الحب والإخاء.. وبناء الأوطان من الدعائم الأساسية لبناء الدولة الإسلامية بعد الهجرة النبوية

في رحاب شهر رمضان.. الدعوة إلى الأخوة والمحبة في الله

TT

عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، بنى وأسس الدولة الإسلامية على أسس ودعائم قوية، كان من بينها وأهمها، الإخاء الكامل والحب الصادق في الله، الذي ساهم في الترابط والتلاحم بين الأفراد بعضهم البعض، وكان لذلك أبلغ الأثر في قوة وتماسك وبناء المجتمع الجديد.

ففي ظل هذه الأخوة والمحبة الصادقة المتبادلة بين المهاجرين والأنصار، أصبح الجميع يدا واحدة وقلبا واحدا، ولم يكن الحب والإخاء بينهم مجرد شعارات وألفاظ وكلمات مجردة تطلقها الألسنة، بل كان عقدا نافذا ساهم في إذابة العصبيات وإسقاط فوارق الوطن واللون والجنس والنسب بين جميع الأفراد، فكان الجميع يتسابقون لتنفيذ بنود هذا العقد، فلم يشعر المهاجرون بالغربة بسبب مفارقة وطنهم وديارهم وأهلهم وأموالهم، وإنما نزلوا ضيوفا كراما على إخوانهم الأنصار في المدينة، فكان الأنصار يتسابقون إلى إيواء المهاجرين وتحمل الأعباء عنهم وشد أزرهم ومؤانستهم، كما آثروا المهاجرين على أنفسهم، الأمر الذي ساهم في النهوض بالمجتمع والدولة الجديدة.

فالحب والإخاء هما الدعامة الأساسية لبناء المجتمع والأمة، وضمان لقوتها ووحدتها ونهضتها وتقدمها، ولهذا فقد أكد القرآن الكريم والسنة النبوية على الأخوة بين أبناء الأمة الواحدة، قال الله تعالى: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا» (سورة آل عمران: آية 103).

وقال تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (سورة الحجرات: آية 10) وفي المؤاخاة والحب بين المهاجرين والأنصار، امتزجت الكثير من عواطف ومشاعر الترابط والتآلف والإيثار والمودة والمواساة والمؤانسة والبذل والعطاء بسخاء وسلامة الصدر وطهارة القلب، وكان لكل هذه القيم والأخلاق الإنسانية والاجتماعية النبيلة والكريمة أثرها الفعلي في بنية المجتمع المسلم الجديد. روى البخاري في صحيحه في كتاب المناقب، أن المهاجرين لما قدموا المدينة، آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، فقال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالا، فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك، فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن، ثم تابع الغدو، ثم جاء يوما وبه أثر صفرة (طيب لونه أصفر)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «(مهيم؟) (أي ما الأمر، يسأل عن حاله)، قال: تزوجت. قال: كم سقت إليها؟ قال: نواة من ذهب). إنه سخاء وإيثار الأنصار، وإنها عزة نفس وعفة المهاجرين، هؤلاء هم الصحابة الكرام الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم تربية ربانية على القيم والمثل والأخلاق الرفيعة الضرورية لبناء المجتمعات والدول.

لقد شجع الدين الإسلامي الحنيف وأكد على أهمية قوة الترابط والتآلف بين أفراد المجتمع، على أساس من الإخاء والمحبة في الله، وقد ركزت الكثير من نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة على ذلك. فقد عد رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه (متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه). أي اجتمعا وتفرقا على الحب في الله، فالذي جمع وربط بينهما ليس عوارض ومصالح مادية دنيوية، وإنما المحبة في الله حتى الموت. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي» (رواه مسلم).

لقد بنى الرسول صلى الله عليه وسلم، دولته على الإخاء والحب الإيماني الصادق في الله، فقد ركز في دعوته في نفوس الرعيل الأول من أصحابه الكرام على دعوتهم إلى الإيمان، وجمع وتأليف قلوبهم على الحب والإخاء الكامل، فاجتمعت بذلك قوة العقيدة مع قوة الوحدة، كدعائم أساسية قوية للدولة الإسلامية في المدينة. قال الله تعالى: «وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (سورة الأنفال، آية: 63).

يقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (رواه مسلم).

لقد كانت سياسة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، التي اتبعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، سببا في تأصيل مشاعر المحبة والمودة والتآلف والإيثار في نفوسهم وقلوبهم، فأصبحوا يدا وقلبا واحدا، ولا سيما إيثار الأنصار للمهاجرين. قال الله تعالى: «وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (سورة الحشر: آية 9).

لقد ضرب المهاجرون والأنصار في إرسائهم لقيم وأخلاق الإخاء الكامل والحب الصادق بينهم، أروع الأمثلة والدروس لمعاني الإيمان والوحدة، كأسس متينة في بناء الدولة والأمة، وأثرها الفعال في النهوض والتقدم المستمر، فلا يمكن للوحدة أن تتم بغير أواصر الأخوة والمحبة الحقيقية الصادقة المتبادلة، التي تعمل على التآلف والجمع بين القلوب لتصبح قلبا واحدا.

إن مجتمعاتنا ودولنا وأمتنا الإسلامية في أشد الحاجة إلى مثل هذا الإخاء الكامل والحب الصادق في الله، الذي حدث بين المهاجرين والأنصار، فلنغتنم بركة شهر رمضان الكريم لكي نتخلق بمثل هذه القيم والأخلاقيات الإنسانية والاجتماعية الرفيعة، مع نبذ التنافر والتناحر والتباغض والأخذ بأسس وأسباب الوحدة والاتحاد، حتى تستأنف أمتنا حياتها عزيزة قوية متماسكة، قادرة على الصمود ومواجهة الأزمات والتحديات وتحقيق التقدم والنهضة والريادة بين الأمم، كما كانت من قبل.