البغداديون يستهلون شهر رمضان بسوق الشورجة حيث التوابل والأغذية والشموع

كبرى أسواق العراق بناها العباسيون وحاول المخربون إحراقها

في سوق الشورجة، تجد العائلة العراقية كل ما تحتاجه لشهر رمضان (أ.ف.ب)
TT

يستهل العراقيون عامة، والبغداديون خاصة، طقوس شهر رمضان المبارك بالتسوق في واحدة من أقدم وكبرى أسواق بغداد، سوق الشورجة، التي يمتد تاريخها للعصر العباسي، وتحتل قلب بغداد التجاري، رابطة بين شارع الرشيد - أول شوارع بغداد، وشارع الجمهورية، ومسترخية بمساحاتها حتى شارع الكفاح.. ففي هذه السوق، تجد العائلة العراقية التي توارثت التبضع منه في شهر رمضان وفي بقية المناسبات السعيدة والمناسبات الدينية، كل ما يريدون من توابل وفواكه مجففة وأغذية وشموع وصابون ولوازم البيت.

ويتجه التجار من بقية محافظات العراق، إلى هذه السوق للتبضع منها بالجملة، كما يعتبره البغداديون الشريان التجاري المتدفق الذي يشترون منه كل لوازمهم تقريبا.

على الرغم من التدهور الأمني الذي تركز في السوق وما حولها خلال السنوات الماضية، والحرائق الخطيرة والغامضة التي استهدفتها مؤخرا، فإن سوق (الشورجة) لم تزل المركز التجاري الأهم والأشهر والأكبر في العاصمة العراقية بغداد، ومعلما من معالمها التاريخية العريقة، إذ يعود تاريخ إنشائها إلى العصر العباسي المتأخر، وهي رئة بغداد التجارية، ورمضان لا يبدأ إلا من خلالها طوال سنوات طويلة، لم تزل تعج بالحركة والنشاط منذ بوادر الفجر الأولى وحتى المساء.

واعتادت العائلة العراقية استقبال شهر رمضان من خلال دكاكين السوق التي تضم أكثر من 19 سوقا تجارية متعددة ومتخصصة، منها سوق الصابون، وسوق التوابل، وسوق القرطاسية، وسوق البورسلين، وسوق الشموع، وسوق الفواكه المجففة والمكسرات، وسوق الصابون المصنوع يدويا من الزيتون والغار، فضلا عن المواد الغذائية والألبسة الجاهزة، والأجهزة المنزلية والبلاستيكية والكهربائية وغيرها. وتزهر حركة السوق في أيام رمضان والمناسبات والأعياد، حيث تكثر الشموع والتوابل بأنواعها ومستلزمات الأعراس والأفراح كافة.

ومن يزور العاصمة العراقية ولم يذهب للضياع بين باعة ودكاكين وبضاعة سوق الشورجة فكأنه ما زار بغداد، فهذه السوق هي روح المدينة بتراثها وحاضرها، إذ أول ما تجتذب المتسوق رائحة التوابل وألوان الشموع الكبيرة المعلقة وبريق البورسلين المنقوش بصور متخيلة من حكايات ألف ليلة وليلة، وأصوات البائعين وهم يعرضون بضاعتهم كأنها نشيد يومي يشكل الإيقاع الحياتي للسوق.

«الشرق الأوسط» دخلت السوق وتحدثت مع أقدم البائعين ومع المتسوقين لتنقل صورة حياتية عن هذه السوق العريقة.

المؤرخون والباحثون اختلفوا في أصل تسمية الشورجة وتعددت آراؤهم، فبينما يؤكد الباحث البغدادي الراحل الشيخ جلال الحنفي أن كلمة الشورجة منحدرة من كلمة (شوركاه) أي محل الشورة، أو (الماء المالح) إذ كانت محلة الشورجة قديما بئرا أو بركة ماء، فحرّفت إلى الشورجة. أما الباحث العراقي البارز سالم الألوسيفيري فيقول إن أصل كلمة الشورجة جاء من (الشبرج) وهو دهن السمسم ،إذ كانت في السوق معاصر خاصة للسمسم، والاسم ينسب إلى الشبرجة أو الشرجة التي حُرفت إلى الشورجة.

