من فينيسيا إلى القاهرة: ثابت ومضطرب

يوميات مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي (7)

يوسف شريف رزق الله وعزت أبو عوف
TT

* إذا ما كانت السينما المصرية تشعر بقليل من الثقة لأنها شاركت في مهرجاني «كان» و«فينيسيا» على التوالي هذا العام، فإن هذا النجاح الإعلامي لا يخفي معرفة الوسط السينمائي المتابع للمهرجانات ولنشاطاته وأفلامه بما يحدث خلف الواجهة. ومؤخرا تسارعت بعض الأحداث في مصر عندما قرر وزير الثقافة محمد صابر عرب إعادة اثنين من الأشخاص الثلاثة الذين كانوا يشرفون ويديرون مهرجان القاهرة السينمائي إلى الواجهة، والاستغناء عن الثالث. بذلك تمت إعادة تنصيب الممثل عزت أبو عوف والمديرة سهير عبد القادر في مكانيهما بينما تم الاستغناء عن خدمات يوسف شريف رزق الله المدير الفني للمهرجان.

* فقط من باب التذكير، يوسف شريف رزق الله هو الوحيد بين هذه الأسماء الذي يعرف عن السينما «وش وقفا»، كما يقولون. الأكثر خبرة ليس فقط لأنه كتب المادة السينمائية، ناقدا وصحافيا، لمعظم سنوات حياته، بل لأنه يعلم كل ما يمكن أن يعلمه آخرون عن صلاحية أو عدم صلاحية ما يعرض. اتصالاته الواسعة والتهامه الأفلام في المهرجانات، وحسه وثقافته الفنيين، جعلته الجندي الذي جمع للدورات الخمس عشرة الأخيرة على الأقل، ما عرضته دورات «القاهرة» من أعمال.

* وحتى لا يفقد قارب القاهرة توازنه فيغرق، تم عرض الوظيفة الشاغرة على المنتجة والمخرجة ماريان خوري التي تتمتع بثقافة موازية، فضلا عن أنها سينمائية بالمهنة، والسيدة ماريان وافقت. لكن الاحتجاجات بين النقاد والمثقفين كانت انطلقت قبل تعيينها واستمرت بعد ذلك، لأنها كانت موجهة ضد من تم اختيارهم لقيادة المهرجان، وتحديدا أبو عوف وسهير عبد القادر. فبعد ثورة الشهر الأول من العام الماضي، ساد الاعتقاد بأن المدير ونائبته لن يستمرا، تبعا لارتباطهما بالنظام السابق، في منصبيهما، وارتفعت الآمال بأن يتولى رزق الله ليس الإدارة الفنية فحسب، بل إدارة المهرجان ككل، وهذا تعرقل بدءا من مطالبة جمعية النقاد المصريين بعودة المهرجان إليها وانتهاء بإخراجه من الإدارة بأسرها.

* ما يتردد في الحديث عن ضرورة إقامة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي هذا العام، بعد غيابه العام الماضي، من أنه سيخسر صفته الدولية إذا لم تتم إقامته هذا العام. وهذا ليس صحيحا، ولو أن البعض من داخل الإدارة يتبناه ويؤكد عليه. للإيضاح، مهرجان القاهرة هو أحد اثني عشر مهرجانا دوليا منضما إلى «اتحاد المهرجانات الدولية». هذا هو الشق الصحيح. الشق غير الصحيح أن هذا الاتحاد ليس في مقدوره التدخل في دولية المهرجان من عدمها، بمعنى أنه إذا ما انسحب المهرجان منه أو تم إلغاء عضويته، فإن دوليته مسألة أخرى، وإلا لكانت ثلاثة أرباع المهرجانات الدولية، بما فيها عربيا دبي وأبوظبي والدوحة ومراكش، غير دولية؛ بمعنى أنها لا تستطيع استقبال أفلام من شتى دول العالم، لكن هذا غير صحيح. وكلمة «الدولي» ليست ممنوعة عن أي مهرجان بصرف النظر عن انضمامه لذلك الاتحاد أو لا. وربما عدم الانضمام هو أفضل لمهرجان القاهرة لأنه يحرره من شروط قاسية تكبل حرية المهرجان.

