتاجه المناسبة من فساتين. فهو يفهم المرأة، ويفهم أيضا أن سوق الـ«هوت كوتير» يشهد انتعاشا بفضل أسواق الصين وروسيا وغيرها، لكنه يعرف تماما أن الشرق الأوسط من أهم أسواق الـ«هوت كوتير». فحفلات الزفاف في المنطقة تتطلب أزياء مفصلة على المقاس وفريدة من نوعها، وفستان الزفاف تحديدا من الأمور التي لا تقبل المساومة وأنصاف الحلول. وهذا ما لخصه في فستان من الظلم القول إنه «لشتاء 2012» لأنه فعلا فستان عمر.

اليوم الأخير من أسبوع الـ«هوت كوتير» يكون دائما استعراضا فنيا لمدرستين مختلفتين. المدرسة الأولى رومانسية تعبق بالأنوثة ويرأسها إيلي صعب، بينما المدرسة الثانية قوية تلعب على مفهوم الذكورة والأنوثة والإثارة الحسية ويرأسها جون بول غوتييه. هذا الاختلاف ينجح دائما في خلق ديناميكية وحيوية في اليوم الأخير. غوتييه الذي لا يزال شقيا على الرغم من بلوغه الستين من العمر، قدم تشكيلة لعب فيها على الداندية من خلال معاطف وقبعات عالية وعمامات تستحضر صورة المهراجات وبنطلونات الفروسية والفساتين الشفافة والكورسيهات التي ألبسها هذه المرة للرجل كما للمرأة. وإذا كان إيلي صعب قد قدم 46 فستانا حالما، فإن غوتييه قدم 50 قطعة تناوب على عرضها عارضات وعارضون، وبالتالي لم تقتصر على فساتين السهرة والمساء، بل شملت بذلات مفصلة إلى جانب تنورات منسابة وشفافة، وأخرى مطبوعة بفنية الآرت ديكو لم ير مانعا أن يلبسها الرجل فوق بنطلون. كما رحلت بنا التشكيلة إلى حد حقب زمنية من القرن التاسع عشر إلى العشرينات ثم الخمسينات بالإضافة إلى جولة من وحي الخيال العلمي تمثلت في أشكال أقفاص ذهبية أحاطت الجسم وكأنها دروع تحميه من فيروسات غريبة قد تصيبه أو من مرض العصر كما قالت الأغنية التي استهل بها العرض.

جون بول غوتييه من عشاق السينما، واستوحى منها ومن نجماتها كثيرا من التشكيلات في السابق، لكنه في شهر مايو الماضي كان عضوا في لجنة التحكيم بمهرجان «كان» السينمائي، مما جعله يعيش التجربة عن قرب ويتشرب كل ملذاتها وهو ما ترجمه هنا.. فحسب اعترافه، فإنه تأثر بشكل لا يوصف بفيلم «اعترافات طفل من هذا القرن» الذي لعب فيه مغني الروك بيت دوهرتي دور رجل من القرن التاسع عشر متأنق للغاية ومقبل على الحياة بكل متعها. رجل قد يراه البعض أقرب إلى الانحلال منه إلى الانفتاح لكنه يتمتع بالكثير من الجاذبية التي يصعب مقاومتها، حسب رأي غوتييه. هذه الجاذبية حفزته ورأى أنها تستحق منه تشكيلة كاملة، كما يقول: «بعد أن شاهدت الفيلم خرجت وأنا أقول لنفسي بأنه سيكون تشكيلتي المقبلة».

ترجمته تجسدت في استعمال المخمل والحرير في الكثير من التايورات الضيقة المستوحاة من حقبة الخمسينات، بخصور محددة تتسع وتنتفخ قليلا بعدها، والفساتين المستوحاة من العشرينات، تخاصم منطقة الخصر أو مطبوعة بالآرت ديكو. أما تأثيرات القرن التاسع عشر فظهرت من خلال القبعات العالية وبنطلونات الفروسية والسترات المطرزة والضيقة والياقات العالية. من البداية إلى النهاية، كانت الداندية الأسلوب الغالب في التشكيلة، إلى حد تشعر معه بالمنافسة الكبيرة بين المرأة والرجل على التأنق والانتباه إلى أدق التفاصيل. فالبنطلونات إما ضيقة جدا أو واسعة من أعلى لتضيق عند الساق وما تحت، والجاكيتات والسترات قصيرة من الأمام تجلس على الخصر مباشرة ليزيد طولها من الخلف فتبدو وكأنها معاطف، وفساتين وتنورات طويلة شفافة يمكن أن تلبس فوق «شورتات» قصيرة أو فوق بنطلونات ضيقة وهلم جرا. ولأن ملهم هذه التشكيلة مقبل على الحياة وملذاتها الليلية على ما يبدو، فإن كل قطعة فيها تناسبه بما في ذلك ألوانها الداكنة التي لم يخفف من قتامتها سوى زخات قليلة من الألوان مثل البنفسجي أو فستان من الموسلين بلون وردي خفيف نسقه مع جاكيت بوليرو من الفرو بلوني الكريم والأزرق السماوي.

مسك الختام كان فستان العروس، والذي اقترحه غوتييه باللون الأبيض على شكل تنورة ضخمة وجاكيت مفصل، تحول صدره إلى ظهره. فهو مقفول من الأمام ومشبوك بصف أزرار من الخلف بياقة تفتح على شكل جناحين صغيرين، جعلا عروسه تبدو وكأنها بجعة بيضاء تتوق للتحليق عاليا، فيما استعاض عن الطرحة بقبعة عالية بيضاء زادت من ابتكاره وتميزه.