وهناك رأي آخر يقول إن الشورجة كلمة كردية تتكون من مقطعين المقطع الأول (الشور) ويعني المالح، والمقطع الثاني الـ(جه) أي مكان، فتعني المكان المالح، وبذلك يكون معنى الشورجة (النهر المالح) أو النهر المالح الصغير.

يقول صالح البستاني، (87 عاما)، وهو أحد أقدم باعة البهارات في السوق لـ«الشرق الأوسط»، إن سوق الشورجة تأثرت كثيرا بأحداث العنف والتفجيرات والحرائق التي شابتها طيلة الفترة الماضية، فصار من الصعب على العائلة العراقية أو التجار وأصحاب المحال التجارية في المحافظات القريبة، زيارتها للتبضع منها، بسبب مخاطر الطريق المؤدي إليها، وكذلك الزحامات المتواصلة فيها.

ويضيف: «تسببت الحرائق التي استهدفت السوق في خسائر كبيرة قدرت بمليارات الدنانير، بعضها لأسباب غامضة، ويقال إنها بفعل فاعل لأجل تهديم ما تبقى من معالم بغداد المهمة، وبعضهم قال إن السبب هو زحام المحلات وعدم توافر السلامة المهنية في خطوط الكهرباء وتقادم المولدات فيها»، مبديا تخوفه من تلاشي السوق التراثية إذا ما استمر حاله هكذا وإهماله من قبل الجهات المعنية، خاصة أمانة بغداد.

بينما قال السيد أحمد قادري، أحد أقدم باعتها، إن «قدوم شهر رمضان في الماضي كان وسيبقى من أجمل معالمها، إذ تزدحم بالمتسوقين، وتنتشر البضاعة بوفرة في جميع محالها وخاناتها، ويؤمها الكثيرون من خارج بغداد وبعض الدول المجاورة لأجل التبضع منها بالجملة، مما يصعب على المارة المرور في أزقتها بسبب كثرتهم».

وأوضح: «عادة ما تأتي العائلة العراقية في رمضان، خصوصا للتبضع بمختلف الحاجات التي تخزنها لشهور قادمة مثل الحبوب والطرشانة والدقيق والمكسرات والسمسم والتين المجفف والسمن والتمور وغيرها».

التاجر موسى أمين، صاحب محلات تجارية في بغداد، وأحد متبضعي السوق القدامى، قال: «نشكو من صعوبة الوصول إلى السوق بسبب الطرق التي عادة ما تكون السيطرات قد أغلقت معظمها، إضافة إلى ارتفاع حرارة الأجواء وزيادة تكلفة نقل البضائع من وإلى السيارات المخصصة لنقلها، مما يضيف معاناة وأجورا أكثر على التجار، فيعمدون إلى زيارة أسواق أخرى قريبة».

وعن الحرائق التي واجهت السوق، قال أمين: «شهدت سوق الشورجة، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مقتل ثمانية مدنيين، معظمهم من أصحاب المحال التجارية، وإصابة 26 آخرين، واندلاع حريق كبير إثر أربعة تفجيرات بعبوات ناسفة، بالقرب من عمارة الكناني وسط السوق، ونجم عن عمل تخريبي إرهابي، مما سبب خرابا كبيرا وحزنا ألم بنا جميعا»، مبينا أن «المعنيين يرجحون أن سبب تلك الحرائق هو قدم البنايات والماس الكهربائي الحاصل فيها».

بينما يقول الحاج عبد الرؤوف راضي، أحد كبار الكسبة في سوق الشورجة: «إن سوق الشورجة لم تكن بهذا التنوع من السلع والبضائع التي بدأت تتعدد أنواعها وأشكالها منذ ستينات القرن العشرين، وقبلها كانت السلع السائدة في السوق هي الحبوب بأنواعها من الحنطة والقمح والأرز والدقيق والتمور والبقوليات والتبوغ والبهارات والشاي والسكر والعطاريات، ومن ثم بدأت تظهر سلع أخرى لم يألفها متبضعو السوق كالحلويات والمنظفات والأواني المنزلية والشموع والسجائر وغيرها من المنتجات الأخرى».