* داخل مهرجان فينيسيا، الحديث عن الثورات العربية مستمر، لكن القليلين من السينمائيين غير العرب الذين يضعون السياسة قبل السينما كما يفعل معظمنا. بالنسبة إليهم فينيسيا، كما يؤكد المنتج نيكولاس كارتييه الذي سيعرض قريبا فيلمه «الصحبة التي تحتفظ بها» (إخراج روبرت ردفورد)، هو جزء من عجلة الصناعة الكاملة حتى ولو كان الفيلم المعروض يهدف للتوجه إلى جمهور محدود. ففي نهاية المطاف، يتابع المنتج قائلا: «كل الأفلام تصنع لكي تباع، بصرف النظر عن أهدافها الفنية أو الثقافية أو الفكرية. وبالتالي فإن المهرجان الأنجح هو من يوفر للأفلام المنتقاة شرطين رئيسيين: الإعلام والضجة الاحتفائية وولوج الفيلم قنوات الأسواق المختلفة» الكاميرا تسبح وتطير مع المخرج ترنس مالك

* منذ عام 1973 حتى اليوم حقق المخرج ترنس مالك ستة أفلام فقط. كان بدأ السينما كاتبا سنة 1971، وتابع حتى مطلع هذا العقد، كتابة سيناريو أفلام عدة لم يخرجها، مفضلا عدم استخدام اسمه (من بين تلك الأفلام على سبيل المثال «قُد.. قال» Drive, He Said الذي أخرجه سنة 1971 جاك نيكولسون).

في عام 1973 أنجز «بادلاندز» مع مارتن شين وسيسي سبايسك وورن أوتس، ثم انتظر حتى عام 1978 قبل أن يحقق فيلمه الثاني «أيام الفردوس» Days of Heaven بطولة ريتشارد غير وبروك آدامز وسام شيبرد. وغاب بعد ذلك عشرين سنة قبل أن ينجز فيلمه الثالث «الخيط الأحمر الرفيع» The Thin Red Line عام 1998.

خلال تلك الحقبة الطويلة وتبعا للتأثير الإيجابي الذي حققه مالك بين النقاد والمثقفين عبر أفلامه الثلاثة تلك، كان السؤال المطروح عنه كثيرا هو «أين اختفى ذلك المخرج الذي صنع ذلك الفيلم؟». لذلك كانت عودته من غياب عقدين من الزمن بفيلم «الخيط الأحمر الرفيع» مدعاة احتفاء حقيقي، وخشية من أن يطول غيابه مجددا بعد ذلك. لكن الرجل، وللحقيقة، لم يغب طويلا... بعد سبع سنوات فقط عاد مع فيلمه الرابع «العالم الجديد»، ثم غاب لست سنوات وعاد سنة 2011 بفيلمه الأعجوبة «شجرة الحياة» التي فاز بسعفة مهرجان «كان» في العام الماضي.

كل ما سبق عجيب يذكر بفترات غياب المخرج الأميركي الآخر ستانلي كوبريك الذي كان يمضي السنوات مثل بركان هامد قبل أن ينطلق بفيلم جديد. لكن ما هو أعجب هو التالي: في السنتين الماضية والحالية أنجز المخرج مالك ثلاثة أفلام: «شجرة الحياة»، كما تقدم و«إلى العجب» المعروض حاليا و«رحلة زمنية» Voyage of Time، وهو، علاوة على ذلك، كتب سيناريو فيلمه المقبل «فارس الفناجين» الذي من المحتمل دخول تصويره قبل نهاية هذا العام.

بذلك يكون مالك صاحب أغرب خط مهني لمخرج: في 42 سنة أنجز أربعة أفلام، وفي عامين أنجز ثلاثة.

«إلى العجب» فيلم غريب بحد ذاته، على الأقل حمل «شجرة المعرفة» ملامح قصة معينة بطلها براد بت الأب الصارم، وجسيكا شاستين الزوجة الحنون، وشون بن ابن بت، الذي يتذكر اليوم ما كان حاله وحال أهله حين كان فتى صغيرا.

لكن «إلى العجب» يكاد لا يعرف القصة على الإطلاق. الملامح التي تبرر اعتبار الفيلم روائيا أقل حضورا من أي فيلم سابق له. على الرغم من ذلك الفيلم ليس تسجيليا. الحقيقة أنه ليس فيلما يشبه ما سبقه ولن يكون هناك فيلم يشبهه؛ ذلك لأن مالك مخرج فريد لم يقلد أحدا ولا أحد يستطيع تقليده.

