جبل طارق يحول بين مغربي وحلمه بـ«الجنة الأوروبية»

ضاع الحلم على «أمادو».. واكتفى من الغنيمة بمهنة إسكافي في أحد الأزقة

شارع المسيرة في حي يعقوب المنصور خلال فترة العصر (تصوير: منير أمحميدات)
TT

جلس «أمادو» وزميله تحت مظلة مهترئة، من ذلك النوع الذي يستعمل في الشواطئ. جلسا في زقاق ضيق متفرع من شارع «المسيرة» في حي يعقوب المنصور.

هما منهمكان في خياطة وترقيع أحذية بالية. لم يكن «أمادو» يتوقع أن تطوح به الأيام إلى هنا ليعمل إسكافيا في هذا الحي الشعبي المكتظ ملء سعته.

كان «أمادو» يحلم بعبور البحر الأبيض المتوسط نحو «الجنة الأوروبية» لكن ذلك الحلم تبدد، بعد أن تحول مضيق جبل طارق إلى أكبر «مقبرة» لشبان وشابات بل وحتى أطفال كانوا يأملون أن يصلوا إلى يابسة الضفة الأخرى. أدرك «أمادو» كما أدرك كثيرون من رفاقه، ألا طائل للمجازفة ضمن رحلات مميتة عبر قوارب مهترئة. هؤلاء المهاجرون جاءوا زاحفين مستعملين جميع وسائل النقل، من سيارات ودواب، وأحيانا حتى مشيا على الأقدام من دول جنوب الصحراء التي أرهقتها الحروب والنزاعات والانقلابات والمجاعات والأمراض.. هم «السواد الأعظم» المتجهم الأنظمة.

كثيرون منهم تقطعت بهم السبل وبقوا هنا في المغرب. تقول منظمة حقوقية «ما بين 12 و20 ألف مهاجر من جنوب الصحراء يستقرون حاليا في المغرب، بعضهم منذ شهور وآخرون منذ سنوات، في ظل ظروف اجتماعية بالغة الصعوبة والتعقيد».

استطاع «أمادو» ورفاقه الذين اختاروا «حي يعقوب المنصور» الاندماج في حياة يومية، ليست هينة لكنها أفضل من الضياع والتشرد وركوب البحر في مغامرة محفوفة بالمخاطر.

يستأجرون جماعة غرفا في هذا الحي وهو أكثر أحياء الرباط اكتظاظا. حي يفيض بسكانه لذلك يندلقون معظم ساعات اليوم في شوارعه وأزقته. يعودون إلى مراقدهم ليلا. هناك شكوى تسمعها من معظم سكان «يعقوب المنصور»، يقولون إن «المهاجرين الأفارقة» عادة ما يتحدثون بصوت مرتفع ليلا، ويسهرون كثيرا، ويتكلمون جميعا بحيث لا يكاد أحد فيهم يسمع ما يقوله الآخرون. كلهم يتكلمون دفعة واحدة، وفي الغالب بلهجاتهم المحلية، ممزوجة ببعض الفرنسية، لذلك يشتكي جيرانهم من الكلام المتعتع الذي يصبح ضجيجا. المغاربة يحبذون الهدوء في الأمسيات والليالي.

يقول بائع بطيخ افترش الأرض في «شارع المسيرة» إن هؤلاء المهاجرين التعساء تعلموا جميع الحرف بحثا عن فرص عمل. يزيد جازما «لم تبق مهنة إلا وتعلموها». بعضهم يفضل التجارة البسيطة، وهي تجارة التماثيل المصنوعة من خشب الأبنوس، والثياب المزركشة، والأقراط والأساور المصنوعة من العاج أو من شعر ذيول الخيل.

من مفارقات «حي يعقوب المنصور» أنه ظل باستمرار حي المهاجرين والنازحين، حتى «الملك الموحدي» الذي حمل الحي اسمه، نزح من المغرب بعد انتهاء فترة حكمه.

