أحوال عربية شائكة من تونس والجزائر

أبوظبي: محمد رُضا

المخرج نوري بوزيد
TT

إذا ما صح التوقع فإن فيلم المخرج التونسي نوري بوزيد هو الذي سيخرج بالجائزة الأولى بين الأفلام العربية، أو بكلمات أوضح: لا بد سيخرج بجائزة ما كونه أفضل فيلم عربي معروض. إنه اليوم ما قبل الأخير لأفضل دورات هذا المهرجان. تبعا لما تم تسجيله من وقائع عبر تاريخه، وحسبما لمسه هذا الناقد في العام الماضي حين أم المهرجان للمرة الأولى، فإن هناك نقلة جيدة متمثلة في هذه الدورة الأولى تحت إدارة علي الجابري، ليس من حيث نوعية الأفلام العربية بحد ذاتها، فغالبها جاء مخيبا للآمال، لكن من حيث التنظيم والديناميكية والإدارة الفنية لكل شيء. كما من حيث التنوع الكبير الذي يضم، من دون حدود مصطنعة، بين الأفلام العربية والأفلام العالمية على تنوع كل منها الشديد.

خيبة الأمل ليست في شكل رئيسي من مسؤولية المهرجان أو مبرمج القسم العربي انتشال التميمي، هذا الزميل انطلق من دون تأخر في جمع الأفلام التي أتيحت وأسهم في تفعيل الحوارات التي تلي العروض وإدارة المؤتمرات بالحماسة ذاتها، بل هي مسؤولية السينما العربية التي كانت تغط في نوم عميق قبل ربيع الثورات والآن تغط في نوم عميق بعدها. طبعا الاستثناءات، وبينها فيلم نوري بوزيد، موجودة، لكن ما تم عرضه على نحو عام جاد من دون أن يكون جيدا والجد لا يصنع فيلما جيدا وإلا لكانت غالبية المعروض جيدا.

فيلم بوزيد يأتي في أعقاب الربيع التونسي وأحداثه في أتونها. يبدأ الفيلم وقتال الشوارع بين قوات النظام والثائرين عليه محتدمة واليد العليا حتى بدء الفيلم لقوات النظام التي نراها تنهال على المتظاهرين بالضرب المبرح. البداية دفقا من لقطات العراك والهروب واللجوء إلى داخل المباني هربا من بطش القوات النظامية ونظرات الخوف التي تعتلي الأعين وهم يتابعون ضرب أحد المتظاهرين ثم موت آخر قريب.

بعد ذلك، ينبري المخرج بموضوعه في اتجاه آخر وإن لم يكن بعيدا. «مانموتش» هو دراما اجتماعية على خلفية الأحداث الدائرة وفحواها يتمحور حول فتاتين صديقتين (سهير بن عمارة ونور مزوي) واحدة محجبة والثانية لا تؤمن بالحجاب وكلتاهما خامة صالحة وتعملان معا في مطعم. المحجبة تتحاشى الاحتكاك مع صاحب المطعم الذي يتحرش بها، أما الثانية فهي مخطوبة لتونسي عائد من هجرة سنوات في باريس. لكنه عائد بعقلية مثيرة فيما يتعلق بحرية الفتاة المخطوبة إليه، ففي حين هو أبعد عن ممارسة الشعائر ويسمح لنفسه بالشرب، إلا أنه يريد من خطيبته أن تتحجب، مدعيا أن والدته هي التي تريد ذلك. يساعده في ذلك شقيقها الخارج من السجن معتنقا التعاليم المتطرفة والذي يحب الصديقة المحجبة. يلج الفيلم من هنا مشكلات كل فتاة مع محيطها ومشكلاتهما معا مع المحيط العام، وهو بذلك عمل رئيسي يتجاوز عثرات أفلام تونسية ومصرية أخرى تناولت موضوع الحياة الاجتماعية في وسط الظروف الحاضرة.

لكن المشكلة التي يعاني منها هذا الفيلم هو تكراره مفارقات لا تضيف فوق ما تم الحديث فيه. الطرح الذي نراه في الدقيقة الخمسين مثلا كان تم طرحه قبل ذلك بربع ساعة. الفيلم لا يتصاعد، لكنه يستمر وبوضوح. ما ينقذه هو الإخراج من ناحيته التقنية والفنية وتأطير مشاهده وتصميم حركة الكاميرا كما تمثيله الجيد والتلقائي من قبل الجميع بلا استثناء. وكما في أفلام بوزيد الأخرى، كل واحد يريد من الآخر شيئا لا يستطيع الآخر تقديمه. الجميع يدور في رحى تلك الإرادات صغيرة وكبيرة والفيلم، إذ يسند بطولته لشخصيتين نسائيتين يذكر قليلا بالفيلم الروماني الحديث «وراء الهضاب» (راهبة في كنيسة تشترك في محاولة فرض التدين على صديقتها). في «مانموتش» (الذي ينتهي بمشهد يموت فيه المخرج الذي يلعب دورا صغيرا كلاعب أوكارديون أعمى) الفرض ممارس على المتحررة من قبل شقيقها وأمها وخالتها، قبل أن تعترف الأخيرة بأن هذا هو طريق خطأ ويعترف الشقيق بأنه بات يفهم أكثر معنى الحرية الفردية التي تتحمل تبعات ما تقوم به.

