تدفق النازحين على دمشق حرك الثورة في قلبها

أتوا معهم بقصص الألم والظلم مما أصاب أهالي العاصمة بعدوى الغضب

أطفال إدلب يحملون لافتات ينددون فيها بقمع بشار لهم ويعلنون رفضهم لنظامه، أمس (أوغاريت)
TT

تجتاح الثورة، التي أغرقت معظم بقاع سوريا في حمام دماء، الآن العاصمة بصور تمثل تحديا للافتراضات المسلم بها منذ فترة طويلة بشأن تشبث الرئيس بشار الأسد بالسلطة، حتى في المدينة التي كان من المفترض أنها معقل نظامه الحصين.

ومقارنة بمدن مثل حمص وحماه ودير الزور، حيث تعتبر عمليات القصف والمعارك أمرا معتادا، ما زالت دمشق تتمتع بحالة من الهدوء النسبي. وعلى الرغم من ذلك، لم يعد بمقدور النظام التباهي بأن العاصمة تعتبر واحة للهدوء أو أن أغلبية صامتة من سكانها موالية للنظام. فالمدينة الآن مثقلة بمشاعر الغضب وتبدو على شفا الانفجار.

وتظهر على الجدران في معظم الأحياء كتابات معادية للنظام. وفي كل ليلة، يسمع صدى صوت القصف المدفعي في الأحياء المجاورة التي أصبحت تحت قبضة الثوار في الشوارع، مما يقض مضاجع الأثرياء والفقراء على حد سواء. ويزيد عدد المظاهرات، التي تنظم فيها مجموعات صغيرة احتجاجات مفاجئة وسريعة، حتى في بعض الأحياء الأكثر ثراء بالمدينة. وقد قوضت الإضرابات الأخيرة من جانب التجار في أسواق دمشق الشهيرة الاعتقاد الذي مفاده أنهم سوف يدعمون النظام.

وأول من أمس، اقتربت أعمال العنف بشكل أكبر، من خلال قصف قوات النظام للحقول المتاخمة لحي كفرسوسة، الذي ظل في حالة من الاضطراب لفترة طويلة والواقع على الحدود الجنوبية الشرقية للمدينة، باعثا سحبا من الدخان في عنان السماء وأصوات انفجارات تتردد أصداؤها بشوارع المدينة.

ويتمثل أحد الأسباب وراء التحول في المزاج العام في العدد الهائل من البشر الذين قد تدفقوا إلى دمشق خلال الأشهر الأخيرة، باحثين عن ملاذ بعيدا عن المعركة الدائرة في الأماكن الأخرى من الدولة. وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن إجمالي عدد المشردين في سوريا يقدر بـ500 ألف شخص، ومع أنه لا أحد يعلم على وجه التحديد عدد من شقوا طريقهم متجهين إلى العاصمة، فقد تضخم عدد سكان المدينة بشكل ملموس، مع تزاحم الأسر في غرف الفنادق واستئجارهم شققا رخيصة الثمن ونزولهم ضيوفا بمنازل أقاربهم.

وقد أتوا معهم بقصص الألم والظلم، على النحو الذي أصاب أهالي دمشق بجانب من عدوى الغضب التي قد حافظت على استمرارية الثورة بجميع مناطق سوريا لمدة نحو 16 شهرا آخر.

«وجود اللاجئين جعلنا نشعر بالمأساة، لا أن نسمع أو نقرأ عنها فقط كما لو كانت مدونة في كتاب»، كلمات قالها سامر (30 عاما) ناشط من دمشق استضاف أسرة مؤلفة من 10 أفراد من حي البياضة في حمص في شهر مارس (آذار). ويسترجع بكاء واحدة من أفراد الأسرة وهي تعرض له صورا لابنها على هاتفها الجوال. كان جسد ابنها قد تمزق إربا إربا جراء قصف بالقنابل في حمص.

قال سامر، الذي طلب على غرار آخرين ممن أجريت مقابلات معهم لأجل هذا المقال، الاكتفاء بذكر اسمه الأول فقط لخوفه على سلامته: «عجزت عن الكلام وشعرت كما لو أنني أنا من أحتاج للمساعدة في تلك اللحظة».

معظم هؤلاء الباحثين عن ملاذ نساء وأطفال قتل أزواجهم وآباؤهم أو ظلوا في مدنهم الأصلية لمواصلة القتال أو لحماية ممتلكاتهم.

غير أن نشطاء قد أتوا أيضا مدفوعين بحماسهم لتنظيم هذا النوع من المظاهرات المعادية للنظام التي قد وقعت حتى الآن على نطاق محدود في العاصمة.

«أتيت لدمشق لأنني أرغب في التظاهر»، يقول أحمد، وهو ناشط نزح من حي الخالدية المحاصر بحمص، الذي أصبح يتعرض لقصف شبه يومي من قبل قوات النظام الساعية لطرد الثوار الذين أحكموا سيطرتهم عليه. وأضاف قائلا: «أفتقد التظاهر». كان أحمد يمتلك متجر ملابس، لكنه فقد هذا المتجر الذي كان يعتبر مصدر دخله، كما فقد منزله خلال الانتفاضة. ومنذ 20 يونيو (حزيران)، يعيش مع أسرته في حي السيدة زينب جنوب دمشق، جنبا إلى جنب مع سكان حمص السابقين الذين يقدر عددهم بـ7000 شخص. ويمضي وقته في الاختلاط بالسكان المحليين، مشاركا تجاربه مع الثورة في حمص ومشجعا إياهم على تنظيم مظاهرات.