هل يستطيع أحد أن يصف الحبكة؟ امرأة فرنسية وابنتها من زواج سابق وأميركي في قطار. متى التقيا؟ لا نعرف. فصل من المشاهد لهما وهما في معالم فرنسية. طقس شتوي. ملابس ثقيلة وكثير من الركض في المراعي وبين الأشجار العارية. همهمات. شيء من باريس، ثم الثلاثة يقطنون الآن منزلا في بلدة ما من الغرب الأميركي. تحاول الفتاة الصغيرة أن تتأقلم مع المكان لكن ثقافته وبيئته غريبة، فتقرر العودة إلى والدها. تحاول الأم إقناع الأميركي بالزواج منها لكنه ممتنع فتتركه إلى نيويورك (بضعة مشاهد من المدينة). الزوج يلتقي بامرأة أخرى كان يعرفها من قبل ثم يتركها قبل عودة الفرنسية. يتزوجان. ثم؟ هذا الناقد ليس واثقا تماما، وما سبق لم يرد نتيجة متابعة تقليدية لفيلم يحمل الفصول التقليدية الثلاث (بداية، حبكة ونهاية) بل نتيجة استشفاف مما يقع. الفيلم مليء بالصور واللقطات، وكل ما تم ذكره لا يشكل ربع عدد اللقطات المستخدمة.

الكاميرا (بإدارة إيمانويل لوبزسكي الذي صور «شجرة الحياة») لا تهدأ. هي عينا رجل ينظر كيفما أراد في أي اتجاه يرغب وفي أي وقت. لذلك تتبع، تنظر بعيدا. تعود إلى... وترفع عدستها إلى السماء أو تخفضها إلى الأرض، تماما كما لو كانت التجسيد الآلي لروح المخرج، أو هذا على الأرجح ما يريدها أن تكون. المرات الوحيدة التي تفعل ما لا يستطيع المرء فعله بسهولة هو حين تنفصل عما يدور في موقع ما على الأرض لتطير فوق مكان آخر على انخفاض. فجأة تلتهم الأرض المنبسطة تحتها. وحين يريد تسبح وتعوم أو تلعب تحت سطح الماء.

المنتج نيكولاس غوندا يقول لمجلة «سكرين» البريطانية إن هذا الفيلم دار في بال المخرج من قبل تحقيق الفيلم السابق، لكنه بعد العرض الدولي الأول لـ«شجرة الحياة» انطلق لتحقيق هذا الفيلم.

ومع أن الفيلم يحمل أفكارا سبق لمالك طرحها، مثل الغربة والوحدة والتوق إلى معرفة الحياة ودور الدين في الإنسان، فإنه لا يرضى بأن ينجز الفيلم الواحد مرتين. بمعنى أنه لن يعاد صنع فيلم قام بصنعه من قبل.

المرء يتساءل كيف يمكن له أن يصور أفكاره. حسب منتجه أيضا، يستيقظ المخرج كل صباح وفي باله «ألوف الصور والأفكار»، لذلك لا يمكن أن يكون المخرج حريصا على أن يكتب سيناريو كاملا قبل التصوير، وإذا ما فعل فإنه بالتأكيد لا يتبع ما يكتبه، بل يكتفي منه بالفكرة وينطلق لتصوير أفكاره مرسومة بالكاميرا.

وهو لا بد أنه إذ يفعل ذلك يسحب من الممثل سلاح المعرفة. يتركه غير مدرك ما هو المطلوب ولماذا هو مطلوب هكذا. في هذا الفيلم لا ينطق بن أفلك بأكثر من خمس عشرة كلمة. لا لقطة ثابتة له لكي يتولى الإدلاء بعبارة ما، أو قطع من وإلى وجهه لقراءة معالمها. فالممثل يتكل على السيناريو لفهم شخصيته وعلى المخرج للاستزادة. لكن مالك لديه القدرة على إقناع الممثل بأن المطلوب ليس تنفيذ المشهد، بل العيش في نقاط حياة هو جزء منها.

قبل أن يعرض مالك هذا الفيلم هنا، أنجز تصوير «فارس الفناجين» وهذا يدور حول مهنة صنع الأفلام في هوليوود. وبعده مباشرة سيحقق فيلما عن صناعة الموسيقى في ولاية تكساس، حيث ولد. كان عنوان هذا الفيلم «بلا قانون» (Lawless) لكن بما أن فيلما آخر حديثا استخدم هذا العنوان (فيلم لجون هيلكوت) فإن البحث جار عن عنوان آخر.

هذا بخلاف اشتراكه في إنتاج بعض الأفلام، وأحد مشاريعه في ذلك «ارتفاع النصل الأخضر» عن المرحلة الصعبة من شباب الرئيس السابق أبراهام لينكولن... لا، لن يكون من نوعية «لينكولن صائد الفامبايرز»، هذا ممنوع عليه.