«مانموتش» فيلم قوي في بنائه وفي توجيه أحداثه صوب ذرواتها وذلك على الرغم من ذلك التكرار المشار إليه. وهو أحد ثلاثة أفلام عربية في المسابقة الرئيسية (الآخران «الحراقة بلوز» و«عطور الجزائر» لرشيد بن حاج وكلاهما جزائري). لكن المسابقة الثانية الواردة تحت اسم «آفاق جديدة» تحتوي على خمسة أفلام من إخراج عرب بينها «المواطن» و«لما شفتك» اللذين وردا معنا في تقارير سابقة.

من المثير رد الفعل المتباين على الفيلمين: رفض في غير موضعه تماما للأول ورفض في موضعه تماما للآخر. بالنسبة لفيلم «المواطن» فإن المحور الثابت اتهام مخرجه بأنه «باع نفسه لهوليوود» وصراحة، يتمنى هذا الناقد لو أنه فعل ذلك حقا. هذا الفيلم لا يكفي لعبور المسافة الضوئية الطويلة بين التجربة الأولى والوصول إلى هوليوود، ليس قبل أن يتاح له العرض التجاري ليثبت لأهل هوليوود جدارة المخرج. إذا ما نجح الفيلم نقديا وجماهيريا ولو بحدود متفاوتة، ربما استيقظ مخرجه على رنين هاتفه يخبره بأنه مطلوب في ستديو باراماونت أو كولومبيا. أما إذا لم يحقق هذه الخطوة فإن عليه أن يجهد من جديد لتحقيق فيلم ثان يقربه من هذه النتيجة أكثر.

ما لا يدركه كثيرون هنا هو أنه لا جدوى من أن تذهب لتحقيق فيلم هوليوودي وفي بالك أن تحقق فيلما فنيا. تستطيع تحقيقه من دون سفر. في أميركا تحقق الفيلم الذي يبني لك قدما في الداخل. بعد عشر سنوات يمكن له، إذا ما أراد، إنجاز فيلم يعجب كل النقاد.

بالنسبة لفيلم «لما شفتك» فرد الفعل جامعة أكثر من الحال الأول، وهي لا تبتعد عما ذكرناه هنا أمس في نقدنا للفيلم.

هذا الإجماع تبلور أيضا في مواجهة الفيلم الجزائري «الحراقة بلوز» لموسى حداد. عرض ليل أمس وبعض النقاد تسلل منه بعد منتصفه تباعا ومن بينهم من لم يعرف عنه عدم تكملة فيلم للنهاية. هذا الناقد تحمل حتى النهاية متململا في جلوسه كلما لاحظ زملاءه يغادرون أماكنهم. ليس أن الفيلم رديء، بل لأنه ركيك. والفارق كبير. هنا لدى المخرج حداد خامة درامية رائعة، موضوع جيد وآني، ثم تطبيق ركيك لحواشيه المختلفة. حكاية صديقين يرغبان في الهجرة إلى إسبانيا رغم أنهما لم يحصلا على التأشيرة مما يعني أن طريقتهما الوحيدة غير شرعية (الحراقة تعني هجرة غير شرعية) عبر البحر. أحدهما سيغادر خلال أيام وهو على علاقة حب مع فتاة تعمل في شركة، والثاني لاحقا ريثما يجمع المال. هذا الخط الأصلي تتفرع منه الحكايات الجانبية والمشكلات الفرعية التي سريعا ما تستولي على الفيلم. فالأحداث ذات حس ميلودرامي في الصميم وتلفزيونية في الشكل وخالية من أي بارقة فنية في كل الحالات.

المخرج نفسه يعود بعد غيبة عقود. كان أحد العاملين في صرح السينما الجزائرية إبان الاستقلال (له فيلم آخر معروض هنا هو «عطلة المفتش طاهر» أنجزه سنة 1972) وهو يحمل إمارات عمله ذا المنحى والمعالجة الكلاسيكية إلى اليوم بعناصرها التقليدية التي ربما ناسبت الجمهور حينها. أما جمهور اليوم المعتاد على حدة العمل والباحث عن شكل ومعالجة جديدتين فسيبتعد عن هذا المنوال الذي لا يحقق المرجو.

قبل أعوام ليست بالبعيدة أنجز الجزائري الأحدث مرزاق علواش «حراقون» الذي كان أفضل على أكثر من ناحية بما فيه نقل الصراع من الأرض إلى البحر بين غرباء يشتركون في هدف مجهول. هنا يمضي المخرج معظم وقته على اليابسة وحين ينتقل إلى البحر فإن تلك النقلة لا تكون سوى مفصل يخفق في أن يأتي كذروة.