حالة من السخط سائدة بين فئة التجار

* ثمة إشارات أخرى دالة على أن حالة السخط تتزايد بين سكان دمشق الأصليين، وبالأخص طبقات التجار السنة الذين ظل صمتهم منذ فترة طويلة يؤول على أنه نوع من الدعم الضمني لنظام الأسد. سجلت مذبحة 25 مايو (أيار) التي راح ضحيتها 108 أشخاص على الأقل في قرية الحولة على طريق حمص نقطة تحول، حيث كانت بمثابة الحافز الذي حرك أول موجة عصيان من قبل تجار أسواق دمشق، الدكاكين المكونة من عدة طوابق في مركز المدينة التي تعتبر محور الحياة التجارية في العاصمة.

بعد ثلاثة أيام من المذابح، أغلق التجار متاجرهم كنوع من الاحتجاج، استجابة لمناشدة من جماعات حقوقية. وعلى الرغم من ذلك، فقد أشار كثير من أصحاب المتاجر إلى أن موجة الإضراب تبعت زيارة للسوق من قبل رجلين هددا بإحراق متاجر هؤلاء الذين لا يمتثلون للمناشدة. ومع ذلك، قال أصحاب المتاجر إنه قد أثلج صدورهم أن يجدوا مبررا للتعبير عن غضبهم، وكذلك مبررا يقدمونه لقوات النظام عند مرورهم بالأسواق في محاولة لحمل التجار على إعادة فتح متاجرهم.

تحدث صاحب أحد المتاجر عن الإضراب قائلا: «كنا نأمل بالفعل أن يحدث ذلك».

كان الإضراب الثاني نهاية الأسبوع الماضي أوسع انتشارا، حيث شمل عدة أحياء في دمشق، إضافة إلى الأسواق. وحاولت السلطات منعه، بإرسال رسائل نصية تحث فيها الناس على عدم المشاركة فيها، ثم نشر قوات أمن مسلحة بمدافع رشاشة وبنادق لفتح المتاجر التي أغلقها أصحابها. وتجمع أصحاب المتاجر بالقرب من متاجرهم، متخذين أهبة الاستعداد لفتحها بسرعة لدى ظهور قوات الأمن.

ولم تشهد دمشق بعد هذا النوع من المظاهرات واسعة النطاق التي اجتاحت كثيرا من المدن السورية الأخرى في الأيام الأولى من الثورة. ويعزو كثير من النشطاء ذلك إلى العدد الضخم من السكان الذين ينتمون إلى أقليات في دمشق، وعلى وجه الخصوص إلى الأقليات المسيحية والعلوية المنتسبين للشيعة، الذين ما زال كثير منهم يدعمون النظام ويخشون التأثير المتنامي للثورة التي يرون أن معظم المشاركين فيها من السنة.

وعلى الرغم من ذلك، فإن ثمة شعورا سائدا بين سكان المدن الذين يتمتعون بمستويات معيشية مرتفعة نسبية بأنه حتى هؤلاء الدمشقيون غير الراضين عن النظام ليسوا مستعدين لتحمل مستويات العنف التي تشهدها تلك الأجزاء من الدولة التي تعتبر في حالة ثورة مفتوحة.

ويبقى امتلاكهم مزيدا من الخيارات من عدمه موضع تساؤل. لقد تسببت سلسلة من التفجيرات وقعت خلال الأشهر الأخيرة في سفك الدماء في شوارع العاصمة. ويكثف الجيش السوري الحر من وجوده.

شهد حي كفرسوسة، الذي يعد مركزا لبعض أفخم مراكز التسوق وأيضا مراكز قوات الأمن الرئيسية في العاصمة، وقوع اشتباكات كثيرة بين الثوار وقوات النظام. بيد أن القصف الذي وقع هناك، أول من أمس (الخميس)، يجسد مدى بدء كثير من أجزاء الحي في الخروج عن نطاق سيطرة النظام.

وفي الأسبوع الماضي، أعلن عن تشكيل كتيبة جديدة تابعة للجيش السوري الحر من خلال مقطع فيديو نشر على موقع «يوتيوب». وقد صرحت الكتيبة، التي تطلق على نفسها اسم «المقداد بن عمرو» والمؤلفة من نحو 50 رجلا مسلحا مقنّعا، بأنها قد تشكلت للقتال في وسط المدينة. وجاء في بيان الكتيبة الوارد بمقطع الفيديو أن النظام «يعلم، مثلما يعلم الجميع، أن نهايته ستكون في دمشق».

* أعد التقرير مراسل خاص لصحيفة «واشنطن بوست» في دمشق تم حجب اسمه لدواع أمنية.. وساهمت في كتابة التقرير ليز سلاي من أنطاكيا بتركيا

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ «الشرق الأوسط»