وأضاف: «الشورجة أتذكرها جيدا في طفولتي، كانت محالها عبارة عن خانات كبيرة تستخدم لخزن الحبوب والبقوليات والعطاريات بأنواعها، وكانت أشبه بملتقى للتجار وأصحاب الخانات الذين كانوا يجتمعون لساعات طويلة في النهار لتجاذب الحديث وعقد الصفقات والتداول في أحوال السوق بشكل عام، ولم تكن في حينها كما هي الحال الآن محال ودكاكين صغيرة تشغلها مجموعة كبيرة من الكسبة والتجار الصغار، أما شريحة التجار الكبار فانتقلوا حاليا إلى مكاتب فخمة وحديثة في شارع الكفاح وشارع فلسطين وزيونة والكرادة، وكذلك خارج العراق».

بينما تقول أم علي، متبضعة قديمة في السوق: «إن رائحة البهارات والعطارات الزكية في مدخل السوق تجذب زوارها وتدفعهم للتجوال في داخلها والولوج في أزقتها الضيقة التي ازدحمت بالبسطيات و(الجنابر) والعربات المدفوعة من قبل الأشخاص للمتبضعين، الذين لا يسلمون كثيرا من صدمات وضربات تخلف بعض الكدمات من تلك العربات، إلا أن الخارج من السوق ينسى كل ذلك العناء والضجيج المتعالي من الباعة والعتالين، وهو محمل بشتى أنواع البضائع التي يستطيع حملها من الشورجة بأسعار مناسبة».

وتابعت: «لسوق الشورجة بعض المميزات الأخرى، إذ توجد بعض السلع والبضائع التي تندر في بقية الأسواق الأخرى، وبهذا التنوع الذي يوفر للمستهلك عدة خيارات في الشراء، كما أن رخص الأسعار عامل مهم لدى المستهلك في تفضيل الشراء من سوق الشورجة، وهو موضوع لا يخفى على الجميع، إذ نجد الكثير من المحال التجارية في المناطق الأخرى ترفع لوحات دلالة للبيع بأسعار الشورجة، بل إن سوق الشورجة أصبحت مفضلة لأسواق أخرى مثل شورجة البياع وشورجة الدورة وغيرها».

تبدأ سوق الشورجة من جوار المدرسة المرجانية المعروفة بجامع مرجان، على الجانب الأيسر لشارع الرشيد قبالة سوق البزازين، وشارع السموأل، ثم تأخذ السوق امتدادا عرضيا نحو شارعي الخلفاء والجمهورية، وتطل نهايتها على شارع الكفاح وشارع غازي الذي صار في السنوات الأخيرة شورجة جديدة تجمع بين تجارة السجائر والبورصة.

ومن معالم الشورجة القديمة التي بقيت أسماؤها متداولة حتى الآن، على الرغم من تهدم بعضها، قهوة الحنطة - وخان دجاج - وحمام الشورجة - وسوق الصغير -وسوق البقالخانة - وسوق التمارة - وسوق الفاكهة وعلاوي الشورجة، وسوق الغزل، وجامع سوق الغزل، وتحت التكية وسوق العطارين، وأسماء محلية كثيرة هي امتدادات الشورجة - المركز التجاري الكبير في قلب العاصمة بغداد.

وتعد المنطقة من المناطق التراثية، وفي الآونة الأخيرة تعرضت بعض مبانيها القديمة للهدم مثل الخانات التراثية القديمة كخان الأغا الصغير وبعض المباني القديمة الأخرى المجاورة، وقد عثر فيها على عدد من آبار الماء المالح، وهذا يؤكد أن التسمية صحيحة، ويبلغ عدد الخانات فيه 13 خانا، منها خان لإله الصغير، وخان جني مراد، وخان الأمين وخان الأغا الكبير، ومن الجوامع 4 جوامع، منها جامع النخلة وجامع النوبجي.

أما المقاهي، فقد كان هناك اثنان (مقهى المعلكة)، ذلك لأنها تقع على سطح إحدى العلاوي، وقهوة قدوري التي كان يرتادها قراء المقام، وفيها قرأ المقام عبد الرزاق القبانجي - والد الفنان المرحوم محمد القبانجي.