«جنون الأسعار» ينغص بهجة رمضان في الخرطوم

التقشف شعار الشهر الفضيل هذا العام

مواد غذائية.. بأسعار عالية في «رمضان» الخرطوم هذا العام
TT

قالت السيدة لزوجها وهي عائدة لتوها من التسوق: «حفنة التمر هذه بعشرة جنيهات - دولار ونصف تقريبا - سأضع خمس تمرات على مائدة الإفطار واحدة لكل منا، وإذا شاركنا الإفطار ضيف، على أحدنا التخلي عن تمرته».. الزوج يعرف أن زوجته ستنفذ وعدها، وستقدم لكل واحد منهم تمرة، لكنه لا يرى جدوى لفعلها وتقشفها، لأن السوق لا تستقر على قرار، والأسعار لا تخضع لمنطق محدد يمكن التخطيط له، ودخلهما لن يكفي مهما كانت زوجته «شاطرة»، لكنه لا يملك إلا أن يقبل حكمها، فالأسعار تضاعفت بنسبة تتراوح بين 60 و150 في المائة لمعظم السلع، بينما تراجع الدخل بزيادة الضرائب والاستقطاعات غير المعروفة.

وقال رجل آخر لزوجته: «لم أشم رائحة الحلو مر هذا العام» (مشروب شعبي سوداني تعده النساء قبيل شهر رمضان المكرم، وتنتشر رائحته الحلوة لتذكر الناس عادة أن رمضان على الأبواب) فردت الزوجة: «أغلب الناس لم يصنعوا الحلو مر هذا العام، بسبب غلاء وارتفاع ثمن مكوناته».

غياب رائحة «الحلو مر» و«الآبري»، المشروبات السودانية الأثيرة، واستعصاؤها على الشم دلالة على أن الأزمة والفقر دخل كل بيوت السودان دون استثناء.

عزيزة، سيدة من جبال النوبة المضطربة، تبيع الطعام والشاي قرب أحد المراكز الثقافية الأجنبية في العاصمة الخرطوم، ومن عائد المبيعات تطعم وتسقي وتعلم عشرة أفواه مفتوحة، وتعامل زوجا مريضا.

كان الرضا يسكن عيني عزيزة، فهي راضية بقدرها ونصيبها، لكن بعد إجراءات التقشف التي اتخذتها الحكومة الشهر الماضي، اختفت عن وجهها تلك الابتسامة الراضية، وبعدما كانت تستقبل زبائنها بحفاوة، وتقدم لهم خدماتها بذوق «رائق»، لاحظ زبائنها «رنة حزن» دفينة تطل من عينيها.

قبل أيام، بعيد ثبوت رؤية هلال رمضان لاحظت «الشرق الأوسط» أن عزيزة ليست على «مزاجها» الرائق، سألتها فأجابت: «كيلو السكر بسبعة جنيهات، وكيلو الشاي بعشرين، وكيلو الفحم بخمسة جنيهات، أما اللحم الذي بلغ سعره أربعين جنيها فقد تخلينا عنه تماما»، وبتوجع وألم أضافت: «لم أعد قادرة على الإيفاء بواجباتي تجاه أسرتي، دبروني ماذا أفعل مع مصاريف رمضان، والشغل في الصيام يختلف عنه في الإفطار» تقول «ناهد م»، سيدة منزل: «ليت الارتفاع يظل ثابتا، لكن الأسعار تواصل الارتفاع، ما جعلني أواظب على سؤال يومي: كم بلغ سعر كيلو السكر هذا الصباح» حتى أثرياء المدينة لحقهم «جنون الأسعار»، فهم يضعون أيديهم على قلوبهم هلعا، فالصيدلي عمر ويسكن ضاحية الواحة «الثرية»، قال إن أسرته بدأت تتبع «سياسة تقشف» قاسية حتى لا تمتد «البطون» إلى رأس المال.

ولم تتوقف «الأزمة» عند الغلاء، بل أدت إلى اختفاء بعض السلع، أشهرها السكر، ذو التاريخ المجيد في تأجيج نيران الانتفاضات والثورات السودانية، ورغم أنه ينتج محليا، قفز سعر العبوة زنة 10 كيلوغرامات من 34 جنيها إلى 65 جنيها.

وفي وجه «هلع» الحكومات السودانية من السكر وزعت حكومة ولاية الخرطوم سكرا بالسعر الرسمي، 3 عبوات زنة 10 كيلوغرامات ، لكل أسرة، وبالطبع فإن أسرا كثيرة لم تجد نصيبها من السكر «الميري»، ولا يتوقع أن تأتي محاولة الحكومة لتهدئة «غضب السكر» بنتائج كبيرة، خاصة أن السودانيين يستهلكون كميات كبيرة منه في الشهر الفضيل! حدث كل هذا الارتباك عقب تحرير سعر صرف العملة المحلية، ورفع الدعم عن المحروقات، وزيادة الرسوم الجمركية والضريبية، لمواجهة أزمة ذهاب عائدات صادر البترول جنوبا بعد الانفصال - 75 في المائة من الميزانية - وضياع رسوم عبور بترول جنوب السودان عبر أنابيب الشمال، بإيقاف دولة الجنوب إنتاج نفطها احتجاجا على مطالبة حكومة الخرطوم برسوم اعتبرتها مبالغا فيها، 36 دولارا للبرميل الواحد.

على «قتامة» الوضع الاقتصادي فإن حكومة الخرطوم تواظب على تقديم «تطمينات» عن قدرتها على إعادة الاستقرار للاقتصاد في فترة وجيزة، وأن تجاوز الأزمة بات وشيكا، بسبب الإصلاحات الاقتصادية والسياسية التي اتخذت الشهر الماضي.

ولكن في المقابل، لا يرى الخبراء ذلك بل يرسمون صورة أكثر قتامة، ويشككون في جدوى القرارات برمتها، ويرى أحدهم أن إجراءات التقشف القاسية مجرد «تحميل» المواطن مسؤولية هذا الفشل، مضيفا أن حكومة المؤتمر الوطني رفعت في وقت واحد، الدعم عن المحروقات، وخفضت قيمة الجنيه، وزادت الضرائب والرسوم الجمركية، حزمة واحدة منها تكفي لإشعال نيران الأسعار.