قبل عقود طويلة، ابتداء من ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، هاجر إلى الحي كثيرون من القرى والمداشر المغربية، في تلك الفترة انتقلت إليه مداشر بأكملها من وسط وجنوب المغرب. كان يطلق على الحي اسم «الدوار» وهي لفظة تعني في العامية المغربية «المدشر».

بعد استقلال المغرب أطلق عليه اسم «يعقوب المنصور» وهو من ملوك الموحدين، الذين ارتبط اسمه بتشييد «مسجد الكتبية» في مراكش وكان يعتزم تشييد أكبر مسجد في العالم وهو «مسجد حسان» في الرباط، لكنه توفي قبل أن يكتمل ذلك المشروع.

يروي التاريخ أن يعقوب المنصور نفسه هاجر من المغرب بعد انتهاء فترة حكمه، راح يتجول إلى أن وصل إلى لبنان حيث دفن على قمة تلة في البقاع الغربي اللبناني، وهي الآن قرية تعرف باسم «قرية السلطان يعقوب» ويقال إن في هذه القرية اللبنانية أسرة تعرف باسم عبدوني متحدرة من المغرب والجزائر. هذه المعلومة تتناقلها عدة مصادر نقلا عن المؤرخ «ابن خالكان».

في الصباحات تهدأ الحركة كثيرا في «حي يعقوب المنصور»، إلى حد يخيل لزائره أن سكانه غادروه. لكن في العصر وقبل مغيب الشمس، تبدأ حركة الباعة في شارع «المسيرة»، ثم ما يلبث هذا الرواج أن يتحول إلى زحام وزعيق في الأمسيات. وهي أمسيات تمتد حتى الفجر.

هنا يمكن أن تجد أي شيء وكل شيء.

الحوانيت والمتاجر متراصة بطول الشارع. وأمامها باعة يطلق عليهم المغاربة اسم «الفراشة» إذ إنهم يفترشون الأرض. يستعملون عادة قطعة بلاستيك كبيرة يكومون فوقها سلعتهم. يبيعون الملابس، سواء كانت جديدة أو مستعملة، وهم في الغالب يسعون إلى إقناع زبنائهم بان الملابس المستعملة أو الأحذية أو الحقائب النسوية، جاءت من الخارج. وهذا الخارج يعني دائما «أوروبا». يبيعون كذلك الأدوات المنزلية والأواني. الأثاث والأفرشة. قطع غيار السيارات والدراجات، أشياء كثيرة بلا حصر. حتى الأسنان الاصطناعية تجدها هنا. هناك أيضا باعة طيور الزينة ونباتات الظل والورود والزهور. كثيرون يبيعون جميع أنواع الخضر والفواكه. قصابون يزعمون أنهم يبيعون ما لذ ولم يطب بعد من اللحوم.

في جميع الزوايا هناك مأكولات وحلويات. من أشهر أمكنة هذا الشارع «محل كبور». مطعم شعبي يحمل اسم صاحبه. يقول كبور، وهو رجل في منتصف العمر حاضر الابتسامة خفيض الصوت، إنه هنا منذ 28 سنة. يشتهر مطعمه الشعبي بالمشويات، ولحم رأس الخروف. ستلحظ أن من بين زبنائه. طالبات من الأحياء الجامعية تعجبهن مشويات كبور. لكن لماذا يا ترى؟ بقيت «لماذا» هذه معلقة هناك في «حي يعقوب المنصور» دون جواب.

في ركن قصي، وجدت شابا مرح المزاج، يبيع أشرطة وأقراص كومبيوتر، يرتدي قبعة أنيقة نسبيا، وبنطال جينز، وقميصا مكتوبا عليه بالإنجليزية «أحب ويتني هيوستن».

يقول عن محتويات الأشرطة والأقراص، لدي أفضل الأغاني، وكذلك أشرطة سينمائية منسوخة. يقول جازما: بعض هذه الأفلام ما تزال تعرض في قاعات المدن الأوروبية.

آه منك يا «أوروبا»، أنت القارة التي استعصت على «أمادو» واكتفى بخياطة الأحذية في «حي يعقوب المنصور».