«تيت غاليري» في لندن يقتني لوحة للعراقي ضياء العزاوي

«غيرنيكا» عربية عن مجزرة صبرا وشاتيلا

لوحة صبرا وشاتيلا بمساحتها الكبيرة وتفاصيلها التي تشهد على الوحشية
TT

انضمت لوحة ملحمية أنجزها الرسام ضياء العزاوي، أحد أبرز التشكيليين العرب المعاصرين، إلى مقتنيات متحف «تيت» للفن المعاصر في لندن. وتحمل اللوحة عنوان «صبرا وشاتيلا»، وقد أنجزها الفنان لتكون صرخته الغاضبة الخاصة على المجزرة التي وقعت قبل 30 عاما وراح ضحيتها العشرات من سكان ذلك المخيم الفلسطيني في بيروت.

لوحة العزاوي أخذت مكانها في الطابق الثالث من المتحف المؤلف من 5 طوابق، ويمتلك مجموعة من الأعمال التي تعكس أفضل ما بلغته الفنون التشكيلية المعاصرة في العالم، منذ مطلع القرن الماضي وحتى اليوم. ويحسب للقائمين على متحف «تيت» قرارهم الجريء باقتناء هذا العمل الفني الذي يشكل شهادة ستبقى تذكر بكل الجرائم ضد الإنسانية في كل الحروب. إنها «غيرنيكا» عربية تخاطب لوحة بيكاسو الشهيرة عن مأساة تلك القرية الإسبانية التي اجتاحها الفاشيون في الحرب الأهلية.

بعد أن بلغته أخبار المجزرة التي ارتكبتها في المخيم الفلسطيني ميليشيات طائفية، ردا على اغتيال الرئيس الأسبق بشير الجميل وبتواطؤ مع قوات الاجتياح الإسرائيلية لبيروت، لم يتأخر رد فعل الفنان الذي لم يكن بين يديه سوى لفافة كبيرة من الورق. وهو يقول: «من دون استعداد أو تخطيطات مسبقة، قفزت فكرة اللوحة إلى رأسي وحاولت استعادة مشاهداتي الخاصة في المرور عبر ذلك المخيم، في سنوات سابقة، بغرفه الصغيرة التي تمتد بينها أزقة ضيقة». وجاءت اللوحة التي اكتملت عام 1983 لتعبر عن المجزرة بمخيلة رسام موهوب لا بعدسة مصور فوتوغرافي، من خلال سلسلة من المشاهد أو الشذرات التي جمع بعضها مع بعض لتشهد على العنف والقسوة التي راح ضحيتها نساء وأطفال وشيوخ أبرياء، وعلى لا إنسانية الحرب، عموما.

إن الرسام يضع المشاهد أمام أشلاء بشرية والعشرات من التراكيب المتداخلة والفوضى التي جعلت من الجسد البشري طعاما لها. إنها «الأهوال التي يعجز عن وصفها الكلام»، لكن مخيلة الفنان تراها بعين مختلفة وتترجمها عبر إيحاءات تخطيطية وتلوينية لماحة ومؤثرة. إنها لحظة ما بعد مرور القتلة، حيث تبدو الحياة وكأنها قد توقفت، والمأساة قد تجمدت مع بقع الدم المتخثر على التراب.

وبخلاف لوحاته التي تضج بالألوان الصريحة والمشرقة، اقتصد العزاوي في ألوانه ومال إلى الخطوط السوداء والقتامة مع تركيز على الأحمر، لون الدم المستباح. إنها جدارية ملحمية تزيد مساحتها على 3 أمتار طولا في سبعة أمتار عرضا، منفذة بالحبر الصيني على الورق الملصق على لوح. وهي ليست الوحيدة التي تعكس انشغال العزاوي بقضايا أمته، إذ له لوحات أخرى عن مخيم تل الزعتر ومدينة جنين وعن بيروت وبغداد وكل المواجع. فهذا الفنان الذي يرى النقاد أنه من أكثر أبناء جيله التزاما بمعاناة الإنسان، ولد في بغداد عام 1939 ودرس في معهدها للفنون الجميلة ثم حاز من جامعتها شهادة في الآثار، وهو التخصص الذي ترك بصماته على أعماله الفنية التي تغذت على الكنوز القديمة لحضارة وادي الرافدين. وفي عام 1969 أسس العزاوي مجموعة «الرؤية الجديدة»، وهي جماعة فنية ضمت شبابا من المبدعين الذين تسلموا الراية من الرواد ومن جيل الرسامين والنحاتين الأساتذة، وتدعو إلى تجربة فنية عربية شاملة، تخرج من الأنماط الكلاسيكية والمحلية وتستفيد من تقنيات المنجز الفني الغربي ولا تقلده.

في تلك الفترة البغدادية الواعدة، كانت الحركة التشكيلية العراقية تعيش انتعاشا واضحا، لكن الحلم سرعان ما تبدد، بعد سنوات قلائل، بسبب النزاعات الحزبية والتسلط وضيق الرؤية، فغادر العزاوي بلده وعاش متنقلا بينها وبين بيروت ولندن إلى أن استقر في العاصمة البريطانية عام 1976. لقد صار أقرب إلى المتاحف والمكتبات الفنية المتخصصة التي توفر له المادة لدراسة مخطوطات قومه والأقوام الشرقية ومشاهدة آثارهم المنهوبة، رؤية العين لا في الصور والنسخ المقلدة.

وإلى جانب الرسم مارس ضياء العزاوي فنون الحفر والنحت والطباعة ودخل في مشاريع فنية كثيرة ولمع اسمه كواحد من أبرز التشكيليين العرب في العالم. وعلى امتداد مسيرته التي كانت فيها أدواته الفنية والمعرفية تنضج وتتطور، لم ينفصل الفنان عما يجري في العالم العربي من أحداث، وكانت المأساة الفلسطينية حاضرة في أعماله، ومن بعدها المأساة العراقية.

يذكر أن العارض وجامع الأعمال الفنية كلود ليمان كان قد استعار تلك اللوحة لعرضها، عام 2003، في مدينة إكس أون برفانس، جنوب فرنسا، ضمن تظاهرة لتكريم الشاعر الفلسطيني محمود درويش وبحضوره.