المكان.. مصدر إلهام للفنانين

من قسنطينة وقرطاج والقاهرة إلى دبي المعاصرة

عمل للفنان محمد إبراهيم
TT

يعتبر المكان بكل معطياته الطبيعية والإنسانية مصدرا حيويا للإلهام وقد أفرد ابن عربي كتابات متخصصة عن المكان باعتباره أحد المفاتيح الأساسية لاكتشاف القيم الحسية وتعزيز مكانتها الروحية في الإبداع الإنساني، بينما أعطت الفنون بمختلف أشكالها المكان أهمية مضاعفة باعتباره أحد أهم العوامل التي تعين المبدع على استكشاف عالمه الجمالي والبصري وخير مثال على ذلك الفنان أوجين ديلا كروا 1798 – 1863 الذي سافر إلى إسبانيا وشمال أفريقيا واستقر في المغرب واكتشف هناك ما صار يعرف بصورة الحريم ومزيج من العادات والتقاليد التي تلزم النساء بتغطية أجسادهن بينما ازدانت ملابسهن بشاعرية الألوان المخضبة والزاهية والأشكال الرائعة وقد اعتبرت لوحته «نساء الجزائر» مصدرا مهما للفنانين الانطباعيين حتى إن بيكاسو قام آنذاك بتقليدها متأثرا ببلاغة جمالها وقد أثرى ديلاكروا عالمه الإبداعي وظل يرسم عن مدينة قسنطينة المغربية طوال ما تبقى من حياته بفعل الإلهام الذي غلب فؤاده حتى إنه قيل بعد زيارته تلك، أنتج ما يزيد على مائة لوحة وهذا أيضا بول كلي 1979– 1940 الذي وجد في مدينتي قرطاج والقيروان في تونس ملاذا لإلهامه الإبداعي بعد أن اكتشف قيم المكان الجمالية التي تعزز من شاعرية الضوء والدفء واللون معا وجد كلي ضالته التي يبحث عنها آنذاك وقال عبارته المشهورة، «أنا واللون واحد، أنا رسام» وقد زار كلي مصر وتأثر بأهراماتها.

لهذا ظل المكان واحدا من أهم العوامل المعاصرة التي يعتمد عليها الفنانون كمصدر للإلهام غير أنه يجدر القول إن المستشرقين وجدوا في روحانية الشرق فردوسهم المفقود، لكن ما الذي يبحث عنه فنانو هذا العصر في المدن الحداثية مع ازدياد وتيرة المتغيرات والتحولات الجمالية المتسارعة؟

لقد حلت المؤسسات المتخصصة في الفنون محل الرحلات الفنية الرسمية المؤدلجة وقدمت برامج دعم جديدة تعرف بما يسمى بالإقامة الفنية سعت من خلالها إلى منح الفنانين إقامة فنية في بلد ما، بمدد تتراوح بين شهور وسنوات وتتنوع تلك الأماكن بين استديوهات ومحترفات فردية وجماعية في عواصم دولية كما في مؤسسة المنصورية وهي مؤسسة سعودية تعنى بالفنون والثقافة يقع محترفها في قلب العاصمة باريس وفي مدينة الفنون الدولية تحديدا.

ويعد استديو المنصورية من المحترفات المهمة الذي استضاف كثيرا من الفنانين من بينهم السوداني محمد عمر خليل والسعوديين فيصل سمرة ومهدي الجريبي وزمان جاسم بينماهناك محترفات مشتركة بين تلك المؤسسات الفنية وبعض صالات العروض البصرية وقد قدمت مؤسسة «الشارقة للفنون» ومنطقة البستكية في الإمارات العربية المتحدة برامج إقامات لفنانين من شتى دول العالم بينهم اللبناني زياد عنتر والفلسطينية بسمة الشريف. بينما استضاف غاليري أوف لايت التابع لمسرح دبي الاجتماعي ومركز الفنون مؤخرا برنامج إقامة لمدة شهر لمجموعة من الفنانين الإماراتيين وآخرين يعيشون في دبي منذ فترة طويلة، وأيضا تمت دعوة فنانين من جامعة فلادليفا بأميركا. وينطلق برنامج الإقامة من موقف يتطلع إلى اعتبار دبي كمدينة معاصرة تتقاطع على أرضها مختلف أشكال التحولات والمتغيرات والثقافات الإنسانية والاقتصادية.

من جانبه قال المشرف العام على المعرض محمد كاظم، «ننطلق في هذه التجربة من مفهوم فلسفي واضح يعتمد ببساطة على حشد مجموعة من الرؤى البصرية من ثقافات مختلفة تلتقي جميعا للتعبير عن مشاهدات وانطباعات تحتفي بمدينة دبي التي تتجاور فيها العراقة التاريخية العربية والحداثة وأحلام المستقبل».

وأضاف: «أردنا أن يتعرف متذوقو الفنون على بعد جديد في أسلوب التعامل مع بيئة المكان تكشف عن تفاعل الفنانين مع محيط دبي الثري والمتعدد ولذلك تمت دعوتهم للإقامة في دبي والتجول في مختلف الأماكن والشوارع وتمكينهم من إبراز انطباعاتهم بطرائق فنية جديدة وقال إن الإقامة تحمل في طياتها دعوة واضحة للانتماء والصداقة».

إذن معرض دبي المعاصرة اتخذ من المكان محورا مهما للإلهام والإبداع، لكن هذه المرة ليس على غرار الرحلات التي سبق ذكرها في بداية المقال بل كما قالت كريستيانا دي ماركي الفنانة المشاركة والتي كتبت مقدمة كراس المعرض إنه أشبه بتأليف بوليفوني بأصوات متعددة، «البوليفونية» هي علم وفن في الكتابة الموسيقية يجعلنا نستمع إلى كثير من الخطوط اللحنية في الوقت نفسه، وعززت دي ماركي من هذه الصورة باعتبار أن تعدد ثقافات المشاركين في برنامج الإقامة سيسمح لهم بإنجاز أعمال فنية حول مدينة دبي كنغمة رئيسية بينهم بينما ستعدد الأصوات البصرية بما يشبه صوت الكورال، لكن لكل منهم شخصيته الصوتية المميزة.

ولمحت دي ماركي إلى تجربة الإماراتي محمد إبراهيم الذي يعيش في منطقة خورفكان وقد شكلت هذه المنطقة المعزولة والتي تتمتع بأرض جافة للفنان عنصرا جدليا في عمله الفني إن لم يكن في شخصيته منذ مطلع التسعينات فنرى فيها أشجارا مغلفة وحجارة في شبكة معدنية وأخرى متشكلة من دوائر وأخرى من البذور والتربة مغطاة بمواد استهلاكية وجاءت تجربة لو جين يون من كوريا في استكشاف قدرة المجتمعات على رؤية الأشياء في سياق خارج ما تفرضه عليهم العادات والتقاليد والقواعد المسلم بها كما لو أنها تابو لا يمكن المساس به ويسعى يون في أعماله إلى مساءلة هذه المحددات وإنتاج أعمال على نحو ما يمكن أن تكون عليه بالنسبة لهم وليس بالضرورة على نحو ما تفرضه العادات في البيئة التي يعيشون فيها بينما استهدفت أعمال حسن شريف الإماراتي معالجة المواد الاستهلاكية وفق طقوسه الحسية الساخرة للبيئة التي تتكاثر فيها تنويعات من تلك المواد المفرطة وهي مسألة يعيد من خلالها تدوير إنتاج ما هو مستهلك إلى فن.